تتحول جماعة من الناس إلى مجتمع حين تتشكل لديهم مجموعة قيم مشتركة، تجعل من تجاورهم في المكان، ومعيشتهم المشتركة القائمة على الاعتماد المتبادل، وتفاعلهم مع عناصر البيئة التي يتحركون داخلها، حالة تلقائية تتم بيسر وسلاسة وانتظام، وتكفل لهم إطاراً يتحركون داخله، ويحصر في نفس الوقت الخارجين عليه، الذين اعتادت المجتمعات تسميتهم بالمنحرفين.
في المجتمعات الأكثر تعقيداً والأكبر حجماً، والتي ظهرت نتيجة للثورة الصناعية، بنزوح الناس من القرى، للانخراط في حياة المدن بتعقيداتها وتنوع مكوناتها، نجد داخل الإطار العام للمجتمع دوائر انتماءات صغرى، غالباً ما تكون متقاطعة متداخلة، وبعضها مستغرق داخل البعض، وتتنوع تلك الانتماءات ما بين انتماءات عرقية ودينية وحرفية مهنية وطبقية، بل وأيضاً جنسية (ذكر/ أنثى)، وعمرية (شاب/ كهل)، ولكل دائرة من تلك الدوائر مجموعتها القيمية الخاصة التي تتميز بها، ولا يشترط في التميز هنا معنى التضاد مع ما عداها من دوائر، وإنما هو التميز النابع من الطبيعة الداخلية لتلك الدوائر، كالتي تفرضها عقيدة أو مهنة يحترفها منتسبوها، أو المستوى الاقتصادي لأفرادها . . . . إلخ.
والمجتمع الصحي السليم والمستقر هو المجتمع الذي تتوافق فيه مجموعات القيم الصغرى، لتشكل منظومة قيمية واحدة، تتناغم مكوناتها، مفرزة مظلة تشمل الجميع، من قيم عامة تكون محل اتفاق كل من يقبلون الانخراط في هذا المجتمع، وعلى أساسها تقوم سائر علاقات الحياة المشتركة، وعلاقات الاعتماد المتبادل بين أفراد المجتمع، ونطلق على منظومة القيم هذه مسميات عدة، قد يكون بينها اختلافات في المضمون بقدر أو بآخر، فنسميها الأخلاق أو العرف أو التقاليد، وقد ننسبها كلها أو بعضها لمرجع سماوي، أو إلى الآباء والأجداد، أو إلى ما يسميه البعض بالناموس الطبيعي، وكلها محاولات لإعطاء منظومة القيم المجتمعية قيمة مطلقة في ذاتها، ببرهان قبلي مستمد من المرجعية التي نتصور أنها مشتقة منها.
إرجاع منظومة القيم إلى أصل متسام قد يفيد على المدى القصير، لتحفيز البسطاء من الناس على الالتزام بها كقيم مقدسة، وإن كان الواقع يقول أن تأثير هذا التصور محدود، مقارنة بالتزامهم خشية الوقوع تحت طائلة القانون، أو أن يكونوا محل استهجان وازدراء من المجتمع، علاوة على نسبة لا بأس بها من الالتزام –تختلف من شخص لآخر- نتيجة القناعة الداخلية بمحتوى تلك القيم وخيريتها، خاصة وأن نوازع التقوى الدينية كثيراً ما يتم تسكينها أو تجاوزها، عبر الاهتمام بالطقوس والالتزامات الشكلية، استجلاباً لرضاء الآلهة، واستدراراً للمغفرة على ما يتم ارتكابه من تجاوزات وانتهاكات عملية للقيم، أما على المدى الطويل، فتأثير نسبة القيم للمطلق يكون سلبياً، لما يؤدي إليه من صعوبة تغييرها مع تغير الزمن وتبدل الأحوال، وبعد تغير محتوى المفاهيم، وتغير علاقاتها مع سائر علاقات الواقع الجديد، بل ولا نعدم من يدعو إلى الارتداد إلى ما تم للواقع تجاوزه بالفعل من قيم، سواء في الثقافة أم الممارسة، وتتم تلك الدعوات بمبررات تقوية، تستمد قوتها من رسوخ الموروث الإيماني.
