في مقطع فيديو انتشر هذا العام على وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان يَظهرُ رجل في سيارة يلعب دورين: مدرّب سواقة وتلميذ، في مشهد ساخر بملامح جادة يسلّط الضوء على فوضى السير في لبنان — أو يمكن قراءته كصورة تهكمية لشعب صاغَهُ الانهيار الحاصل في البلاد.
هذا المشهد يلامس الحقيقة لكل من جرّب السواقة في بيروت، حيث تبدو الشوارع كخليّة نحل باغتها للتو هحوم ما. الجميع يناور ويلسع، يندفع في كل الاتجاهات. كوني بيروتية الأصل أعيش اليوم في كامبريدج، بولاية ماساتشوستس، أحاول أن أقاوم حين أزور لبنان، لكنني أتحول إلى جزء من هذا السرب لأن الطريق يفرض ذلك. قوانين السير تُعاد كتابتها دقيقةً بدقيقة. سائق تاكسي يتوقف للتفاوض مع راكب في وسط الطريق بينما تنتظر السيارات خلفه؛ دوّار يتحوّل إلى مبارزة بين سيارات متصادمة؛ مشاة يخطون من الرصيف لعبور الشارع ليُفاجَأوا بسيارة مسرعة نحوهم.
السواقة في بيروت هي مثال يومي على كيف كففنا نحن اللبنانيين عن الاعتقاد بأننا مدينون لبعضنا البعض أو لبلدنا المتفكك بأي شيء. منطق سرب الحشرات في الطريق هو نفسه الذي يحكم سياستنا، حيث يبدو المسؤولون المنتخبون وكأنهم جميعاً يندفعون عشوائياً إلى الأمام. لم تعد لدينا ثقة بالنظام، بل فقط بمناوراتنا الفردية. الحَسرة صارت عادة متجذّرة في الجسد.
السواقة هي انعكاس لجمود مجتمعنا الدائم، بل ولعطبٍ أعمق: إنها تكشف أننا فقدنا الخيط الذي يربطنا ببعضنا البعض، وأن الطريق الوحيد إلى الأمام هو أن نقطع الطريق على غيرنا.
كيف وصلنا إلى هنا؟
الإخفاقات السياسية والمؤسسات المنهارة تتحمل جزءاً من المسؤولية. فقد عانت مؤسسات لبنان من صعوبة التعافي منذ الحرب الأهلية، التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990، وأودت بحياة ما يقدَّر بـ150 ألف شخص. ومؤخراً، جمدت المصارف الودائع في الانهيار الاقتصادي عام 2019، ما قضى على مدخرات الناس وأغرق معظم البلاد في الفقر. وبعد أشهر قليلة، وقع انفجار مرفأ بيروت، أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، فقتل ما لا يقل عن 235 شخصاً، وأصاب الآلاف، ودمّر جزءاً كبيراً من العاصمة.
إلى جانب تلك الكوارث، شهدنا تآكلاً بطيئاً ومستمراً في الثقة والمساءلة والوظائف الأساسية. فخدمات الدولة تكاد تختفي بالكامل. أجهزة الصرف الآلي متقلبة، المحاكم متراكمة القضايا لسنوات، والمكاتب الحكومية تعمل بميزانيات ضئيلة وبلا رقابة تُذكر. ما تبقى هو بلد صار فيه الخلل هو القاعدة، والبقاء يعتمد على الالتفافات والحلول المؤقتة.
زارني أحد الأقارب من الولايات المتحدة مؤخراً، وسألني أثناء إقامته لماذا كانت هناك شاحنات مياه متوقفة أمام بعض المباني في بيروت. نظرت ثم رفعت كتفي قائلًا: “إنهم يوزعون الماء”. بدا عليه الارتباك. حينها أدركت أنه يحتاج إلى سياق. ففي لبنان، المياه غالباً لا تصل عبر الحنفيات إلا إذا دفعت لمورّدين خصوصيين كي يجلبوها. يقوم العمّال بجر الخراطيم عبر السلالم لملء الخزانات على الأسطح. والأمر نفسه مع الكهرباء: معظم من يستطيعون يتحملون كلفة الاعتماد على المولدات الخاصة.
لفترة وجيزة، بدا أن التغيير ممكن. بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول، انخرط حزب الله، الفصيل المسلح الذي يمتلك نفوذاً هائلاً في لبنان، في الحرب. وجهت إسرائيل ضربات مدمرة للتنظيم وراعيه، إيران، وفجأة بدا أن المنطقة تنقلب. تقاربت سوريا الجديدة مع الغرب، ضعفت إيران، حصل لبنان على رئيس جمهورية ورئيس وزراء يحظيان بالاحترام، وتحدث الدبلوماسيون عن نزع سلاح حزب الله بالكامل. للحظة، شعرنا أن التغيير قد يأتي أخيراً.
