العنوان “هي فوضي”، إما اعتراف بواقع وإما استنكار واستفهام. فالقاهرة نموذج للفوضى. تمكن أصحابها بجدارة من جعل الفوضى قانونا ونظاما وأمر واقع. وهو ما لا تأخذ به باقي الشعوب. فالفوضى ليست شطارة إنما عدم فهم لمعني النظام أو أسلوب من أساليب الفهلوة. يؤكد به أصحابه لأنفسهم قدرات علي تجاوز الصعوبات التي خلقوها لأنفسهم سابقا. لكن يفوتهم انه كلما تجاوزا مأزقا بشكل فهلوي كلما صعب مأزقهم التالي حتى ينتهي الأمر إلي وضع يكتشف فيه الفهلوي انه ليس حلالا للمشاكل فيستسلم. وهو وضع يحتاج إلي ضمير سياسي واجتماعي وأخلاقي للاعتراف قبل أن يقدم تبريرا آخر يحاول فيه الإفلات من الاعتراف بفقدانه كل أنواع الحيل الفهلوية. فالفوضى ليست فقط في سلوك الشارع والإدارة وقوانين العمل وتراتبية السلطة إنما امتدت لتشمل ما يخرج من بين شفاه البشر وما يكتبوه ومراجعاتهم في السجون.
نموذج خطاب الفوضى نجده في مراجعات تنظيم الجهاد. فممارسة الاغتيال والقتل طبقا لفهمهم الخاص هي ممارسة للجهاد الذي هو شعار واسع ويحتمل دلالات كثيرة اختزلها الجهاد يون في القتل بحجة الإيمان استلهاما لرضا الله عنهم. لقد خدعوا شبابا كثيرين بأقوال أن قتل الإنسان يرضي الله بينما الله لا يرضي بظلم الإنسان لأخيه الإنسان. بل ويقبل الكفر به في الدنيا، لكن الفوضوي أعاد ترتيب إرادة الله ليضع شروطا جديدة ويلغي ما أحله الله عبر نفس النصوص.
الفوضى تحيير من يحاول ترتيب الأمور طبقا لقواعد سليمة تتفق وقوانين الواقع فهل قوانين الواقع أن يكون كل الجهاد العنيف، أي القتل والنهب والسلب، مؤجل حتى التمكين. الفوضى ليست هنا فقط، إنما في ضرب القاعدة الأساسية التي تقول ” إن الله لا يحب الظالمين” فالفوضى الجهادية المؤجلة لضرب هذه القاعدة الدينية أن الضحايا قد تم تصنيفهم مسبقا حتى التمكين وعندها يصبح الجهاد، أي القتل والظلم، نظاما. بمعني أن المراجعات الحالية هي فوضي في مجتمع إسلامي لضعف الجماعة وحصارها امنيا داخل أو خارج السجون ولن تنضبط الأمور إلا بالقتل المنظم عند التمكين.
فلن تجد أي سلطة استبدادية تحولت في نهاية مشوارها الثوري بأفضل من قاده جماعات الجهاد وغيرها لتبرير الاستمرار بالحكم امنيا وبوليسيا وقوانين للطوارئ أو الإرهاب إلا في وجود هذا العقل الفوضوي ممكنا أو بدون تمكين. فمراجعات الجهاد ليست بردا وسلاما إنما شقاءا وبؤسا وتبديد لمستقبل مجتمع يسعى لحالة مدنية يتساوى فيها الناس لأنهم سواسية كأسنان المشط. أي أن فوضي السلطة وفوضي الجهاد وفوضي التراجع والمراجعات أحالت المجتمع إلي كائنات لا تنطبق عليهم أي مقولة دينية أو غير دينية. انه خراب العمران كما يقول ابن خلدون في مقدمته. فرغم أن البداوة انحسرت وتحضرت مجتمعاتهم بل واثروا بفعل الجهد الأمريكي والأوروبي في استخراج ما في باطن الأرض من ثروات إلا أن فكرهم ما زال يجول شرقا وغربا ويحول كل من يتبناه إلي بداوة جديدة جاهزة للعمل كما فعلوا في الماضي. إنها ثقافة قبل أن تكون دينا، تمجد الجاهلية وتحتقر كل تقدم وتعتبر كل ما بدر من الخارج استفزاز وتحقير للإسلام. فكيف يأتي ممن يعتبرون كافرين ما لم نقدر نحن عليه بديننا الحق؟
