في كورسيكا ولد نابليون بونابرت، وفي هذه الجزيرة أراد ماكرون التأكيد على عودة فرنسا القوية والواحدة، لكن الحكمة تقتضي نظرة أكثر مرونة حتى لا تبقى خصوصية كورسيكا ممنوعة من الصرف.
تستمر أزمة إقليم كتالونيا مع الحكومة المركزية الإسبانية بسبب تداعيات استفتاء العام الماضي، وتبرهن عن التنازع حول الهوية والانتماء ما بين الخصوصية الإقليمية من جهة والهوية الوطنية الشاملة من جهة أخرى. وهذا الاستقطاب نجده في أكثر من بلد أوروبي واليوم تظهر على السطح من جديد المسألة الكورسيكية في فرنسا إثر زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى جزيرة كورسيكا، هذا الأسبوع، ورفضه تقديم تنازلات للوطنيين فيها. لكن الرهان على الحزم من قبل سيد الإليزيه لا يكفي لوحده في مواجهة هذا الصعود لخطاب الخصوصية والتميز عند الشعب الكورسيكي، ويبدو أن مسار العلاقة بين الدولة الفرنسية وهذه الجزيرة المشاكسة سيشهد اختبار قوة وصراع إرادات على المدى الطويل.
عبر تاريخها، لا تعدّ جزيرة كورسيكا المتوسطية جزيرة الجمال فحسب في عالمي الجغرافيا والسياحة، بل إنها أيضا جزيرة المتاعب بالنسبة لفرنسا التي ضمتها إليها بناء على معاهدة فرساي في 15 مايو 1768 الموقعة مع جنوة. ومنذ ذلك الحين كانت تشوب هذه الصلة الكثير من التجاذبات وصلت حد إطلاق “الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا” في 1976 التي اعتمدت العنف للوصول إلى الاستقلال والانفصال عن الجمهورية الفرنسية.
بيد أن سياسات الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران (1981 – 1995) لناحية اعتماد اللامركزية والمجالس الإقليمية أدت لإحباط هذا التوجه وعزله. ومع عودة اليمين إلى الرئاسة في فرنسا توتر الوضع من جديد وحصلت انتكاسة كبيرة في 1998 عند اغتيال المحافظ كلود إرينياك على يد كوماندوس قاده إيفان كولونا المعتقل في باريس.
ومن المفارقات أن المحامي الذي دافع عن القومي الكورسيكي ما هو إلا جيل سيميوني رئيس المجلس التنفيذي في الجزيرة وهو من القياديين القوميين الذين اكتسحوا الانتخابات الإقليمية المحلية في ديسمبر 2017 وتولي التيار الوطني الكورسيكي زمام الأمور في الجزيرة منذ بداية 2018.
من ميدان العنف إلى الميدان السياسي، شهدت الحركة القومية الكورسيكية مخاضا صعبا خلال تحولاتها، لكنها تمسكت بمطالبها الثقافية والاقتصادية والتركيز على خصوصية تمهد للاستقلال. فبعد طي صفحة العمل السري والعنف الثوري في عام 2014، توصلت الحركة القومية للفوز بثلاثة نواب من أصل أربعة عن الجزيرة في انتخابات يونيو 2017، ثم تحصلت على أكثرية مطلقة في الانتخابات المحلية في ديسمبر الماضي.
تركيز الاتحاد الأوروبي على المناطق بعيدا عن العواصم المركزية منح مساحات للتنمية الإقليمية وأسهم بتطور إيجابي لمسارات الجماعات القومية ضمن الدول الوطنية المركزية في أوروبا، خاصة بعد النهاية السعيدة للصراع الأيرلندي وحل منظمة ثوار الباسك، مما أدى لمزيد من الواقعية والاكتفاء يطلب الاعتراف بالخصوصية وتطوير الحكم الذاتي بدل الانفصال والاستقلال.
وهكذا لا يطالب القادة الكورسيكيون الحاليون (أبرزهم رئيس المجلس التنفيذي جيل سيميوني ورئيس البرلمان المحلي جان- غي تالاموني) باستقلال الجزيرة بل الاعتراف بخصوصيتها وإدراج ذلك في الدستور الفرنسي. وعلى مثال بعض أقاليم فرنسا وراء البحار (كاليدونيا الجديدة والمارتينيك) يطالب القوميون الكورسيكيون بمنح الجزيرة وضعا ضريبيا واجتماعيا خاصا، والاعتراف بلغتها كلغة رسمية أخرى ونقل السجناء الكورسيكيين إلى مسافة أقرب من الجزيرة.
طرح هؤلاء القادة ذلك في سياق ما أسموه “حوار من دون محرمات” آملين إحراج الرئيس ماكرون انطلاقا من وعده خلال الحملة الانتخابية، إذ قال في 7 أبريل 2017 إن “كورسيكا لها كل مكانها في الجمهورية لأن الجمهورية قوية بما فيه الكفاية من أجل استيعاب كل الخصوصيات داخلها”.
لكن سعي القوميين الكورسيكيين لحوار متكافئ رأى فيه ماكرون خطرا لأنه يمكن أن يعني تساويا من ناحية الشرعية ومفتاحا لعدوى يمكن أن تصيب أقاليم فرنسا وراء البحار وبعض المناطق (الباسك، كتالونيا وبريتانيا في الغرب) ويذكر ذلك بالانفصام بعد الثورة الفرنسية بين “الجاكوبيين” الجمهوريين المتشددين المركزيين، و”الجيرونديين” الوطنيين المعتدلين من أنصار الفيدرالية.
وفي هذا السياق نتفهم إعلان ماكرون عن الصلة غير القابلة للذوبان التي توحد كورسيكا مع الجمهورية؛ وتقديم تنازل يتيم يقضي بإدراج اسم كورسيكا في الدستور من دون تحديد المادة (72 أو 73) لأنه تبعاً لذلك هناك صلاحيات وتبعات. والغريب أن تشدد ماكرون يأتي في الوقت الذي تراجع فيه مطلب الاستقلال وتكلم تالاموني القومي عن وجوب عدم تضييع فرصة حل نزاع مزمن.
يتضح أن الروابط التاريخية بين الجزيرة وفرنسا، ووضع كورسيكا كونها أكثر المناطق فقرأ والأقل جذبا للاستثمار، يجعلها سوف تفكر مرتين قبل الإبحار منفردة. ولذلك لا مقارنة مع مطلب استقلال كتالونيا الذي يقوم على ازدهارها الاقتصادي. من أجل الاحتواء، أعلن ماكرون سلسلة من التدابير الاقتصادية كانت موضع ترحيب، لكنه رفض المطالب الأخرى مخافة أن تكون بمثابة أداة لتبرير طلب الاستقلال لاحقا وفتح باب العدوى. لكن ما لا يمكن إنكاره أن الجزيرة تحتفظ، داخل فرنسا بشخصية منفصلة، وتتمتع بثقافة مرنة، تستحق اعترافا خاصا، وهذا لن يؤدي تلقائيا إلى الاستقلال.
في كورسيكا ولد نابليون بونابرت، وفي هذه الجزيرة أراد ماكرون التأكيد على عودة فرنسا القوية والواحدة، لكن الحكمة تقتضي نظرة أكثر انفتاحا ومرونة حتى لا تبقى خصوصية كورسيكا ممنوعة من الصرف.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
khattarwahid@yahoo.fr