أنْ تحضرَ جميلاً، ليس بعيداً في أنْ تكونُ هذه حقيقتكَ أيّها الإنسان! فمتى ما كنتَ قادراً على أنْ تملكها، كنتَ قادراً في الوقتِ نفسه على أنْ تملكَ ذاتك. فالإنسان في جوهرهِ الأخلاقيّ، باحثٌ دؤوب عن ذاته في كلّ ما يربطها بهذه الحقيقة. حقيقة أنّه أصبح يرى في المشترك الإنسانيّ، باعثاً على استنطاق وجودهِ، وفقاً لإرثهِ المعرفيّ الذي يتلخّص في كوْن الإنسان، يبقى مالكاً لذاته واختياره وقراره وحريّته.
وامتلاك هذه الحقيقة يعني في الأصل، أنْ يمتلك الإنسان وعيه الذي يجعلهُ يصون ذاته من الانغلاق والتعصَّب والجهل والجمود والكراهية، تحقيقاً مدركاً لِفلسفة الرقيّ الإنسانيّ. ولذلك كان عليهِ أنْ يسعى دائماً إلى أنْ يعمل على إيجاد مشتركه الإنسانيّ مع الآخر، سعياً خلاّقاً لترسيخ قيم الجمال والحرية والحبّ والتسامح والإبداع والتعدَّد.
وفي حضوركَ جميلاً، تحضر إنساناً يعرفُ جيّداً كيف عليهِ أنْ يكون معرفيّاً في توافقه الخلاّق ما بين ذاته والحقيقة. إنّه التأسيس المنطقيّ لفكرة الإنسانيّة في حضورها الثريّ، حين تُعلي من شأن المعرفة طريقاً حرَّاً للحقيقة، وتهتمُّ بالحقيقة فتحاً ملهماً للمعرفة. وما تشعر به الذات وهيَ تسعى للحقيقة، مقدار ما تحملُ في أعطافها مِن فهمٍ، يضعها في صميم تجربتها المعرفيّة، ويدفعها تالياً للتوافق في ما بينها وبين الحقيقة. التوافق الذي يتصالح مع الحقيقة، كونها جمالاً في الطليق مِن الانفتاح الحرّ، وكونها ضوءاً في مسارب التفكير، وكونها ملاذاً حقيقياً للتفكّر والخيال والالهام والتّقصي. إنّها، أيّ الحقيقة في كلّ هذا المخاض الخلاّق، تحرَّر الذات مِن الترهل والجمود والتراجع والانغلاق والتعصَّب، وفي الوقت ذاته تبعث الإنسان جميلاً في حضوره الإنسانيّ، مِن حيث إنّه أصبح يجد في خلاصهِ المعرفيّ الحرّ، سبيلاً إلى فهم الآخر، انطلاقاً من الحقيقة في انفتاحها الطليق على التنوّع والحريّة والجمال والتفنّن.
وكم يجدر بكَ أيّها الإنسان أنْ تعرفَ كيف عليكَ أنْ تخرجَ من سجون جدرانكَ القامعة، ومن سقوفك المنخفضة ومن عتمة كهوفكَ، لكي تشعر أنّ السماء من فوقكَ شاهقةٌ جداً، تتّسع كثيراً لِشساعة التلوينات الفسيحة، ولكي تستطيع أنْ ترى الأشياء من حولك، وهيَ تزهو تفتّحاً وألقاً وبريقاً في جمال التنوّع والانفتاح والاختلاف والتحرَّر، ولكي تملك من إنسانيّتكَ جميل حضورك، الذي يبعثكَ حضوراً خلاّقاً في أجمل معاني التسامح والنبل والتهذيب، فمن لا يستطيع أنْ يخرج من آفاقهِ الضيّقة والمعتمة، يسرفُ كثيراً في حماية ما لديه من تعصَّبٍ وانغلاقٍ وتوحشٍ وتراجع، لأنّه يرى في الآخرين تهديداً لذاتهِ القابلة والقانعة بِالعقائد والثقافات السالبة لحريّته وفكرهِ واختياره وقراره وإرادته، بينما مَن يجيئون جمالاً وانفتاحاً وتحرراً، يكشفونَ عن براعة الحياة في تجلّيات الافاق المشرعة على الجمال والحريّة والحبّ، ويعرفونَ كيف عليهم أنْ يكونوا بشراً أخلاقيين، لأنّهم في كلّ ذلك يملكونَ أنْ يستخلصوا من وجودهم، جمال المعاني في الحياة الدافقة بالعطاء والحركة والإبداع والتجديد.