فلا يمكن فهم المراجعات إلا بأنها هدنة لفترة ربما تطول أو تقصر للانقضاض طبقا لحالة الضعف التي ستصيب المجتمع ويتمناها قادة الجماعات وربما بتقديم المشيئة لاستحضارها علي عجل. فالمسكوت عنه في مسالة المراجعات أن هناك من يتربص بالمجتمع وينتظر لحظة السطو عليه وافتراسه وربما العمل علي إضعافه بعد الإفراج. فأي ثقافة تلك وأي مبادئ هذه؟ وهل هذا هو الإسلام؟
قطعا فان المراجعة تعني أولا أنهم كانوا علي خطا وقرروا مراجعة النفس. فالتوبة في الإسلام هي مراجعة للذات علي ارتكابها المعاصي وشهادة بان صاحبها لن يعود إليها ثانية كاختبار جديد له علي صحة توبته. لكننا بعد قراءة مراجعات الجهاد فإننا أمام حالة توبة مؤقتة. فهل في الإسلام توبة مؤقتة عن ارتكاب الجرائم؟ هذا السؤال موجه لنا جميعا في مجتمع يموج بالإسلام بكل تياراته وأفكاره. لكن ما لم يخطر علي بال أيا منا لأسباب انغماس المجتمع في مناخ إسلامي مثلما لا تدري الأسماك أن هناك ارض وهواء وأشجار خارج مياه البحر، فلم نسال أنفسنا ماذا يوجد خارج البيئة الإسلامية؟
فخارج البحار والمحيطات لا تصلح الخياشيم، هنا نسال هل الإيمان والاعتقاد والانحصار في العلم الشرعي فقط يحصن المسلمين من الانحراف، ويمنع من التوبة الحقيقة في اضعف الأحوال، وعدم تحويلهم إلى مرتكبي جرائم في أقصاها؟ فالمجتمع المسلم لم يثبت انه خالي من الجريمة أو انه مجتمع متسامح وانه يحترم الاختلاف كما تحترمه المجتمعات الديموقراطية. فهل القول بان الديموقراطية كفر لها جذرها فيما تقدم؟ فليس صحيحا أن المجتمع المسلم مجتمع آمن. وتاريخ المسلمين الأوائل في بيئتهم الأصلية وطوال تاريخ الإسلام يؤكد أن العنف ظل مستمرا بثورات وانتفاضات كبري وحروب طبقية تلتحف بحجة الكفر والإيمان حتى في زمن الخلفاء الأربعة الأوائل. كان كل طرف يحاول التمكن من الآخر وعندما تتاح الفرصة فلن يتوانى عن القتل والذبح في مسلسل مستمر كله تحت مسمي الجهاد. فهل فهم برنارد لويس وهانتجنتون تاريخ الإسلام بأفضل مما يعرفه أهله عنه؟ وهو سؤال في منهجية التفكير عندهم مقارنة بما عندنا من نظم تعليمية ومناهج تربوية دينية أو غير دينية. الحقيقة تقول أننا مكشوفون عرايا من الناحية العقائدية والفكرية والثقافية دون الحاجة الي ميكروسكوب فاحص أو قمر صناعي راصد أو مستشرق جوال.
فالكتابات الصادرة من الجهاديين أو التائبين أو المراجعين علي مدي عشرة أعوام تتخذ الماضي مرجعا. يزدرون كل جديد باعتباره بدعة مهلكة. كما لو أن التطور والتقدم والاختراع والابتكار رجس من عمل الشيطان لن يمحوه الا برنامجهم الماضوي بعد التمكين. فهم بتنويعاتهم المختلفة اتفقوا باننا نعيش جاهلية جديدة. وما العلم والتكنولوجيا الا عبث وتحدي للمشيئة الربانية. وكل نظام حكم هو جاهلية كما يقول مؤلف كتاب “جاهلية القرن العشرين”. فليس المطلوب طبقا لفلسفته سوي اعاده مجتمعات الجاهلية الناشزه الحاضرة الي بيت طاعة الماضي الوردي الذي لا نعرف منه حقيقة الا الحروب والانقلابات والثورات والاغتيالات المستمرة.
