الجمهورية الإسلامية تطرح نفسها قطبا إقليميا وعالميا في زمن الاضطراب الاستراتيجي، لكنها تنطلق دوما من نظرية تصدير الثـورة وأساليب النفوذ.
تصر إيران على الحل العسكري في حلب وسوريا. يعلو الهتاف من قلب بغداد ضد التدخل والوجود الإيرانيين. تحاول طهران تهريب شحنات السلاح إلى اليمن وتستمر في تجارب الصواريخ الباليستية وتحصل على منظومات دفاع جوي روسي متطورة وتهدد بإغلاق مضيق هرمز. يستمر التصعيد الكلامي والتهويل من جنرالات الحرس الثوري بالتزامن مع الإعلان عن استراتيجية لعشرين سنة قادمة خلاصتها التأكيد على النفوذ ضمن هلال المشروع الإمبراطوري المخترق للعالم العربي من يمنه وعراقه، نحو بلاد الشام وشرق البحر الأبيض المتوسط، والتطلع نحو آفاق أخرى في الجوار الآسيوي، كما في البحر الأحمر ومصر وشمال وغرب أفريقيا.
هكذا في موازاة تسويق التطبيع والانفتاح على الغرب وعدم التخلي على المدى المتوسط عن الوصول إلى مصاف القوة النووية، تتأكد صعوبة التحول داخل منظومة ثورة أيديولوجية دينية للتأقلم مع نمط دولة عادية، ويستمر زخم العمل في العمق لتنفيذ فصول جديدة من مشروع إمبراطوري يستند إلى أذرع مذهبية وأساطير، لكنه يحاكي في العمق تاريخ بلاد فارس مع تفصيله على قياس علوم التوسع ضمن المدى الحيوي وفقا لقواعد الجيوبوليتيك، من دون إهمال البعد الديني في الصراع حول زعامة العالم الإسلامي، ونفوذ الولي الفقيه فيه.
بعد توقيع اتفاق فيينا النووي في يوليو 2015، راهن البعض على مرونة إيرانية وتراجع عن زعزعة الاستقرار الإقليمي، لكن الوقائع الميدانية دلت، ومازالت تدلل، على العكس، وتبيّن أن طهران تستفيد من طلب الانفتاح الأميركي لتحييد واشنطن وردود أفعالها، وتوظف تعاونها مع الجانب الروسي بما يتلاءم مع أهدافها كما يحصل على الساحة السورية. بيد أن الصراعات الدائرة من اليمن إلى سوريا وجوار كركوك، والضغوط الخليجية والأميركية على حزب الله في لبنان، تعني أن لعب إيران دور الشرطي أو “الجندرمة” الإقليمي ليس دربا يسيرا، وأن منطق الغلبة إن كان إيرانيا أو فارسيا أو مذهبيا لا يمكن تمريره في منطقة محكومة بتوازناتها وأهميتها الجيوسياسية والاقتصادية، وفي عالم عربي له مصالحه وتاريخه ومنظومة قيمه ودوره القيادي في عوالم الإسلام.
يتباهى مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران علي أكبر ولايتي (وزير الخارجية الأسبق وأحد أبرز المقربين من خامنئي) ويؤكد في مقابلة مع صحيفة الأخبار اللبنانية (5 مايو 2016) “المهم هو أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي القوة الأكبر في هذه المنطقة، هذا الأمر يعرفه الصديق والعدو. وهذا الأمر لا يعني بحال من الأحوال أن إيران ستمارس هذه القوة بحق أي دولة إسلامية أو مجاورة في هذه المنطقة”.
لكن من يقرأ النص الكامل يستنتج الإصرار على التدخل وعلى المكشوف من سوريا إلى العراق واليمن، مع استهداف خاص للمملكة العربية السعودية ومسعى لمغازلة جمهورية مصر العربية. أما تطمينات ولايتي فلا تنطلي على أحد ويبرز ذلك خصوصا في ممارسة دور الوصي على العراق والتحكم باللعبة السيـاسية فيـه. يقول مستشـار المرشد حرفيا وردّا على سـؤال عن تحرك مقتدى الصدر الأخير “بطبيعة الحال، إن ‘الحشد الشعبي’ في العراق، لا يصعب عليه أن يتصدى لبعض الأطراف غير المسؤولة وغير الواعية التي تثير بعض الاضطـرابات والقلاقل في الساحة العراقية لكن “الحشد الشعبي” في بداية الأمر، لم يكن يتحرك بصورة عنيفة مع هذه الأطراف، إلا أنـه في نهـاية المطـاف توصل إلى ما توصل إليه، واستطاع أن يخلي الأطراف التي سيطرت بشكل غير قانوني على البرلمان، وعلى مكتب رئاسة الحكومة”.
يجدر التذكير أنه سمعت هتافات مناهضة لطهران منها “إيران بره بره”، و“يا قاسم سليماني هذا الصدر رباني” (وهي تأكيد على الولاء للسيد مقتدى الصدر)، رددها الآلاف من المتظاهرين العراقيين خلال، وبعد، اقتحامهم للمنطقة الخضراء وسط بغداد، السبت 30 أبريل الماضي، عقب فشل البرلمان العراقي في عقد جلسة للتصويت على التشكيلة الوزارية لحكومة التكنوقراط الجديدة.
إزاء الغضب العراقي وصرخة “إيران بره” الشبيهة بصرخة “سوريا بره” في بيروت عام 2005 إثر اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، صدرت الأوامر من طهران للسيطرة على الوضع ونفذت ذلك ميليشيا “سرايا الخراساني” التي يقودها علي الياسري والتي تتبع الحرس الثوري الإيراني مباشرة.
وبحسب المعلومات المتوافرة من بغداد جرى استدعاء مقتدى الصدر إلى طهران عنوة (والدليل أن السيد مقتدى الصدر لم يستخدم طائرته الخاصة). يعتقد المشرفون على الملف العراقي في طهران أن احتجاج الصدر كان زوبعة في فنجان وجـرى إخمـاده، وأن الإمسـاك بالوضع العراقي لا تعتريه صعاب كثيرة. إلا أن أزمة النظام في العراق والوصـول إلى شفـا الدولة الفاشلة واستمرار الحـرب ضد داعش والمشكلات مع المكون العـربي السنّي والتـوتر مـع البيشمركة في كـردستان، عناصر لا تـدل على استقـرار النفـوذ الإيراني.
قبل يومين على اقتحام المنطقة الخضراء في بغداد، كان الجنرال رحيم صفـوي قائد الحرس الثوري السابق ومستشار المرشد للشؤون العسكرية، يكشف عن آفاق الاستراتيجية الإيرانية في العقدين القادمين إبان انعقاد المؤتمر الوطني الجيوسياسي في طهران، ويؤكد أن الأولويات هي الحفاظ على نظام بشار الأسد، وحزب الله اللبناني، وتمكينهما. وفي نفس السياق من الخطاب الدعائي اعتبر صفوي أن التحالف الدولي ضد الإرهاب “مؤامرة ضد إيران”.
ولوحظ عدم التطرق مليا إلى إسرائيل كما جرت العادة. والملفت إشارة رحيم صفوي السلبية إلى تركيا وتركيزه على مثلث أذربيجان – أرمينيا – جورجيا في الحسابات الإيرانية، مع التـأكيد على التعـاون مع منظمة شنغهاي.
تطرح الجمهورية الإسلامية نفسها إذن قطبا إقليميا وعالميا في زمن الاضطراب الاستراتيجي، لكنها تنطلق دوما من نظرية تصدير الثورة وأساليب النفوذ بهدف تهميش عناصر القوة عند الدول العربية. منذ وصول إدارة باراك أوباما في أواخر 2008، وخصوصا منذ السيطرة على مجريات الأمور في العراق بعد الانسحاب الأميركي في 2011، بالتزامن مع الانخراط في سوريا للحفاظ على النظام الحليف جوهرة المشروع الإمبراطوري والجسر نحو المشرق والبحر المتوسط حيث حزب الله الركيزة الأساسية لمنظومة ولاية الفقيه، تمادت القيادة الإيرانية في استغلال انهيار النظام الإقليمي العربي منذ سقوط بغداد في العام 2003، وقررت التوسع في المحيط العربي، والترويج في أوساط أنصارها إلى أن العرب الذين خضعوا للخلافة العثمانية منذ من المئات السنين، سيرضخون أيضا لدولة ولي الفقيه أي إمبراطورية فارس المتخذة من الولاية السياسية المباشرة باسم الدين ذريعة للهيمنة والسطوة.
منذ خمسة وثلاثين عاما نشأ مجلس التعاون الخليجي بعد بدء حرب العراق – إيران، واليوم تبرز، أكثر فأكثر، حاجته الاستراتيجية لمواجهة الهجمة الإيرانية ورؤى الهيمنة عبر رؤى تكاملية عسكرية وسياسية واقتصادية، من دون إهمال العمق العربي والمعـارك المصيرية في سوريا واليمن.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب