خلال معركة الفلسطينيين في الامم المتحدة ومجلس الامن، لن تحقق السلطة الفلسطينية مطلبها في الاعتراف بالدولة الفلسطينية الكاملة العضوية. الادارة الاميركية اعلنت منذ البداية انها لن توافق على هذا المطلب وستعترضه، لا بل حاربت وحذرت السلطة الفلسطينية من أنّ الاصرار في الذهاب الى نيويورك سيكلف الفلسطينيين وقف المساعدات الاميركية للسلطة، واستخدمت الادارة الاميركية سياسة التهويل في محاولة متكررة لثني الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن خطوته هذه.
لم يكن اي من مؤيدي “السلطة الوطنية” او معارضيها يشك للحظة في ان الادارة الاميركية سترفض المسعى الفلسطيني، وكان من الواضح ان عباس متمسك بقراره من دون تراجع، مع اصراره على ان التفاوض والعملية السلمية عموما تبقى خيارا استراتيجيا فلسطينيا مهما كانت النتيجة على طاولة مجلس الامن الدولي.
ازاء هذا الاصرار بدا جليا ان ارباكا قد طال الموقفين الاميركي والاوروبي ولم ينج الاسرائيليون منه. فالتوقيت ليس ملائما، اذ لا يريد الاميركيون ولا الاوروبيون ان يظهروا في هذه الايام امام الشعوب العربية في مظهر مقوّضي المطلب الفلسطيني المحق، خصوصا ان من يحمله هي السلطة الفلسطينية التي التزمت بكل متطلبات التسوية السلمية ومساراتها.
فالادارة الاميركية التي تتلمس اهمية التحولات العربية باستثمار دورها في مجاريها، لا تريد في هذا التوقيت ان تبدو في موقع المعترض على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في اعلان الدولة.
ومع الاصرار الفلسطيني والتعنت الاميركي حياله، تدفقت الوفود الاوروبية وتحركت بقوة لتقدم عروضا إلى الرئيس الفلسطيني مقابل الغاء خطوته. حتى المسؤولين الاسرائيليين حاولوا ثنيه بتهديده وتخويفه من تداعيات موقفه على اوضاع الفلسطينيين في الضفة الغربية، او باغرائه باستعداد الحكومة الاسرائيلية اطلاق المفاوضات الثنائية فورا، كما بمحاولات وزير الدفاع إيهود باراك ثني الفلسطينيين من خلال التأكيد على حقهم بالدولة.
كل ذلك لم يثن محمود عباس، المتهم اصلا من خصومه بالتفريط بحقوق شعبه. لكنّ الانصاف يقتضي القول ان الرئيس الفلسطيني، الاضعف من حيث واقع السلطة التي يرأسها بين اقرانه العرب، يبدو اليوم الاقوى بين الحكام العرب. ليست القوة هنا في ما يمتلكه من ثروات نفطية ومالية او سلاح او اجهزة امنية واستخبارية، بل في التزامه ووضوحه امام شعبه بما وعد به، واعلانه الصريح أنّه ليس متمسكا بموقعه في السلطة. وهو بذلك افقد الادارة الاميركية والاسرائيليين ورقة مصيره على رأس السلطة، وهي ورقة طالما استخدمت، حيال المستميتين على مواقعهم الملكية والرئاسية، كأنجع وسيلة ضغط على الحكام في المنطقة.
يكشف هذا المسار الفلسطيني، المترافق مع ربيع الثورات العربية، ان قدرة الحاكم وقوته تكمنان في شرعيته الشعبية والديمقراطية من جهة، ومن جهة ثانية في عدم تمسكه بالموقع، الامر الذي كان سبيل الاعداء والخصوم للإبتزازه.
واذا كان هذا “المفاوض البائس”، كما يوصف من بعض خصومه، نجح في ارباك الموقف الاميركي بحسب العديد من المراقبين الدوليين هذه الايام، فهو ايضا أفشل أوباما في نزع فتيل الأزمة، الامر الذي سيبرز محدودية التاثير الأمريكي على مجرى الأحداث في الشرق الأوسط خلال هذه الفترة، وهو امر سيربك أيضا موقفا أميركيا يحاول اظهار تأييده التغيير الديمقراطي الذي يجتاح العالم العربي.
إذا فيما يخوض الفلسطينيون معركتهم الدبلوماسية في مجلس الامن، تكشف هذه المعركة نفسها هشاشة الخيارات المناهضة للسلطة الفلسطينية في خط الممانعة، فموقف حركة “حماس” الرافض خطوة عباس، يفضح غياب الحركة السياسي، بطلبها اعلان الدولة على كامل التراب الفلسطيني.
هو تبرير اقرب إلى حجة “الغائب كليا” عن الساحة الدولية وساحة المواجهة الميدانية. والحقيقة التي تترسخ في مسار الربيع العربي حتى اليوم هي أنّه مع سقوط كل حاكم عربين وآخرهم زعيم ليبيا، يسقط تاجر من تجار الدم الفلسطيني، ومع سقوط كل زعيم منبطح للادارة الاميركية كما الرئيس المخلوع حسني مبارك، يتخفف الفلسطينيون، وقبلهم المصريون، من اعباء الثمن الباهظ دوليا واسرائيليا لبقائهم في السلطة.
لذا فإنّ معركة اعلان الدولة الفلسطينية ليست في وجه العالم فقط، ونتائجها لن يقررها مجلس الامن الدولي او الفيتو الاميركي… انها ابعد من ذلك. هي معركة استعادة الشرعية الشعبية، ومعركة تظهير افلاس الاستبداد العربي بوجهه “الممانع” و”المعتدل”. معركة تدرك اسرائيل والعالم ابعادها وهي تنظر بقلق الى تغيير جوهري يجري في العالم العربي اليوم، تغيير بمثابة “رسالة انذار للعالم ان العالم يتغير وان على اسرائيل ان تغير سياساتها”، على ما قال نبيل أبو ردينة.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد