خاص
تعتبر معركة جبيل النيابية من أوضح المعارك السياسية التي تخوضها 14 آذار. وهذا الوضوح عائد إلى كون هذه المعركة تختصر المواجهة السياسية القائمة في البلد بين 14 و8 آذار. وهي مواجهة بالمباشر وعلى أرض الواقع بين 14 آذار ممثلة بأحد صقورها الدكتور فارس سعيد وبين مكوني 8 آذار حزب الله وميشال عون. ولعل خطورتها تكمن في محاولة حزب الله فرض أمر واقع سياسي-أمني داخل البيئة المسيحية في منطقة تقع على تقاطع جبل لبنان الشمالي المسيحي مع شمالي لبنان المسيحي، ما يعني أن خسارة هذه المعركة سيؤدي إلى استقواء حزب الله وتمدد نفوزه على امتداد الجغرافيا المسيحية في ظل تراجع وانكفاء الحالة السيادية الممانعة التي تصدت لأهدافه التوسعية وتقدم الحالة الذمية المسيحية التي يعبر عنها كل من ميشال عون وسليمان فرنجيه وغيرهما تحت عنوان توفير الحماية للمسيحيين، أي حمايتهم بواسطة حزب شيعي مسلح، بينما فوز 14 آذار في جبيل سيفضي تلقائيا إلى انحسار نفوذ حزب الله وإعادة الاعتبار إلى شيعة الاعتدال ومفهوم العيش المشترك في هذه المنطقة على حساب حالة غريبة وعجيبة عن تلك البيئة.
ومن هذه الزاوية فقط يمكن فهم الخلفية السياسية الكامنة وراء إطلاق الشيخ نعيم قاسم في 14 آذار الماضي الماكينة الانتخابية لحزب الله في دوائر المتن الشمالي-كسروان-جبيل والشمال، أي في المنطقة المسيحية “الصافية” بشكل أو بآخر والممتدة من المتن إلى بشري. وهذا ما يكشف نوايا حزب الله وعزمه على تحويل الانتخابات النيابية إلى 7 أيار مسيحي، وخصوصا بعد تلمسه في 7 أيار 2008 أهمية سلاحه ليس من أجل الدفاع عن السلاح إنما بغية القضاء على لحظة 14 آذار التي أعادت توحيد اللبنانيين خلافا للاستراتيجية السورية التي عملت دوما على الفصل بينهم. فاستعمال حزب الله لسلاحه في الداخل خلق جوا من الخوف والذعر وأثار ردة فعل عكسية لدى الطوائف اللبنانية التي انتقلت من وضعية اقتحامية لبعضها بعضا على مستوى تطوير نظرتها المشتركة إلى مستقبل لبنان، إلى وضعية انكفائية وانطوائية على نفسها. وهذا ما حصل بالفعل مع الدروز والسنة الذين طغى عليهما الهاجس الأمني على أي اعتبار آخر، ودفع حزب الله إلى تعميم هذا الهاجس لينسحب على الواقع المسيحي من أجل إعادة تعزيز وضع عون المتهالك وتحويل القسم الأكبر من المسيحيين إلى لاجئين لدى حزب الله. ومن المؤشرات على ذلك إعلان السيد نصرالله قبل الانتخابات بعشرين يوما “7 أيار يوما مجيدا من أيام المقاومة في لبنان”. فالهدف من وراء تمجيده للفتنة السنية-الشيعية تخويف المسلمين من تكرار 7 آيار والتهويل على المسيحيين لإخضاعهم واستسلامهم لمشيئة ولاية الفقيه.
