من مميزات السياسات العربية في اسرائيل ، والتي يتمترس وراءها كل قادة أحزابنا الناشطة على الساحة السياسية ، واعلامهم الحزبي ، وخطابهم السياسي البرلماني ، وأدبياتهم الفكرية ، اذا صح ان نسمي جمودهم الفكري السياسي بادبيات ، هو التمسك بمقولات وشعارات تجاوزها الزمن ، وأضحت تراثا سياسيا يليق بان يتناولها علماء السياسة والاجتماع والتاريخ ، والمختصين بعلم النفس الاجتماعي ، ومراكز ابحاث المجتمعات المدنية ، لشدة غرابتها عن المنطق السياسي المعاصر ، واتباعها الأساليب والدلالات والمواقف التي لا تتغير ولو تغير المحيط الاجتماعي والعالمي كله ، واخترقته الحداثة ، التي يفترض ان تدفعنا الى خارج البوتقة الفكرية المغلقة التي أحسنا سدادها منذ نصف قرن على الأقل ، وقد تكون أدت دورها المنشود بنسبة مرتفعة من النجاح ، سياسيا واجتماعيا وثقافيا . وسنكون مهزلة لكل مفهوم سياسي ، اذا لم نستوعب ان واقعنا قد اختلف ، وان ما كان صحيحا التمسك به أمس أصبح اليوم من المهازل ، لأن لا شيء يبقى صحيحا أبد الدهر ، وهذا صحيح في السياسة ، وصحيح في الفكر ، وصحيح في الثقافة ، وصحيح في الفلسفة ، وصحيح في العلوم ، وصحيح في الطبيعة ، وصحيح في العلاقات الاجتماعية وصحيح في الأخلاق.فلماذا لا يكون صحيحا في تخطيط سياسات الأحزاب العربية في اسرائيل ؟
مقالي الذي نشرته قبل اسبوع تحت عنوان : ” زعماؤنا غادروا الوطن قسرا… ” أثار حنق أوساط سياسية واسعة ، ومع أني أعمل في موقع الكتروني ، الا أن المسؤول عن الموقع أصر على انزال المقال من الموقع ، بعد ان أغرقه نشطاء الأحزاب القلقين بعشرات التلفونات بسبب نشر مقال لا يتلاءم مع تطلعاتهم ، ولا يقع في محيط تنمية الأوهام بصحة سياسات زعمائهم ، وفاضت الاتصالات الغاضبة ( القلقة من الرأي الآخر) لدرجة ان مسؤول الموقع لم يعد مستعدا لتلقي المزيد ، ووجد راحة رأسه بانزال المقال المسكين ، رغم ان المقال الموقع يمثل آراء صاحبه فقط ، وهو مقال مكتوب بأسلوب قصصي ساخر ، لا ذكر فيه لأي اسم ، ومن المستحيل ايجاد كلمة واحدة تتجاوز الأخلاقيات الصحفية ، مليء بنقاش ونقد سياسي ، ولكني نسيت ان النقد والنقاش السياسي أصبح الد أعداء أحزابنا ، ويهربون منه كما يهرب الانسان من وباء قاتل . وأقسم بالله العظيم ، اني افهم هربهم .. ليس لأنهم لا يملكون اللسان القادر على المحاججة ، والمحاججة لا تحتاج كما تعلمون الى منطق ، بل الى صوت قوي مرتفع ، والى تكرار مقولات سياسية أضحت نكتة أكثر منها موقفا . والى التمترس بمواقف بعيدة عن العقلانية وعن المنطق. وعن الحقائق البديهية .
بالطبع المحتجين القلقين لم يكونوا طلاب الجامعات ، ولم يحتج ويقلق من المقال العامل الذاهب الى رزقه ، ولم يحتج التاجر الذي يعمل لكسب ما يقيت عائلته ، ولم يحتج الموظف الذي ينتظر ان يحقق له صناضيد السياسة العربية مكاسب أسوة بما تحققه منظمة المعلمين الثانويين مثلا بصمودها النضالي ، ولم يحتج العاطل عن العمل الذي يغرق في مشاكل مستعصية لا تنفعه فيها الشعارات الوطنية والثوروية التي تطلقها أحزابنا من اسطواناتها الأبدية ، ولم يحتج المزارع العربي القلق من الجفاف ومن حصص المياه القليلة بالمقارنة مع المزارع اليهودي . ولم يحتج ابن أقرت وابن برعم وابن صفورية وابناء اللاجئين في وطنهم ، والمنسيين بين كل دورتين برلمانيتين ، مع ان قراهم على مرمى حجر من مساكن اللجوء داخل الوطن .
