يوم الأحد 30/9/2007 كان يوماً سعيداً بالنسبة لإهود أولمرت، رئيس حكومة إسرائيل. كان يوم ميلاده. وقد وزع أولمرت الابتسامات ذات اليمين وذات اليسار، ومع أنه لم يأخذ هدايا من مقربيه، فقد وزع عليهم القبل في كرم!
ولكن فرح أولمرت هو فرح قصير جداً. فقد كان عليه، وهو العاقل، أن يدرك أن الأيام القادمة ستكون أياماً صعبة حيث ستقوم الشرطة بتحقيقين معه، واحد يتعلق بالتهمة الموجهة إليه بالتدخل بالمناقصة لخصخصة “البنك القومي” لصالح المقربين منه، والثاني يتعلق ببيع بيته في القدس. بسعر مبالغ فيه! وقالت الصحف أنه إذا لم يكن هذان التحقيقان يكفيان، فسوف يحقق معه المستشار القضائي للحكومة.. بقضيتين أخريين!!
وقد ثار في الصحف العبرية في إسرائيل نقاش سياسي وأكاديمي: إلى أي حد تؤثر هذه التحقيقات مع رئيس الحكومة على إدائه لمهامه كرئيس للحكومة؟ هل بإمكانه أن “يتركز” في القضايا الأساسية للدولة، السياسية والاقتصادية والعسكرية والمخابراتية، وهو تحت التحقيقات المكثفة؟ وهناك مَن يقول إنه يجب تغيير القانون، بحيث إذا تعرض مسؤول كبير جداً (مثل رئيس الحكومة) للشبهات والتحقيق فيجب أن يخرج لعطلة حتى ينتهي التحقيق، فإذا لم تثبت شيء ولا مكان للمحاكمات، يعود لعمله كالمعتاد، وإلاّ، فعليه الاستقالة.
وقال أوري أليتسور مدير مكتب رئيس الحكومة الأسبق نتنياهو: “كل شخص موجود في وضع عليه فيه أن يدافع عن نفسه مقابل تحقيق مكثف لا يمكنه أن يتركز في عمله في قيادة الدولة، بينما هو يصارع دفاعاً عن نفسه وعن براءته ومن الصعب أن يكون عنده صفاء الذهن والتركز في تسيير قضايا الدولة، بينما هو متهم، ومن الممكن أن يتورط في المحاكم وأن تنتهي حياته السياسية كلياً”.
وقال مدير سابق لمكتب رئيس حكومة سابق، لم تذكر الصحف اسمه: “التحقيق مع رئيس الحكومة في قضايا يتوقف عليها مصيره السياسي كله، يعوِّق العمل الطبيعي الفعال في خدمة الدولة. هذه البعوضة التي اسمها “التحقيق” لا تترك عند رئيس الحكومة ساعة واحدة للراحة أو للطمأنينة”!!
ويقول ايتان هابر مدير مكتب رئيس الحكومة الأسبق اسحق رابين إنه لتحقيقات بوليسية كهذه توجد بدون شك، أبعاد نفسية. ولكن الأمر يتعلق أيضاً بشخصية الشخص الذي يجري التحقيق معه. أنا أعرف أن عند أولمرت أعصاباً من الفولاذ، وهو دائماً بارد الأعصاب، متزن، ومن الممكن أن التحقيقات قد لا تؤثر عليه.
ويقول الدكتور حانوخ يروشالمي أستاذ علم النفس في الجامعة العبرية في القدس: “لا شك أن أولمرت سيعيش في هذه الفترة (التحقيقات) مشدوداً، متوتراً، قلقاً، بينما هو يواصل القيام بمهامه تجاه الدولة”.
أما بروفسور شلومو أفنيري من قسم العلوم السياسية في الجامعة العبرية، فيقول : إن السياسيين الذين يجري التحقيق معهم في الدول الديمقراطية يجدون أنفسهم إزاء هجمة كاسحة. كلينتون وبلير وبرلسكوني جرى التحقيق معهم. وكذلك ثلاثة رؤساء حكومة عندنا جرى التحقيق معهم. ولكن لم يقدم أحد منهم للمحاكمة. وقال: من الممكن أن هناك مجالاً لتشريع يمنع التحقيق مع رئيس حكومة ما دام في المنصب، وفقط بعد نهاية فترة المنصب، يمكن فتح ملف التحقيق.
