ثمة شعور متناقض لدى سكان المناطق الحدودية الشمالية والشرقية مع سوريا، ولا سيما تلك التي تشكّل حاضنة اجتماعية للمعارضة السورية والنازحين المؤيدين للثورة السورية، حيال الدور الذي يقوم به الجيش اللبناني على حدودهم المتداخلة مع الجانب السوري، التي تُركت منذ الاستقلال بين مد وجزر العلاقات اللبنانية – السورية وانعكاساتها السياسية والأمنية والاقتصادية وحتى الاجتماعية على قاطني تلك المناطق..
فهؤلاء يُبدون ملامح ارتياح لبدء تعزيز تواجد الجيش، الذي تمّ في بعض النقاط الساخنة على الحدود المأهولة التي تنتشر عليها، من الجانب السوري، القوات النظامية المدعومة بالدبابات والأسلحة الثقيلة، والهجّانة السوريون، فيما لا تمركز فعلياً لآليات عسكرية على الجانب اللبناني. وجُل ما هناك أفواج حرس الحدود المسندة إلى الجيش، بعدما استجدّت تلك المهمة، في ضوء متطلبات قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الذي طلب من الحكومة اللبنانية ضبط الحدود ونقاط الدخول من عمليات تهريب السلاح والعتاد إلى لبنان، الآتية عملياً إلى «حزب الله».
لكن هذا الارتياح يمتزج باقتناع بأن قرار الحكومة لتعزيز هذا الانتشار، وبدء تنفيذه العملي ما كان ليتم لو لم يكن يصب أولاً في خدمة حماية القوات النظامية السورية، ولولا لم يصبح اليوم مطلباً سورياً للنظام السوري الذي كان، حتى اندلاع الأحداث لديه، أمراً مرفوضاً، آل عملياً إلى تمييع تنفيذ القرار الدولي، وشل إمكان طلب المساعدة من قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان لتحقيق ذلك، وآل تالياً إلى عدم جهوزية أفواج حرس الحدود عديداً وعدة.
ميوعة الحكومة جعلت الجيش مكشوفاً داخل نقاط التصدّعات السياسية والطائفية
وسواء كان هذا الشعور المتناقض فطرياً أو مسيّساً، فإنه يعكس المناخ السياسي المنقسم في البلاد حول الأزمة السورية، وحول سياسة الحكومة حيال تلك الأزمة، ويُلقي بظلاله على الموقف من بعض القوى العسكرية والأمنية، ومن بينها المؤسسة العسكرية، التي يسود اقتناع لدى فريق واسع من قوى الرابع عشر من آذار وجمهورها أنها أضحت تحت جناح «حزب الله» وأكثر التصاقاً به، ولا سيما بعد أحداث السابع من أيار 2008، وبعد إحكام الحزب سياسياً قبضته على البلاد عقب الإطاحة بحكومة سعد الحريري، وهو اقتناع يتعزّز في ضوء مراهنات حلفاء سوريا على استخدام الجيش حيث البيئات السياسية والاجتماعية معادية للنظام السوري لضبط الحدود، سواء في طرابلس أو عكار أو في عرسال ومشاريع القاع وغيرها من البيئات اللبنانية الحاضنة للمعارضة السورية، فيما يتولى هؤلاء في المناطق الحدودية الصديقة للنظام مسؤولية حماية ظهر النظام، لا بل تتوالى الروايات في القرى البقاعية عن الدور المساند الذي يقوم به «حزب الله» في الهرمل بدءاً من قرية حوش السيد علي وصولاً إلى القصر.
وفي رأي بعض المراقبين، أن بعضاً من المغالاة يحصل في توصيف بعض القوى السياسية لوضع الجيش، الذي يواجه رياح الانقسامات الداخلية في ظل غياب التوافق السياسي، وفي ظل «ميوعة» القرار الحكومي حيال بعض الأحداث والمحطات، على غرار السماح بإقامة مهرجانين سياسيين متقابلين في حلبا في غمرة ارتفاع وتيرة الاحتقان السياسي، ووضع الجيش في الواجهة، وارتباكه في محطات أخرى، كما حصل في حادثة مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد ومرافقه وتداعياتها، بحيث يجد نفسه دائماً في موقع الاختبار مكشوفاً يسير بين نقاط التصدعات السياسية والطائفية، وانعكاساتها على المشهد الداخلي والمزاج الشعبي. وليس موضوع الحدود الشمالية سوى عنوان من العناوين المرجحة للتفاعل إذا اشتدّت الأزمة في المقلب السوري، بين النظام والمعارضة، التي لا تجد أمامها منفذاً للهروب سوى عبور الحدود، وقد أضحت اليوم كتلة بشرية كبيرة قادرة على إحداث إرباكات، ليس على المستوى الاجتماعي فحسب، بل على المستوى الأمني، سواء في اتجاه الداخل اللبناني أو - وهذا هو الأهم - في اتجاه النظام السوري. ذلك أن ثمة مخاوف لدى المؤسسة العسكرية من تكرار تجربة «فتح لاند» في منطقة العرقوب الجنوبية، وما تلاها من تداعيات على الجنوب وأبنائه جرّاء عمليات المنظمات الفلسطينية باتجاه إسرائيل، ولاحقاً ممارساته في الداخل.
تلك الخشية، وإن عبّر عنها قائد الجيش في «أمر اليوم»، بإشارته إلى أن إقامة منطقة عازلة من دون سيطرة الدولة سيكون أمراً ممنوعاً، فإنه في حقيقة الأمر يُراهن على أن الانقسام السياسي في البلاد سيؤول حكماً إلى الحؤول دون صدور قرار حكومي مؤيد لإقامة هذه المنطقة العازلة، ذلك أن « فتح لاند» ما كانت لتكون لولا الغطاء اللبناني الرسمي الذي تجلّى عام 1969 في «اتفاق القاهرة»، الذي أعطى الشرعية لعمل منظمة التحرير الفلسطينية السياسي والعسكري انطلاقاً من لبنان. ويؤكد مطلعون في المؤسسة العسكرية على أنه في غياب القرار السياسي هذا، فإن الجيش عازم على عدم التهاون في تحويل مناطق في الشمال اللبناني إلى نقاط لانطلاق عمليات عبر الحدود ضد النظام السوري، وما قد يستدعي ذلك من رد فعل سوري باتجاه الأراضي اللبنانية، سينعكس مزيداً من التأزم السياسي الداخلي، ولا يمكن التكهن بما سيحمله من ارتدادات سياسية وعسكرية.
لكن جولة على المناطق الحدودية من البقاع إلى الشمال كفيلة بطرح تساؤل حول مدى إمكانية الجيش، وجهوزيته اليوم، للقيام بمهمة حرس الحدود، التي تتطلب إمكانات تتعدى الأفواج الثلاثة التي سبق وأُقر إعدادها، من دون أن يتم ذلك في حينه، وقد لا يكون ذلك ممكناً اليوم بالشكل الذي يفي غرض حماية ظهر النظام السوري، سواء أكان ذلك مطلب النظام السوري أم حلفائه في لبنان. أما قرار المؤسسة العسكرية في منع تحول الشمال إلى منطقة عازلة خارج سيطرة الدولة، فمسألة تحتاج إلى غطاء سياسي أولاً وأخيراً، وإن كان ثمة من يعتقد أن هذا الأمر ليس مطروحاً، ولا سيما بعد المدى الذي بلغته الأحداث في سوريا، وانضمام حلب إلى مسرح العمليات العسكرية، وتأمين المعارضة المسلحة خطوط إمدادات عسكرية ولوجستية من الجار التركي الحاضن للثورة السورية.
rmowaffak@yahoo.com
*كاتبة لبنانية
«فتح لاند» سورية في الشمال أو حراسة الحدود لحماية ظهر النظام؟جدلية الموت والحياة الطبيب الذي اجتمعت به من سرمين أجابني بهدوء وثقة حين سألته عن الأخبار التي ترد من مدينة إدلب وما حولها قال ألا تصدق ما يحدث؟ قلت له كل الفظائع التي تردني أو نسمعها من الإعلام ليست عندي الأهم. الأهم عندي كيف معنويات الناس في الداخل مع كل هذه الفظاعات التي تقوم بها آلة القتل الأسدية؟ هل الناس ركبها الفزع فهي تتراجع وتأوي إلى كهوف الخوف؟ أم أحدث فيها ردة فعل معاكساً؛ فهي تتابع التمرد والولادة إلى عالم الحرية؟ تابعت: لقد أعجبني شعار في إحدى لافتات الثورة: إما… قراءة المزيد ..