قال ناطق باسم وزارة الداخلية السعودية، قبل أيام: “إن الأنظمة المعمول بها في المملكة تمنع كل ما يخل بالسلم الاجتماعي، ويفتح باب الفتنة، ويستجيب لأوهام ذوي الأحلام المريضة، من المغرضين والدخلاء والمتربصين، لذا فإن وزارة الداخلية لتؤكد للجميع بأن الجهات المختصة سوف تباشر تطبيق الأنظمة بحق المخالفين كافة بكل حزم وقوة، وتقدر في الوقت ذاته ما عبر عنه كثير من المواطنين، من أهمية المحافظة على الأمن والاستقرار، والبعد عن كل ما يدعو إلى فرقة وتصنيف المجتمع”.
في هذا الكلام مفردات كبيرة وخطيرة مثل السلم الاجتماعي، والفتنة، والأوهام، والأحلام المريضة، ناهيك عن المُغرضين والمتربصين والدخلاء، الذين يهددون الأمن والاستقرار، ويدعون إلى الفُرقة، وتصنيف المجتمع.
فما المناسبة، ومَنْ هم هؤلاء، وما هي المشكلة؟
المناسبة أن بعض الناشطات دعون إلى التظاهر دفاعاً عن حق النساء في قيادة السيارة، وأن الدعوة، وما رافقها وتفرّع عنها من ردود وردود مضادة على صفحات التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام، أثارت أزمة صغيرة يمكن أن تكبر ما لم يتم تطويقها من جانب الحريصين على “الأمن والاستقرار، ومعارضي الفتنة وتصنيف المجتمع”.
ولكن هل في قيادة المرأة للسيارة ما يهدد الأمن والاستقرار، ويخلق الفتنة، ويؤدي إلى تصنيف المجتمع؟
الجواب: نعم، إذا طُرح السؤال في السعودية، فهي البلد الوحيد في العالم، الذي تُحرم النساء فيه من حق قيادة السيارة. (بالمناسبة، في قطر لا تحصل المرأة على رخصة لقيادة السيارة، إلا بعد موافقة ولي الأمر، وإثبات أن ضرورات الحياة المهنية والعامة تستدعي قيادة السيارة). لا بأس.
وقد لفت انتباهي، من بين الردود “الشعبية” المعادية لحق النساء في القيادة، موقف لداعية من أعضاء جهاز الحسبة (يعني الشرطة الدينية) صاغة في “قصيدة” دافع فيها عن “دعوة التوحيد”، و”محاربة الشرك”، و”السحر”.
وفي السياق نفسه، أوردت الأنباء خبر خطاب وجهته “ناشطات وأكاديميات” إلى الديوان الملكي، يتضمن “أوجه الاعتراضات الشرعية والاجتماعية والاقتصادية والنظامية لقيادة المرأة للسيارة، ومنها الفتوى الصادرة عن هيئة كبار العلماء بتحريم قيادة المرأة للسيارة، وما يتعلّق بالجانب الأسري والاجتماعي، والحفاظ على المرأة من مخاطر القيادة”. يعني، خلاصة الكلام أن ثمة “ناشطات وأكاديميات” يدعمن “جهاز الحسبة”.
ولعل أطرف المعارضين لقيادة المرأة للسيارة شيخ كتب على صفحته على الفيس بوك “قيادة السيارة ليست كرامة، وإلا لما ترفع عنها الرؤساء، والوزراء، والكبراء، بل جعلوا أنفسهم في الخلف، كي لا يجاوروا المقود”.
ولكن ما علاقة التوحيد، والشرك، السحر، والكرامة، بحق النساء في قيادة السيارة؟
أتوقع، وأعرف، كل الردود الذكورية المحتملة، وكذلك، التأويلات المجافية للمنطق، والعقل، وفي الرد عليها مضيعة للوقت. لكن دعم “الناشطات والأكاديميات” لجهاز الحسبة يستحق تعليقاً صغيراً، مفاده أن الأصوات الأكثر عداءً لحقوق النساء، في كل مكان من العالم، غالباً ما تكون نسائية، ويتجلى فيها تذويت وإعادة إنتاج العنف الاجتماعي، والقمع الذكوري للنساء، وكلاهما تاريخي بامتياز.