لكن المسكوت عنه غالباً هو المهمة الوظيفية (الفسيولوجية) لمنظومة القيم، والتي يرى البعض أنها الدافع الحقيقي لنشأة هذه القيم وتشكلها، وهي مهمة مطلوبة للمجتمع في جميع الأحوال لذاتها، وبعد وقبل كل محاولات الإسناد لمصادر متعالية مفارقة أياً كانت، فهي مطلوبة أولاً للمحافظة على تماسك الجماعة، بتحويلها من مجموعة أفراد متفردين Unique إلى عناصر في شبكة من العلاقات الحياتية، تعمل بسلاسة وكفاءة، ومطلوبة ثانياً بصفتها الأنسب لتمكين المجتمع من تحقيق غاياته وأهدافه، والتي تكون في المجتمع الليبرالي متضمنة لأهداف كل دائرة انتماء صغرى، وكل فرد فيه، ومن الواضح أن المهمة الوظيفية لمنظومة القيم تقوم على أساس مبدأ المنفعة، ويتم تقييمها على أسس بعدية تجريبية برجماتية.
الوظيفة التي تؤديها منظومة القيم للمجتمع أشبه بوظيفة الجهاز العصبي للإنسان، ذلك الذي ينظم حركة كافة أجزاء الجسم، لتعمل معاً في تناغم، وهو الذي يحدد طبيعة ردود أفعالها تجاه المثيرات خارجية وداخلية، وأخطر ما يمكن أن يصيب المرء هو إصابته في جهازه العصبي، لذا نزعم بقدر لا بأس به من الدقة واليقين، أن أغلب الاضطرابات داخل المجتمعات الإنسانية لابد أن يكون مرجعها إلى اختلال في منظومة القيم المجتمعية، بما يؤثر على دورها الوظيفي في شقيه، شق تحقيق التماسك والتناغم بين أفراد المجتمع، وشق تحقيق مصالحه، والذي يتضمن رؤية ومقاربة البشر لمكونات بيئتهم باختلاف معالمها، لتحقيق الحد الأقصى من الاستفادة من إمكانياتها الكامنة، في سياق أهداف المجتمع وغاياته، التي يمكن أن تندرج تحت مسمى عام، هو تحقيق الرفاهية للمجتمع.
نستطيع أن نرصد اختلال منظومة القيم المجتمعية في عدة مظاهر، مثل تكرار حوادث الصدام بين بعض مكونات المجتمع، أي بين دائرتين من دوائر الانتماءات الصغرى التي تتشكل منها الدائرة المجتمعية العامة، وهي ما نطلق عليه اصطلاح الفتنة الطائفية، التي يستسهل البعض إرجاعها إلى “قلة مندسة أو مارقة” أو “مؤامرة خارجية”، ومنها تكرار الاحتجاجات من فئة مجتمعية معينة، تحت وطأة الشعور بالظلم والتهميش، كالاضطرابات والإضرابات العمالية، وهبات سكان الأحياء العشوائية، المفتقدين إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة، منها أيضاً انتشار العنف في العلاقات بين الأفراد، أو بين النظام الحاكم والشعب أو العكس، نرصد اختلال القيم كذلك في وجود حالة من التسيب والسلبية واللامبالاة في المجتمع، وتفشي النفاق بالمجتمع، والاختلاف إلى حد التضاد بين الخطاب السائد، وبين الممارسة العملية على الأرض، حين يحدث تشبث ظاهري بالقيم السائدة على مستوى الخطاب، فيما تساير الممارسة دواعي الحياة ومتطلباتها، ولكن بالطبع بصورة مشوهة ومرضية، كما لابد وأن نشير إلى اختلال القيم، في حالة تردي أحوال أي مجتمع، وفشله في تحقيق غاياته وأهدافه.