وهذا هو الماضي الطازج دائما في فكر المراجعات. فما يعطل شرع الله هو فقط عدم التمكين، وعليه فلتخرج كتابات تقول بالهدنة المؤقته او المؤجلة الي حين ميسرة. فالخصومة في الراي معهم ليست سوي خصومة مع المشيئة الربانية الموكلة اليهم فقط. لا يعطلها الا قوة الدولة التي تطبق جاهلية الحاضر.
وهم بهذا التصور يدورون ويدور معهم التاريخ الاسلامي في حلقة ضيقة مقفلة نراها تتكرر بل ملل في تاريخ العالم الاسلامي. يغادر كل واحد منهم التاريخ جثه هامدة لتبدأ دورة جديدة لا تقدم شيئا ليبدأ الجديد من حيث انتهوا هم باعتبار الحاضر جاهلية جديدة تستلزم الانقضاض عليها. بهذا بددت المنطقة 1400 عام من التاريخ وظل المسلمون كما هم متخلفون لان العالم كان يتقدم. وهو جهل فاضح بطبيعة الأمور وكيف تجري نواميس الحركة والبشر.
الفوضى في خطاب المجاهد سابقا والمراجع حاليا والتائب حقا وصدقا بإذنه تعالي مستقبلا في ملاحظته التي جاءت بنص صحيفة الحياة “أن غالبية الذين انتقدوا وثيقته «ترشيد الجهاد في مصر والعالم» لم يناقشوا ما فيها وإنما اتهموه بالعمالة أو الخضوع لضغوط من جانب السلطات المصرية، وأدلي في الحلقة الرابعة من حواره المطوّل مع «الحياة» إلى أن لا أحداً ممن هاجموا وثيقته يتمتع بالعلم الشرعي، وقال: «أنا لا أتكلم إلا بدليل من الكتاب والسنة فلم يتبق أمامهم إلا التجريح لصاحب الوثيقة “.
فهو هنا لا يتكلم عن خبرة الماضي لكنه يعتبر أن اليوم خمر وغدا أمر بالطريقة الجاهلية العربية. فمع بدء الجهاد، قتلوا علماء مسلمين عارفين بالعلم الشرعي مثلهم كالشيخ الذهبي. وكثيرين من مواطني المجتمع المدني الأبرياء. فكيف يختلف علمه الشرعي مع العلم الشرعي للذين أفتوا قديما بخطئهم؟ فأين التجريح؟
وإذا كان ما جاء في الوثيقة من الكتاب والسنة، فمن أين جاءت أفعال الجماعة قبل ذلك،وهم جهاديون، ومن أين جاءت أقوال باقي العلماء؟ّّ!!
الإجابة ليست كما يحلو لكثيرين دافعوا عن الوثيقة وأصحابها بأنها مراجعات صادقة. إنما أناس ارتكبوا أخطاء وجرائم في حق المجتمع وتحججوا بالكتاب والسنة. ثم فشلوا وخسروا كثيرا وأثبتت الدولة والمجتمع – الكافر حسب دعواهم – انه علي حق وليس بربريا. فاخرجوا لنا المراجعات من الكتاب والسنة أيضا للبقاء في كنف الأسلمة علي طريقة الفهلوي من اجل حياه اقل عذابا لما تبقي لهم من العمر لكن في خندق المتربصين بمصر.
هناك الكثير لكل من يفكر ويتدبر قراءة المراجعات التي كتبها قاده الجماعة. فأول ما يتبادر إلي الذهن كيف سيتمكنون من السيطرة بعد التمكين لو أنهم غير مجهزين بقوة السلاح. فهل ستظل التدريبات العسكرية علي طريقة اعدوا لهم ما استطعتم باعتبار المجتمع والوطن عصي علي الهزيمة حتى تضعف قواه ويكون جاهزا للتمكن منه ومن أين ستأتيهم الخيل المسومة ورباط الخيل؟ ومن الممول؟
elbadryk@gmail.com
* القاهرة