أما المقربون من رئيس الحكومة أولمرت، فيحاولون تهدئة الرأي العام الإسرائيلي: “التحقيقات لا تؤثر على عمله، ولا تؤثر على تركزه في القيام بمهامه القومية بشكل جيِّد، ولن يخرج من هذه التحقيقات شيء أو بعض الشيء”!!
بإمكان الصحف “القومية” العربية أن تنشر بشكل موسع وتفصيلي أخبار التحقيقات مع أولمرت، ومع غيره من المسؤولين الإسرائيليين، مع الادعاء الصارخ بأن هذا “برهان” على انتشار الفساد، على أعلى المستويات، في الدولة العبرية. ولكننا نأمل أن القراء العقلاء، المتزنين، الذين عندهم عقول تفكر، لن يقبلوا هذه الديماغوغيا.
إن أية دولة يمكن فيها التحقيق مع رئيس الحكومة ومحاكمته وتجريمه، إذا انوجدت الأدِّلة القاطعة، هي دولة المواطنون ورؤساء الحكومات ورؤساء الدولة، فيها، تحت طائلة القانون.
لقد تابع الإسرائيليون والعالم كله، خلال أكثر من سنة التحقيقات مع رئيس الدولة السابق موشيه قصاب بتهم التحرش الجنسي. كما أن التحقيقات مستمرة مع وزير المالية السابق أبراهام هرشزون . ووزير الشرطة السابق تساحي هنغبي استقال من منصبه للتفرغ للتحقيقات معه، حول تعيينات واسعة في وزارته على أساس الانتساب الحزبي والمقربين من الوزير وحزبه.
يمكننا أن نهاجم إسرائيل ونظامها وقادتها، كما نشاء، ولكننا لا نقدر أن ننكر الحقيقة البسيطة وهي أن كل مسؤول في إسرائيل، كبير جداً، أو كبير، أو عادي، إذا ضبط متورطاً في مخالفة مناقضة للقانون فإنه يتبهدل ويحاكم، ويحترق سياسياً.
وفي اعتقادي أن الإسرائيليين لديهم كل الأسباب للاعتزاز بذلك، لا الخجل. كل دول العالم فيها فساد، كثير أو قليل، وفي الدول الديمقراطية تجري التحقيقات مع “أكبر الرؤوس” وتجري محاكمتهم، وإذا تأكدت التهمة يدفعون الثمن، باهظاً.
اسمحوا لي أن أتكلم كعربي، الآن، وأسأل بصراحة: كم مرة حوكم مسؤولون كبار أو صغار في سورية أو مصر أو العراق أوالسعودية أو ليبيا. على فضائح اقترفوها؟ كم مرة سمعنا أن الوزير الفلاني في الدولة الفلانية “انتحر في مكتبه” وكل العالم، بمن فيه شعبه يعرف أن هذا الوزير لم ينتحر بل نُحر؟ كم مرة دفن الوزير “المنتحر” خلال ساعات وطوي الملف ولم تكتب الصحف إلاّ خبراً صغيراً، ولم تجرؤ أية صحيفة أن تنشر تحقيقاً حول الأمر؟
هل من حق الشعب، قانونياً، أن يعرف الحقائق حول قادة الدولة، الحكومة وقيادة الجيش في أوطاننا العربية؟ أليس أصغر شرطي قادراً أن يهين الأمة كلها، وأن يسرق كل أموال الوطن بدون أن يصاب بأذى، طالما أنه على وفاق مع النظام؟
كل السياسيين الذين نجحوا في “الهروب إلى الخارج” من العالم العربي، يعيشون في العواصم الأوروبية عيش الملوك وأفضل ، مع حسابات في البنوك، بالمليارات. وهناك ساسة “مهاجرون” عندهم شركات ومحطات تلفزيون، من أموال الشعب. لماذا لم يحاكموا؟ لا يحاكم سياسي على السرقة في عالمنا لعربي، بل يحاكم إذا انشّق عن النظام. أما إذا هرب أولاً من البلاد، قبل أن ينشق، فقد ربح الدنيا والآخرة- مال الشعب المسحوق الجائع، ونِعَم المجتمعات الأوروبية الراقية!!
الاستنتاج واضح تماماً: بدل ان نضحك على فضائح الآخرين. الأوْلى أن نفكر بفضائحنا وفسادنا وعفن أنظمتنا الشرسة واللصوصية، التي تسرقنا اوطاناً وشعوباً، ونخاف حتى أن نقول ذلك بصوت عالٍ، حتى صرنا أمة تبكي على حالها وهي تدرك أنه.. ليس للصبر حدود…
salim_jubran@yahoo.com
* الناصرة