عديدة هي الأسباب المؤدية إلى اختلال منظومات القيم المجتمعية، ولنحاول رصد ما يسمح به المجال منها:
· تتوقف كفاءة أي منظومة قيم على مناسبتها لأداء وظيفتها (التجميعية والنفعية)، على مدى تطابقها مع واقع الحال، بما يشمله هذا الواقع من عناصر بشرية ومادية وثقافية واقتصادية (في أساليب الإنتاج مثلاً)، وحين يتغير واقع الحال هذا في بعض أو كل عناصره بفعل سنَّة التطور، ثم يعجز المجتمع عن التطور التدريجي والناعم لمنظومة قيمه، لتبقى على درجة مناسبة من التوافق مع الواقع المتغير، سواء رجع هذا الجمود إلى فشل في الإدارة المجتمعية، أو إلى رسوخ تصور منشأ مطلق للقيم يحتم ثباتها، فتنفصل عن جذرها العملي، لتصير متسامية مفارقة، فإن النتيجة أن تفاجأ مثل تلك المجتمعات يوماً ما بتصدعات متسارعة في بنيانها، لا تكون في هذه الحالة قادرة على تداركها، ذلك أنها ستبحث عن الحلول لإشكاليتها، وهي أسيرة الداء المسبب للأزمة ذاتها، ستبحث عن حلول تتوافق مع ما تسميه خصوصيتها وقيمها الأصيلة، في حين أن هذه القيم والخصوصية هي ذاتها موطن الداء!!
· في حالة تعرض مجتمع لضغوط فائقة لفترة زمنية طويلة، نتيجة استبداد وقهر سياسي واجتماعي، مصحوب بتردي الوضع الاقتصادي، يحدث تحت تأثير هذه الظروف أن يتحلل الناس تدريجياً من منظومة قيمهم، لتستشري قيم مضادة، تهدف للخلاص الفردي، على حساب أي شيء وكل شيء، فيكف المجتمع مثلاً عن تجريم المختلس للمال العام، كما لو كان يقوم باستخلاص جزءاً من الحقوق المهضومة بواسطة الحاكم المستبد، ونرى المجتمع يثمن قيم وممارسات النفاق والوصولية، باعتبارها أدوات يستخدمها الأذكياء لخلاص أنفسهم، وقد ينحت ألفاظاً للتعبير عنها مثل (فتاكة وفكاكة وجهزنة)، ويصل الحال أن يعتبر من يتمسك فعلياً بمنظومة القيم الأصلية ساذج أو مثالي أو عبيط، ونلاحظ هنا أن القيم الأصلية تبقى هي السائدة في الخطاب الرسمي العام وحتى الخاص، بل وتزداد وتيرة الدعوة لها والتشدق بها، بينما تحكم الواقع منظومة تحتية مضادة تماماً، غالباً ما يتم التغطية عليها بالمبالغة في التمسك بمظاهر التقوى والصلاح، والانخراط في مجادلات ومعارك حول قضايا قشرية، لا تنبئ إلا عن خواء الداخل وتحلله.
· يحدث أيضاً لمنظومة قيم مستقرة ومتسقة، أن تتسلل إليها (نتيجة أسباب عديدة، قد يرجع بعضها لخلل داخلي) قيم غريبة من بيئة مخالفة، قد تكون مناسبة لبيئتها الأصلية، وقد تمثل استيراداً لقيم بدائية غير صالحة لتكوين مجتمعات حديثة من الأساس، المهم أن هذه القيم إذا ما تسللت لمنظومة قيمية مستقرة، كفيلة بتدميرها، مثال القيم الدينية الوهابية، المستولدة في بيئة تناحر وصراعات قبلية بدائية صحراوية، فإذا ما تسللت إلى المجتمع المصري ذي البيئة الزراعية الصناعية، بدوائر انتماءاتها البشرية المتنوعة والمتناغمة، فإنها كفيلة بتدمير هذا المجتمع من الداخل، وهذا ما يحدث حالياً في مصر، وفي العديد من الأقطار والمجتمعات، التي تخطت مرحلة البداوة وقيمها البدائية، لتعود هذه القيم لتغزوها من جديد، مدججة بسيوف وخناجر البترودولار.