ومن هنا رمزية معركة جبيل وأهميتها في آن معا. فالدكتور سعيد يخوض بهذا المعنى معركة على مساحة الوطن دفاعا عن الجمهورية التي يرأسها العماد ميشال سليمان. ولكن المشكلة أن بعض الذين يضعون أنفسهم في خانة رئيس الجمهورية في جبيل رفضوا أن ينسحب الواقع التحالفي الموضوعي القائم بين 14 آذار والمستقلين في كل من بيروت وبعبدا والمتن وكسروان إلى جبيل نفسها، ما يطرح جملة تساؤلات من أبرزها: لماذا يسري ابتزاز حزب الله في دوائر دون الأخرى؟ وهل ثمة تواطؤ بين الذين يضعون أنفسهم في خانة الرئيس وبين حزب الله على إسقاط الدكتور سعيد، باعتبار أنه يصعب إيجاد تفسير آخر لسلوكهم؟ واسترطرادا هل كان يفترض بقوى 14 آذار أن تحذو حذو قوى 8 آذار بتشكيل لائحة مقفلة في جبيل من دون أي اعتبار لرئيس الجمهورية ودوره؟ وهل الرد على التحية بترك قوى 14 آذار مقعدا للمستقلين يكون بإقفال اللائحة ودعوة 14 آذار إلى الخروج من المعركة؟
يدرك المستقلون أن انسحاب قوى 14 آذار من المعركة في جبيل أو غيرها غير وارد، لأن انسحاب هذه القوى يعني التراجع عمليا أمام قوى 8 آذار، وخصوصا أن المواجهة الفعلية هي بين خطين ونهجين يتجسدان في 14 و8 آذار، وبالتالي استمرار الانقسام بين 14 و8 هو مسألة حتمية وغير مرتبط باستحقاق نيابي أو محطة سياسية، إنما انفراط هذا الاصطفاف يرتبط فقط بزوال مبررات الصراع القائم، أي قيام الدولة الفعلية في لبنان وزوال دويلة حزب الله. ولذلك، هناك مصلحة لرئيس الجمهورية بفوز 14 آذار، لأنه بالمقدار الذي تتجه فيه الأمور لمصلحة 14 آذار تستفيد الجمهورية في لبنان، والعكس صحيح، وبالتالي إذا كان من غير الممكن للرئاسة الأولى أن تكون في مواجهة 8 آذار لأنها تصبح عندذاك جزءا من 14 آذار، فمن غير الجائز أيضا أن تتحول حيادية الرئيس إلى الحياد حتى عن متطلبات الدولة في لبنان، لأنه لا يمكن أن يكون حياديا بين من يريد قيام الجمهورية وبين يعمل على تقويض هذه الجمهورية.
تأسيسا على ما تقدم، يترتب على رئيس الجمهورية، عشية الذكرى الأولى على اعتلائه سدة الرئاسة الأولى، وإزاء الحملات المستمرة والمتواصلة عليه لشل حكمه بالحد الأدنى واستبداله بعون بالحد الأقصى، مسؤولية معالجة الوضع الانتخابي الجبيلي ليتكامل وضع هذه الدائرة مع وضع الدوائر المسيحية الأخرى، لما فيه مصلحة الجمهورية ودور الرئاسة في المرحلة المقبلة.
إن فوز 14 آذار في الانتخابات النيابية المقبلة أو خسارتها لن ينعكسا على وضعها الخاص إنما على وضع البلد الذي تعمل على تمكينه من استعادة توازنه واستقراره، بينما الخسارة الفعلية في حال فوز 8 آذار ستكون من نصيب الشعب اللبناني أولا نتيجة تقصيره أو اقتراعه وتصويته وما سيؤول إليه الوضع اللبناني عندذاك من عزلة دولية وحرب إقليمية وانهيار اقتصادي واجتماعي. كما أن الخسارة الفعلية ستكون أولا وأخيرا من نصيب رئيس الجمهورية الذي اعتبرته قوى 8 آذار منذ لحظة انتخابه رئيسا انتقاليا حتى إشعار آخر.
لقد تمكن الدكتور فارس سعيد من تحويل المعركة في جبيل إلى معركة “ثورة الأرز” في لبنان، كما تمكن الرئيس فؤاد السنيورة من تحويل معركة صيدا إلى معركة الدولة في لبنان.