ومع هذا، وفوقه، وقبله، وبعده، المشكلة مع صاحب “القصيدة” داعية التوحيد، ومحارب الشرك، والسحر، وأصحابه، ومنهم المفكّر الذي اكتشف العلاقة بين الكرامة والمقود، أن معركة هؤلاء ضد المشركين والسحرة، والمقود، لا تنحصر في السعودية، طالما أن طموحاتهم، ومواردهم المالية، تمكنهم (ومكّنتهم) من التوّسع في العالم العربي.
بمعنى آخر، في الكتابة عن هؤلاء لا يقتصر الأمر على مشكلة النساء في السعودية، بل ثمة ما يبرر توسيع زاوية النظر للتذكير بحقيقة أن في تناول تلك المشكلة، ما ينطوي على، ويحمل دلالة، حماية ما نالت النساء من حقوق في القاهرة، وبيروت، وبغداد، وفي كل مكان آخر من العالم العربي، ظهرت فيه، في العقود الأخيرة، أيديولوجيات وأفكار تستلهم نموذج الحسبة، وجهاز الشرطة الدينية، وتسعى إلى فرض إرادتها بالقوة.
للتدليل على أمر كهذا سأعود إلى مقابلة أجرتها جريدة الوطن المصرية في الثاني من يناير 2012، مع شخص يدعى هشام العشري، اشتغل في خياطة الملابس في الولايات المتحدة، وعاد إلى مصر لإنشاء جهاز للحسبة، في ظل صعود الإخوان إلى سدة الحكم في القاهرة، وظهر على قناتي الحافظ والخليجية للترويج لدعوته.
وفي المقابلة المذكورة تسأله الصحيفة: “هل يوجد تعاون بينكم وبين هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في السعودية؟”. يرد (بعد صمت): “لا تعليق، ولكن وارد الاستعانة بالهيئة، ونسترشد بخبراتهم وأفكارهم، ووارد أن نأخذ منهم كل ما هو مطابق للشريعة”. وعن رأيه في المسرح والسينما يقول: “ومن يوم اختراع السينما والمسرح، ونحن نشهد هبوطاً كبيراً، والفن لم يقدم أي خدمة للمجتمع، وعلشان نجحنا في السينما فشلنا و”خربنا” في كل حاجة، لذلك بناقص سينما ومسرح وفن، كل هذا حرام شرعاً”.
وعن المسيحيين يقول: “سيتم دعوتهم إلى الدين الإسلامي، ونقوم بتوزيع منشورات وبيانات أمام الكنائس، وسنقوم بطبع كتب وعقد مؤتمرات لتوعيتهم بالدين الإسلامي، نحن نحبهم ولا نريدهم أن يعتنقوا ديناً يدخلون به النار لا الجنة، وإذا لم ترضَ القبطية بالإسلام، فيجب أن ترتدى الحجاب حتى لو كانت غير مقتنعة”.
وإذا افترضنا، جدلاً، أن هذا الشخص سيستفيد من خبرات صاحب “القصيدة”، ومُكتشف العلاقة بين الكرامة والمقود، ومرافعة “الناشطات والأكاديميات” حليفات جهاز الحسبة، في موضوع قيادة المرأة للسيارة، فهذا يعني ألا نُسقط من الحسبان احتمال أن يظهر في القاهرة، وبيروت، وبغداد، وتونس، والرباط، والجزائر، ودمشق، مَنْ يدعو لتجريد النساء من الحق في قيادة السيارة.
فهل في قيادة النساء للسيارة ما يهدد دولاً ومجتمعات؟ الجواب: نعم. فتّش عن مكان ومكانة المرأة، كلما فكرت في السياسة.
khaderhas1@hotmail.com