لكن بعد شهور طويلة، لم يتبدل الكثير. حزب الله ما زال مسلحاً، إسرائيل ما تزال تحتل أرضنا في الجنوب وتواصل قصف أجزاء من البلاد، وقد قتلت أكثر من 100 مدني منذ وقف إطلاق النار مع لبنان قبل 10 أشهر، بحسب الأمم المتحدة. وما زال المانحون الدوليون يربطون أي مساعدات حقيقية لإعادة إعمار لبنان وتعافيه بنزع سلاح حزب الله واستعادة الدولة سلطتها الكاملة — وهي شروط فشل القادة اللبنانيون في تلبيتها — مِراسنا في فن البقاء يمنعنا من تصديق نصدق أن التغيير سيمكن لصالحنا.
لم نعد في سقوط حر، لكن الكثير ما يزال محطماً. الفاسدون ما زالوا في مواقعهم. نحن عالقون في الركام، لكننا نتظاهر بالعكس. هنا، الانهيار لا يعني التغيير، بل التكيف مع شروط أسوأ. نسميه صموداً، لكن متى يصبح الصمود إذعاناً؟ ومتى يتوقف التكيف عن كونه قوة ويصير فخاً؟
تزذهر العبثية في بلد يُدَبِّرُ فيه القليلون حالهم ويكافح الباقون للبقاء. وإذا أردت أن ترى ما يبدو عليه ذلك، فما عليك إلا أن تخطو داخل مطعم “إم شريف ديلي”. يقع المطعم في وسط بيروت الجديد اللامع، بشوارعه العريضة، وأرصفته الوسطية المشذبة، وأبراجه الفاخرة. يكاد يبدو وكأنه مدينة أخرى تمامًا.
لا يشبه “إم شريف” أي “ديلي” بالمعنى الأميركي — لا طاولات “فورميكا”، ولا عمال يرتدون المرايل ويقطعون اللحم، ولا أباريق قهوة باهتة. إنه أقل شبهًا بمحل السندويشات وأكثر شبهًا بتجربة مخصّصة لمن يستطيع دفع ثمنها. تطفو الفرنسية والإنجليزية في الأجواء. نُدُل بقمصان بيضاء مكوية يقدمون ميني سندويشات بسعر 20 دولارًا. حقائب يد من ماركات فرنسية تستقر باسترخاء على الطاولات. في الخارج، يسوق سائقو المطعم سيارات رباعية الدفع تبلغ قيمتها ما يعادل سنوات من أجورهم. أطفال حفاة مغبرّون، لا تتجاوز أعمار بعضهم الثلاث سنوات، يتنقلون بين السيارات طلبًا للنقود.
تعيش دولتان الواحدة فوق الأخرى: واحدة محصنة بالمولدات والسائقين والمستورَدات من كل شيء، وأخرى متروكة لحالها لكي تسعى للبقاء في الهوامش. وما يثير القلق ليس مدى صدمة المشهد، بل مدى اعتياديته. تمامًا كما نعبر تقاطعات الطرق من دون أن ننظر.
في إحدى رحلات الصيف الأخيرة إلى الشاطئ مع ابني البالغ 15 عامًا، مرّ الطريق بموقع انفجار المرفأ — أُزيل معظم الركام، لكن لا شيء أُعيد بناؤه — ثم مرّ بجُرح آخر توقفنا عن رؤيته: الموقع الذي اغتيل فيه رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بسيارة مفخخة عام 2005.
سألني ابني بصوت خافت: “هل الذين فعلوا ذلك في السجن”؟
لم أكن متأكدة أي مأساة يقصد. أطلقت ضحكة قصيرة، لا لأن السؤال كان مضحكًا، بل لأنه بدا عبثيًا أن يُطرح أصلًا. ثم أدركت: العبث الحقيقي كان في رد فعلي. فعندما نتوقف عن البحث عن إجابات، تصبح القدرة على التكيف فخًا. عندها فقط ندرك أن شيئًا لا يتغير، سوى إلى أي حدّ قمنا نحن بخَفض توقعاتنا، وطموحاتنا!
نقلاً عن نيويورك تايمز، ترجمة الشفاف. أنظر الأصل هنا:
The Chaos of Driving in Lebanon Tells a Story of a Country Unraveled