إنّنا عادةً ما نتوهّم، بأنّنا قد عثرنا على أجمل ما في ذواتنا، ونتغاضى في المقابل عن ما لدى الآخرِ من جمال الأخلاق والشعور. ولذلك أجد أنّ مَن يسعى إلى اكتشاف الأفضل ما لديه، يكونُ في المقابل قد اكتشفَ الأجمل ما لدى غيره. ومن هنا أستطيع القول أنّ أولئك الذينَ يتركونَ شيئاً من جمال مشاعرهم في أعماقنا، نعود نراهم دائماً في أجمل مشاعر الشّوق إليهم. إنّهم حين يتركونَ شيئاً من مشاعرهم في أعطافنا، يتركون معها أشياءً من أشواقهم، وأشياءً من الحبّ في قلوبهم ، لأنّهم يرون في حضورهم حضورنا، ولأنّهم في حضور الإنسان جميلاً، يحضرونَ جمالاً في مشاعرهِ وأخلاقهِ وحبّه وعاطفته. إنّهم يعرفونكَ من إنسانيّتك وليس من دِينك، ويعرفونكَ من أخلاقكَ وليس من مذهبك، ويعرفونكَ من نظافتكَ وليس من عقائدك، ولذلك عندما تعثر على الكثير من الجمال الذي فيك، ستجد أنّ أجمل الذي فيك، في الكثير عندهم، وهكذا أنتَ تحضر جميلاً في الجمال الذي فيهم، ويحضرون جمالاً في الجمال الذي فيك، ويحضر المشترك الإنسانيّ الذي بينكما، في أجمل تجلّياته الأخلاقيّة والشعوريّة والفلسفية والثقافيّة، لأنّه المشترك الذي يُعلي من قداسة الإنسان عقلاً وفكراً وأخلاقاً وشعوراً وحضوراً.
فنّ الحياة، كما أحسبه دائماً، هو فنّ التعالق والتقدَّم الأخلاقيّ مع الآخر. إنّكَ لا تستطيع أنْ تخلقَ مِن الحياةِ فنّاً، ومن الفنّ حياةً، إلاّ حينما تجد أنّ الآخر يملكُ في أنْ يمنحكَ من أخلاقهِ أخلاق الثّقة الكاملة، في أنْ ترى نفسكَ على نحوٍ جديدٍ وأجمل، وهو الآخر لا يحضر جميلاً، إلاّ حينما يرى ذاته وقد تعالقتْ وتقدَّمتْ أخلاقيّاً مع وجودك، إنكما في هذا الفنّ من صناعة الحياة الجميلة، تتشاركان في تقديم الأخلاق، على إنّها جوهر المشترك الإنسانيّ بينكما، أخلاق التكامل الذي يتأسَّس إنسانيّاً على فنون التوافق الشّعوريّ، والتداول والتبادل الثقافيّ، والانسجام العاطفيّ، وإنّكَ في هذا التكامل الأخلاقيّ، تستطيع أنْ ترى في الآخر جانباً جميلاً تزخر به أعماقه، والآخر يستطيع أنْ يتحسَّس جانباً جميلاً في أعماقك، فالأمر يتوقّف دائماً على جمالية التكامل الأخلاقيّ في صناعة فنّ التعالق الإنساني بينكما، بحيث إنّكَ تستطيع أنْ تشعر بما عليكّ أنْ تشعر به جميلاً تجاه نفسك، حينما تتكامل حضوراً أخلاقيّاً مع الآخر، والآخر أيضاً يستطيع أنْ يشعر بما عليهِ أنْ يشعر به جميلاً تجاه نفسه، حينما يتعالق معك أخلاقيّاً في فنّ التكامل.
وشخصياً أعتقد أنّ في أيّ حقيقة ما، دائماً هناك جانبٌ أبيض، وقد يتّسع لِحقيقةٍ أجمل وأنصع. لأنّه الجانب الحافل بالنوايا الإنسانيّة البيضاء، وعادةً ما يتجسَّد هذا الجانب في سلوك أولئكَ الذين لا يكترثون بالأشواك والأقاويل الفارغة، ولا يلتفتونَ إلى الأدلجات الطنانة والمذهبيّات الخانقة وبريق الأضواء الزائفة، فنراهم ينثرون الورد والحبّ والضوء هنا وهناك، ويمضونَ خِفافاً إلى اشتياقاتهم وأفعالهم وتطلعاتهم، وفي قلوبهم من دفق الحياةِ، أحلامٌ وآمالٌ وأمنيات، إنّهم يرون في الامتنان لك ولغيرك بالمحبّة والسعادة ما يبعثهم إنسانيين، يحضرونَ اعترافاً بِجمال حضورك إنساناً في صناعة الحياة الجميلة، الخالِية من التشوّهات والزيف والنفاق والتعالي، وحتّى لو اختلفتَ معهم في الرأيّ، إلاّ أنّهم يبقونَ معك دائماً، لأنّهم يحملون جمالاً في القلب وتنوّراً في الفهم، ولا تستطيع إلاّ أنْ تكون أيضاً ممتناً لهم، لأنّهم يشاركونكَ بمحبّةٍ وودٍّ وصدق، ذلك الجانب الأبيض من حقيقتكَ وحقيقتهم.