· قد يحدث أيضاً خلل في التناغم بين القيم الفرعية الخاصة بدوائر الانتماءات الضيقة، فتتمدد قيم دائرة لتحكم دائرة أخرى على الطرف النقيض، فتحدث حالة من التضارب والاضطراب ومن ثم الفشل، مثل حالة سيطرة العسكريين بقيمهم على السلطة السياسية بالدولة، كما حدث في مصر إثر انقلاب يوليو 1952، وكما سيطر الرهبان بقيمهم على قيادة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فأصابوها بالعقم والتناقض الداخلي، الذي يؤدي حتماً إلى تداعيات وبيلة، وهو ما نرصده حالياً في الكنيسة من تصدعات وانشقاقات ومحاولات جاهدة (وربما يائسة) للإصلاح، فالرهبان بقيم العزلة وهجر العالم والتفرغ لعباد الله في الصحراء، وبتطهرهم عن ممارسة الجنس، والنظر إليه نظرة دونية، وبإعلائهم لقيمة الطاعة، كقيمة ربما تكون ضرورية لانتظام مجموعات الرهبان في الصحراء، وبالزهد في ملذات الدنيا، والاكتفاء بما يحفظ الرمق من غذاء وكساء ومسكن، وتجاهل هذه الحياة الدنيا، والتطلع إلى الحياة الآخرة في السماء، والإنكار التام للذات، وتقبل الإيذاء والإهانة في صبر وتقوى لا حدود لها، كل هذه القيم إذا ما جلبها الرهبان معهم من شقوق الجبال، وفرضوها على الشعب القبطي الذي يحكمونه كأساقفة وبطاركة، وقدموها له على أنها هي التعاليم المسيحية، وليست كما هي بالحقيقة قيم لحالة خاصة، هي حالة الخروج الاختياري من الحياة للتفرغ للعبادة، ماذا نتوقع أن تكون النتيجة غير تدمير أو الأصح تخريب الثقافة القبطية، لتنتج الكنيسة إنساناً لا يصلح لأي شيء، فلا هو يصلح للرهبنة، ولا هو يصلح للحياة في العالم وتحقيق النجاح، ويجد نفسه في حالة انفصام بين الفكر الذي تم حقنه به، وبين متطلبات الحياة العملية، ولا يكون له من مهرب غير النفاق وازدواجية الخطاب والممارسة، وهو البوابة الملكية لما نعرفه بالفساد بكل أنواعه، الديني والمالي والأخلاقي والاجتماعي.
الأمثلة العملية المعيشة على حالات تداخل القيم واختلاطها أكثر من أن تحصى في مجتمع مريض باختلال القيم كالمجتمع المصري، وكل مثال منها يحتاج إلى دراسة مستقلة، لكن الخطير أو المحبط في الأمر أن مسيرة الإصلاح في هذه الحالات عسيرة للغاية، ذلك أن المصلح يعمل في عكس اتجاه التيار العام، لينظر إليه من يعمل جاهداً لصالحهم وكأنه عدوهم اللدود، وكيف لا يرونه كذلك وهو يخاطبهم بما هو ضد لكل ما صاروا يؤمنون به كحقائق مطلقة؟!!
قد تتعرض أمة للتدمير المادي الكامل، كما حدث لألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها لا تلبث أن تعيد بناء ما تهدم، إذا ما كانت منظومة قيمها سليمة، أو قابلة للتعديل وفق ما تغيرت إليه الأحوال، أما حين تتصدع منظومة القيم، أو يتجاوزها الزمن، فتصير في ذاتها أزمة، لتكون هي الداء الحقيقي لكل ما يبدو على السطح من مظاهر للتردي في مختلف المجالات، فإن المصير هنا لابد وأن ينبئ بجلاء عن كارثة وشيكة!!
نقلاً عن إيلاف
kghobrial@yahoo.com