لم تكن السنة 2017 ذكرى مرور نصف قرن على هزيمة العام 1967 التي لا تزال المنطقة تعاني من تداعياتها الى اليوم. ففي 2017، يوم الثلاثين من تشرين الثاني – نوفمبر تحديدا، مرّت ذكرى مرور خمسين عاما على هزيمة أخرى من نوع آخر ذات طعم آخر. انّها ذكرى اعلان استقلال دولة عربية عاشت ثلاثة وعشرين عاما فقط ( من 1967 الى 1990).
كان الاسم الرسمي لتلك الدولة، التي لا يمكن ان تقوم لها قيامة في يوم من الايّام، “جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية“. ظهر ذلك الاسم بعد اعتناق حكام الجنوب النظرية الماركسية في العام 1978. كانت مدينة عدن عاصمة اليمن الجنوبي. تُعتبر عدن احد اهمّ الموانئ العالمية. صارت عدن اليوم مدينة مهملة تعاني من كلّ أنواع التخلّف والتطرّف الديني بعدما كان فيها ناد لكرة المضرب تأسّس في العام 1902، كما كان يخبرني الصديق الدكتور عبدالله عبد الولي، ابن عدن، الذي سعى بعد الوحدة اليمنية وفي اثناء توليه حقيبة وزارة الصحّة الى إعادة احياء تلك الرياضة في اليمن كلّه.
كان استقلال الجنوب اليمني من أسوأ ما حدث لبلد، كان مجموعة من السلطنات والمشيخات. لم يمتلك اليمن الجنوبي ايّ مؤهّلات في أي وقت لادراة شؤونه بنفسه. على العكس من ذلك، كان الاستقلال بمثابة عقوبة لاهل الجنوب اليمن، ذلك ان الذين حكموا بعد الاستقلال سارعوا الى تفريغه من الكفاءات وطرد كلّ أولئك الذين كانوا يمتلكون صفات معيّنة تسمح لهم بالمحافظة على الحدّ الأدنى من الحضارة والنظام اللذين ميزا فترة الاستعمار البريطاني.
خرج من عدن معظم أصحاب المؤهلات. خرج عمليا أولئك الذين شكلوا ثروة اليمن الجنوبي، وهي الثروة الانسانية اوّلا. هناك من انتقل الى الشمال وهناك من انتقل الى دول الجوار، على رأسها المملكة العربية السعودية حيث للجالية الحضرمية وضع خاص بها، خصوصا في مجال الاعمال والمصارف وشركات البناء والخدمات.
اكثر من ذلك، عاد كبار التجار في عدن، وهم في معظمهم من تعز، الى مسقط رأسهم وساهموا في بناء مصانع وتنشيط الاقتصاد في ما كان يعرف، قبل الوحدة، بـ”الجمهورية العربية اليمنية”.
طوي العلم البريطاني في الثلاثين من تشرين الثاني – نوفمبر 1967 وطويت معه سنوات طويلة من الازدهار والاحتكاك بالعالم وكلّ ما هو حضاري فيه. انتهت عدن، التي بدأت تعاني من اغلاق قناة السويس بعد حرب حزيران – يونيو 1967، مع خروج البريطانيين منها. لا يترحّم على عدن وعلى الجنوب اليمني الذي كان أبناؤه يتعلمون في الخارج، في بريطانيا ومصر ولبنان، سوى أولئك الذين يمتلكون شجاعة رؤية الأشياء كما هي بدل الدخول في متاهات من نوع الإشادة بجمال عبد الناصر وشعاراته التي انتشرت في الجنوب اليمني كالنار في الهشيم. ما زالت شخصيات يمنية تمتلك ثقافة سياسية جدّ متواضعة تشيد بعبد الناصر وافضاله على اليمن الجنوبي. لا ترى فكره الضحل القائم على اجتياح الريف للمدينة الذي ادّى في مرحلة لاحقة الى قيام الحزب الاشتراكي المؤمن بالماركسية – اللينينية التي وجد من يريد الاقتداء بها في الجنوب اليمني حيث المجتمع عشائر وقبائل ومناطق…
بدأت الجمهورية التي قامت في الجنوب اليمني بداية خاطئة. من لم يصفّ جسديا، من أبناء العائلات المحترمة ومن ذوي الكفاءات، جرى تهجيره. كذلك هجرت الجاليات الأجنبية المختلفة والأقلية اليهودية التي ساهمت في ازدهار عدن واغناء النسيج الاجتماعي فيها. هل ذهبت الجمهورية التي استقلت في جنوب اليمن ضحيّة التخلص الباكر من النخب في المجتمع ام راحت ضحيّة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وبحث موسكو عن موطئ قدم لها في شبه الجزيرة العربية؟
بين العام 1967، ويوم تحقيق الوحدة في الثاني والعشرين من ايّار – مايو 1990، كان اليمن الجنوبي مسرحا لسلسلة من الحروب الاهلية والاغتيالات توجت باحداث الثالث عشر من يناير 1986 التي كانت المؤشر الى نهاية دولة الجنوب والنظام القائم.