وكم أحسبُ أنّ الحياة تصبح ممكنة، إذا ما تركناها حرةً ورشيقةً، تنسابُ بالتنوّعات والألوان في عقولنا ومشاعرنا، وكم ستكون قاتمة وجامدة ومتراجعة، إذا ما جعلناها تندرج تحت لونٍ وتفكير واعتقاد واحدٍ وأوْحد، إنّها في هذه الحالة تموت من فورها، ولا تملكُ شيئاً من أسباب الألق والحريّة والشساعة والتنوّع، وكم يصبح الإنسان فيها عاجزاً وبائساً، لا يشعر بلذة الجمال في التنوّع والتعدد والرحابة، فالحياة عموماً تمضي ولا تكترث بِمَن لا يجاريها أو لا يحبّها، ولذلك أولئكَ الذين يحضرون جمالاً في تنوّعاتها وألوانها ورحابتها وسفوحها الطليقة، يدركونَ أنّ سعادتهم تعني أنْ يروها تتمثّل جمالاً في عيونهم وفي عقولهم ومشاعرهم، فأجمل ما يمكن أنْ يفعلوه، وهم في تدفقات الحياة، أنْ يروا إبداعاتهم وانجازاتهم وتطلعاتهم وآمالهم تكبر دائماً في ما يحبّونَ من حياتهم، ويملكون في الوقتِ ذاته مهارة التواصل الخلاّق مع كلّ مِن يشاركهم متعة هذه الحياة حضوراً وإبداعاً وتفنّناً ورغبةً، وكلّ ذلك يجعلهم يحافظونَ على بقاء الحياة، دافقة بالجمال والتخلّق في نبضهم وشعورهم وأفكارهم.
وقد نتساءل: لماذا الورد يحضر جميلاً دائماً؟ نستطيع أنْ نقول من غير اسرافٍ أو مبالغة، لأنّه لا يعرفُ غير لغة الحبّ، فالحبّ في حضورهِ، لغته وعنوانه وصفته وعلامته الفارقة، ومتى استطاع الإنسان امتلاك الكثير من الحبّ تتضاءل كثيراً الكراهية في شعوره ومشاعره ولغته وحياته، لأنّه يحضر بالقدر الوافر من الحبّ، والذي من خلاله يستطيع أنْ يجد فيه إنسانيّته وعاطفته وشعوره ورغباته، وحتى أحلامه، ولأنّه باتَ يعرفُ أنّ حضوره جميلاً يتقلّد الحبّ عنواناً وصفةً وسلوكاً، يجعله مدركاً لحاجتهِ إلى أنْ يكونَ سعيداً ومنشرحاً ومنفتحاً في حياته وفي علاقتهِ مع الآخر، وبذلك يمضي إلى غدهِ مفعماً بما يحقّقه من حبٍّ لغيره ولنفسه ولوجوده، ويكون في الوقتِ نفسه، قد امتلكَ ما يكفي من الحبّ والحياة واللحظات السعيدة، يتداوى بها ثباتاً واصراراً في مواجهة الكراهية هنا وهناك.
لن تعيشَ أيّها الإنسان بائساً أو تعيساً ما دمتَ قادراً على منح الحبّ لِغيرك، لأنّكَ في هذا الجانب من إنسانيّتكَ تعرفُ كيف عليك أنْ تحبَّ ذاتك أولاً، طريقاً إلى محبّة غيرك، وكيف عليكَ أنْ تحضر جميلاً أمامها ثانياً، وإنّك في كلّ ذلك تعرف جيّداً كيف عليكَ أنْ تصغي لذاتك، وهيَ تقودكَ خلاّقاً إلى أنْ تبحث عن الجمالِ في ذات الآخر، وتعرفُ أنّ الأشياء الجميلة في أعماقك وأعماق غيرك، ومن حولك هنا وهناك، لا تخلو من العظمة والبهاء، لأنّها دائماً ما تبقى حقيقيّة في إدراكاتها للمعاني الفسيحة والملهمة والخالقة، وهذه المعاني التي تجدها تأخذكَ إلى الجمال، هيَ ذاتها التي تحسبُ إنّها تستطيع العودة بكَ إلى الأجمل في ذاتك، وتضعكَ مجدداً في صميم الحبّ والحريّة، وتبعثكَ جميلاً في حضورك الإنسانيّ.
فهي باختصار تجعلكَ إنساناً تستطيع بكلّ ما تملكُ من إنسانيّة الشعور بالحبّ والجمال، ألاَّ تحضر كارهاً أو شاتماً أو لاعناً، أو حاقداً أو جاهلاً أو متسلطاً أو عنيفاً أو مبغضاً، أو مستبداً أو منافقاً أو وقحاً أو متعالياً، فتحضر جميلاً، وترى في إنسانيّتكَ جمالاً وتهذيباً وتحضَّراً.
كاتب كويتي
Tloo1996@hotmail.com
مقال رائع ينضح بالخير والحب والإنسانية ، وقد سبر أغرار تناقضات الفرد المؤدلج المغلوب على أمره وإرادته ، فعلاً فالحقيقه هي الأسمى لا التضليل ، وجمال الورد يعلمنا الحب كما أشار الكاتب ويبعدنا عن الكراهيه