من احتج اذن ؟
من أقلقه مقال ساخر قد يصح ان نسميه “قصة علمية خيالية” عن مجتمع احدى الكواكب التي تدور في الفلك الكوني بمسار غير مسار كوكب الأرض؟
لا ، لست قلقا من انزال مقال لي من موقع أعمل فيه ، ما يجعلني راضيا ان رسالتي وصلت . ما اردت التأكد منه انجز. هل من قيمة لمن يكتب دون ان يثير ردود فعل على ما يكتبه؟
ماذا يريد الكاتب أكثر من ايصال رأيه ومواقفه ونقده ورؤيته ، واثارة الاهتمام بما يكتب؟
المقال نشر في عشرات المواقع العربية ، وفي عدة مواقع عربية اسرائيلية.. الأمر الذي لم يعجبني ان حرية الراي للمواطن العربي في اسرائيل ، أصبحت تحتاج الى فتوى من نشطاء الأحزاب العربية . ان انزال مادة ، لا شيء فيها يناقض الأخلاقيات الصحفية أو السياسية ، هو أمر يعزز ما كتبته في بداية مقالي ، ان أحزابنا تتمترس وراء مفاهيم ومقولات عفا عنها الدهر وتجاوزها التطور.
ما زالوا يصرون على حلب الجحش . ما زالوا يصرون على طرح أفكار تيبست وخوت من المضمون . ما زالوا يصرون على اساليب ترهلت ولم تعد صالحة كأداة نضالية. ما زالوا يصرون على ظاهرة الصوت ، وكأننا كلما ارتفع صراخنا ، أكدنا مصداقيتنا أكثر. ما زالوا يصرون على مبادئ لم تعد قادرة على تبرير ذاتها ، وأصبحت قيمتها التاريخية في الفكر الانساني ، تتجاوز صلاحيتها للمجتمعات البشرية .
هل هذه اشارة الى عقم نقاشكم ومقارعتكم الحجة بالحجة؟
هل هذه اشارة الى خوفكم من أي تحول للأحسن ، اجتماعيا ، اقتصاديا وسياسيا في مكانة الجماهير العربية في اسرائيل ؟
هل دوركم النضالي أصبح وقف التحولات الدمقراطية ( مهما كانت بطيئة ، وأحيانا شكلية ) واصلاح الغبن في علاقة السلطة بالوسط العربي؟
هل تخافون من المساواة اذا جاء الوقت ليصبح تنفيذها محكوما بقانون مفصل واضح ؟
انا لا أفهمكم .. لا أتجاهل الواقع الصعب الذي أعطيت كل شبابي في مواجهته . لا اتجاهل المأساة القومية لشعبي ، ولكني أيضا أنظر الى الخروج من اشكاليات واقعنا ، الى الفضاء الأوسع .
نجرم بحق شعبنا وأبناء شعبنا اذا اعتقدنا وأصررنا ان يكرروا تجربتنا لأننا متعنتين وراء أفكار ثابتة لا تتغير.
نحن دفعنا الثمن الانساني حتى لا يضطر اولادنا لدفع نفس الثمن … ولكنكم تظهرون ارتباطا عضويا بالماضي ورفض لكل حقائق التغير، التي بعضها لا يمكن نفيه . ان عدم قدرتكم على رؤية امكانية ان نصل لانجاز أهداف نضالية طرحناها في اشد ساعات الظلمة حلكة ، يعني ان الزمن تجاوزكم فكرا ووعيا وخطابا سياسيا وقدرة على تحمل مسؤولية شعب ينشد الحياة الكريمة لنفسه ولأجياله الطالعة.
عالمنا اليوم ليس عالم الأمس . وغدا لن يكون شبيها بعالم اليوم .
لست واهما بالسياسات التي نواجهها ، ولكني لست مستعدا لاخفاء رأسي بالرمال . لا يمكن الاستمرار بسياسة كانت صحيحة قبل عقود او حتى قبل عقد واحد . مبنى مجتمعنا البشري والمادي اختلف . العالم حولنا يتغير بتسارع واستمرارية ، وعينا لم يعد محدودا ومؤطرا بمقولات مبرمجة ، لعصر من غير عصرنا . لكم الحق ، الشخصي فقط … في هذا الخيار ، ولكن ليس لكم الحق في فرضه بالتضليل والصراخ والكذب على الآخرين.
اذا كان يريحكم ان تكونوا خارج التاريخ ، فابقوا هناك وحدكم ولا تجروا شعبنا معكم .
ربما ما تطروحونه اليوم كان صحيحا بالأمس ، ولكنه لا يلائم ما نصبو اليه غدا.
استعرض كل سياساتكم في السنوات الأخيرة ، ولا أجد أي بادرة لطرح خطاب سياسي يعتمد على المنطق والفكر ، وليس على العواطف والصوت .
للأسف ان ما يعبر عنه بعض القادة العرب المحليين من مواقف حول طروحات مختلفة مصاب بالتباس شديد . في لقاءات مغلقة ، يؤيدون . وعندما يصل الأمر للأحزاب يتراجعون وينضوون وراء الأحزاب وينكرون ما سبق وأقروا بأهميته . هل من الضروري أن اذكركم بمواقف مسؤولين عرب ، من رؤساء بلديات ونواب رؤساء وهيئات اهلية وسياسية واكاديميين حول تأييدهم “لخطة فسكونسين ” مثلا ، ثم انكفائهم وارتدادهم بجبن بعد ظهور ان الموضوع لا يتلائم مع سياسات الأحزاب؟
هل اذكركم ان رؤساء بلديات ومجالس محلية ومحاضري جامعات عرب ، وشخصيات تقود هيئات عربية عليا تحمست لمشروع الخدمة المدنية ، وعندما ” فطنت “الأحزاب وارتعبت من التغيير المتوقع .. حدث تراجع وتغيير غير مبرر في مواقف المؤيدين ؟
أمتنع عن التفاصيل .. احتراما لحرية الموقف ، وحرية التغيير في الموقف ، بغض النظر عن دوافع التغيير.
ان ما ينشره البعض من نقد لمشروع الخدمة المدنية لا شيء من الصحة فيه ومبني على أوهام وفذلكات لغوية غير قائمة الا في الخطاب السياسي التضليلي للأحزاب العربية .
سأعود بتفاصيل المشروع الكاملة والرسمية، وبمسؤولية كاملة عن التفاصيل أمام كل مواطن شاب تشمله الخدمة المدنية … ولكني أكتفي اليوم بالقول ، ان مشروع الخدمة المدنية ليس بدعة اسرائيلية ، بل هو مشروع ينفذ في أكثر من 50 دولة متقدمة في مختلف أنحاء العالم .ونتائجه الايجابية ، على المستوى الشخصي والاجتماعي للمشاركين في المشروع ، التي نعرفها حيث يجري تطبيق الخدمة المدنية ، لا شيء سلبي فيها ، الا اذا اعتبرنا ان العمل التطوعي لمصلحة مجتمعنا ومؤسساته ، التعليمية والصحية والثقافية والتنظيمية والادارية وغيرها هو عمل مضر اجتماعيا ، ويخدم الاحتلال .. فقط لأننا ننفذه في مجتمعنا الذي عانى وما زال يعاني من سياسة تمييز قومي ، مارستها السلطة وما تزال تمارسها بمجالات هامة كثيرة.
تماما كما ثبت ان خطة فسكونسين لاعادة متلقي ضمان الدخل الى سوق العمل والحياة الكريمة ، أعطت مردودا ايجابيا ، وأنقذت عائلات كثيرة من براثن الفقر وتحويل الفقر الى الميراث الوحيد للأبناء ، كذلك سيتبين ان مشروع الخدمة المدنية سيعود بالفوائد على شبابنا ، ولن يجعلهم أشخاص بلا عمود سياسي واجتماعي ووعي انساني ، بل العكس هو الصحيح ، سيزيدهم اثراء على المستوى الشخصي ، سيزيد ارتباطهم بقضايا مجتمعهم ، سيزيد أمامهم فرص التقدم العلمي والمهني . وسينقذ مجتمعنا من الكثير من الظواهر السلبية وعلى رأسها الضياع والعنف بأشكاله الذي يقلقنا بسبب حياة الفراغ التي تواجهها الأجيال الناشئة .
انتم متمترسون في رفضكم .. آذانكم مغلقة ، وفهمكم مغلق مع سبق الاصرار . هذا حقكم لتمارسوه على ذاتكم . ولكن ما هو البديل الذي تقترحونه؟ كيف ستدعمون مؤسساتنا المدنية بالطاقات الشابة العاطلة عن النشاط الخلاق؟ هل باستطاعتكم التكفل بآلاف الشباب وتأمين احتياجاتهم واثرائهم الشخصي ، وفتح ابواب المستقبل أمامهم ؟ ماذا تقترحون لهم عدا الانعزال والفراغ والتخبط والانغلاق ؟
رجاء .. تنحوا وأعطوا للحياة ان تتقدم !!
– كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com