هناك لائحة طويلة بالتصفيات المتبادلة التي شهدتها ما كان يسمّى “جمهورية الديموقراطية الشعبية” التي لم تكن لا جمهورية ولا ديموقراطية ولا شعبية. في احدى المرّات جرى التخلّص من خيرة السفراء الذين وضعوا في طائرة واحدة جرى تفجيرها في الجوّ. كان ذلك في الثلاثين من ابريل 1973 في مرحلة الاعداد لقيام نظام الحزب الواحد. قتل في تفجير الطائرة اثنين وعشرين سفيرا كانوا خيرة الديبلوماسيين اليمنيين الجنوبيين وكانوا يمثلون الوجه المشرق لدولة شابة في حاجة الى افضل الناس فيها وليس الى اشباه اميين يعرفون بالكاد القراءة والكتابة ولا يتقنون سوى لغة الغدر والقتل.
بعد نصف قرن على الاستقلال، يتبيّن ان ليس في الإمكان استعادة تجربة اليمن الجنوبي كدولة مستقلّة. يمكن إقامة اكثر من دولة في الجنوب. تستأهل حضرموت ان تكون مستقلّة… اما عدن فيمكن ربطها بتعز عاصمة الوسط واكبر مدن اليمن بشماله وجنوبه.
عاش اليمن الجنوبي دولة مستقلّة ثلاثة وعشرين عاما. عاش في ظلّ الوحدة سبعة وعشرين عاما. اذا كان من خلاصة يمكن استنتاجها من تجربة الاستقلال، فهي انّ الجنوب اليمني، بخريطته السابقة، ليس دولة قابلة للحياة بايّ شكل. كلّ كلام عن العودة الى صيغة الشطرين او الدولتين المستقلتين في اليمن هو كلام بعيد عن الواقع. لا مفرّ من البحث عن صيغة جديدة لليمن كلّه بشماله وجنوبه ووسطه.
في النهاية، لم تكن الوحدة اليمنية سوى نتيجة طبيعية لانهيار دولة الجنوب التي لم يستطع زعماؤها المحافظة عليها. لم يمتلك هؤلاء الجرأة الكافية للاعتراف باخطائهم وبان الوحدة كانت سقوطا للنظام وانقاذا لاهل النظام، الذين لا أجوبة لديهم، الى الآن، عن الاسباب التي دفعت الى اغتيال هذه الشخصية او تلك. لماذا اعدم محمد صالح مطيع في العام 1980 مثلا؟ الم يكن من سبيل آخر غير اللجوء الى المجازر المتبادلة بين علي ناصر محمّد وخصومه في العام 1986. الم يكن من سبيل آخر غير التخلّص من سالم ربيع علي جسديا في 1978؟
لا وجود لجواب مقنع سوى الاختباء خلف كلام من نوع ان الجنوب كان “دولة” وكان يمتلك “مؤسسات”. الحقيقة انّه لم يكن سوى نظام امني ومجموعة من الهواة في السلطة استخدمهم الاتحاد السوفياتي في مرحلة معيّنة لاغراض خاصة به. قضت المصلحة السوفياتية في بعض الأحيان بإيواء تنظيمات فلسطينية مارقة في عدن. تخصصت احدى هذه المنظمات بسرقة المصارف وغير المصارف في بيروت على سبيل المثال وليس الحصر.
كان استقلال الجنوب اليمني فرصة ضائعة. ماذا بقي من هذا الاستقلال بعد مضيّ خمسين عاما على ذكرى الثلاثين من تشرين الثاني – نوفمبر 1967. تبقى الحاجة الى الاعتراف بانّ ما ضاع لا يمكن استعادته… لا يمكن بكل بساطة استعادة ايّام الاستعمار حين كانت في عدن مدارس محترمة ونظام بريدي وتجار كبار وحلم بغدٍ افضل لا علاقة له بثقافة التخلّف التي تغلغلت في المجتمع، خصوصا بعد غزوة الاخوان المسلمين لعدن وكلّ مدينة من المدن اليمنية…