إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
شَهدَت بنغلاديش، البلد الذي حقق استقلاله عن باكستان سنة 1971 بالدم والدموع والتضحيات المكلفة، مؤخراً، مواجهات دامية بين قوات الأمن وطلبة الجامعات، خلفت عشرات القتلى والجرحى في صفوف الطرفين.
بدأت هذه الأحداث في مطلع الشهر الماضي حينما انطلقت مظاهرات طلابية في العاصمة “دكا” للمطالبة بإنهاء نظامٍ مثيرٍ للجدل أقرَّتهُ حكومةُ رئيسة الوزراء “الشيخة حسينة واجد”، وصادقَ عليه البرلمان المنتَخَب الذي يسيطر عليه حزبها (“حزب رابطة عوامي”).
أما النظامُ المختلَف عليه فهو خاص بالحصص الوظيفية في القطاع العام والذي يخصص أكثر من نصف الوظائف لأبناء المحاربين القدامى ممن حاربوا وضحّوا من أجل تأسيس بنغلاديش في عام 1971. حيث طالب المتظاهرون بالتوظيف على أساس الجدارة والكفاءة، معتبرين أن النظام الجديد يعطي الأفضلية لأبناء أنصار الشيخة حسينة، أبنة مؤسس بنغلاديش “الشيخ مجيب الرحمن”، التي تحكم البلاد منذ عام 2009، وذلك من أجل تعزيز سلطتها في مواجهة خصومها السياسيين.
وعلى الرغم من أن مثل هذه الإضطرابات والمظاهرات ليست غريبة على بنغلاديش، التي شهدت خلال العقود الخمس الماضية أحداثاً مماثلة وربما أكثر عنفا، فإن مراقبين كثر لا يرون في ما حدث مؤخرا مجرد تظاهرات عفوية، وإنما مدبرة ومخطط لها من قبل حزبي المعارضة الرئيسيين: “حزب بنغلاديش الوطني” بقيادة السيدة “خالدة ضياء”، أرملة الرئيس العسكري الأسبق “الجنرال ضياء الحق” الذي خطف السلطة عبر انقلابٍ دموي في السبعينات، قبل أن يُغتال عام 1981 في انقلابٍ آخر قادهُ صديقُه “الجنرال منصور أحمد”، و”حزب الجماعة الإسلامية” الذي يتجمعَّ فيه مُتشَددون إسلاميون، أغلبهم من أنصار وأحفاد من يطلق عليهم مصطلح “رزا كار razakar“، وهو مصطلح يرتبط بالخونة الموالين لباكستان زمن حرب التحرير والإستقلال، علما بأن الحزب ما هو إلا امتداد لـ”الجماعة الإسلامية الباكستانية التي أسسها “أبو الأعلى المودودي” عام 1941 في الهند البريطانية.
من وجهة نظري الشخصية، أعتقد أن الطلبة المحتجين لجأوا إلى التظاهر والفوضى والتخريب لإسقاط القانون المثير للجدل، لأنهم نجحوا في تحقيق مرادهم سابقا وذلك في عام 2018 حينما طرحته “الشيخة حسينة” لأول مرة قبل أن تؤجِّلهُ تحت ضغط الشارع. أما أحزاب المعارضة فقد خطفت الاحتجاجات من الطلاب وأعادت توجيهها نحو تحقيق أجنداتها السياسية المتمثلة في أحداث الفوضى والإضطراب من أجل الإطاحة بحكومة الشيخة حسينة المنتخبة.
لكن كيف تصرفت زعيمة البلاد مع هذه الأحداث التي زلزلت المشهد السياسي في البلاد وفتحت أعين الرأي العام العالمي على ما يجري فيها من “قمع وتكميم للأفواه وسلب للحريات والحقوق وتزوير للإنتخابات” بحسب تعبير حزبي المعارضة وأنصارهما؟
الحقيقة أن الحكومة تصرفت كما تتصرف أي سلطة حاكمة مسؤولة في مواجهة أعمال الفوضى والتخريب، حفاظا على الأمن والإستقرار والنظام والممتلكات العامة والخاصة. وبعبارة أخرى تصدت للمتظاهرين وقمعت احتجاجاتهم وفرضت حظرا على تجمعاتهم وحجبت الإنترنت بهدف قطع تواصلهم مع بعضهم البعض وأغلقت المدارس والجامعات مؤقتا، وأوقفت أكثر من 2500 مشتبه. إلى ذلك حاولت تهدئة الأوضاع واحتواء سخط المحتجين عبر الإعلان عن تجميد قانون الحصص الوظيفية المختلف عليه مؤقتا.
خطوة الحكومة التالية كانت التركيز على الأضرار والخسائر الإقتصادية التي أحدثتها الإحتجاجات الطلابية، ومنها تخريب نظام مترو الأنفاق الوحيد في البلاد والطرق السريعة ومراكز الشرطة وأكشاك رسوم المرور على الجسور واقتحام السجون وتحرير نزلائها، بدلا من التركيز على الخسائر في الأرواح البشرية وضحايا المواجهات ( نحو 105 قتيل و 700 إصابة في صفوف الطلبة والشرطة والصحفيين).
وبطبيعة الحال، أضافت الحكومة إلى إجراءاتها هذه، تسخير إعلامها الرسمي للنيل من المعارضة واتهامها بالوقوف خلف كل ما حدث بهدف العودة للسلطة الغائبة عنها منذ 15 عاما.
ونخالة القول إن حكومة الشيخة حسينة واجد، ربما نجحت في شيطنة المعارضة، لكنها لن تنجح في إخراسها، وستظل البلاد تعاني من القلاقل السياسية بين فترة وأخرى، جراء ما بات يعرف في الأدبيات السياسية الآسيوية بـ”حرب الأرمِلَتين” في إشارة إلى الشيخة “حسينة واجد” وخصمها اللدود “السيدة خالدة ضياء” اللتين تناوبتا على حكم بنغلاديش منذ سنوات، واقتصَّت كل واحدة من الأخرى بمجرد وصولها إلى الحكم.
وأثناء كتابة هذه المادة نقلت وكالات الأنباء أن الشيخة حسينة استقالت وغادرت البلاد إلى الهند بعد أن اقتحم المتظاهرون قصرها، وأن الجيش تولى قيادة البلاد. ولبنغلاديش قصة طويلة مع العسكر الذين لم ينجحوا قط في إدارة البلاد أو تحقيق أي أزدهار. وعليه لا ينتظر أن يسود الإستقرار إلا وقتيا.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي