بعد قرن من انعقاد مجمع “فاتيكان “1، بدعوة من البابا بيوس 9 في 1869 – 70، لتأكيد عصمة البابا، انعقد “فاتيكان 2” (1962 ـ 65)، لا ليعلن موت العصمة، وموت النرجسية الدينية وموت الحقيقة المطلقة الملازمة لهم، بل أيضا ليدشن إعادة تأسيس الديانة الكاثوليكية، وعبرها إعادة تأسيس المسيحية كلها، وتاليا إعادة تأسيس اليهودية والإسلام أيضا بالانتقال من “باراديجم” حاكمية العقل الإلهي، الذي ساد طوال القرون الوسطى، إلى “باراديجم” حاكمية العقل البشري الذي دشّن نفسه مع ظهور الفلسفة الإنسانية وفلسفة “الأنوار”.
كلمة السر التي استخدمها البابا جان 23 هي “الاجيورنمانتو” [=تكييف الدين مع حقائق العالم الذي يعيش فيه]، أي مع”الحرية والعلمانية والديمقراطية، “كما صاغ إردوغان هذا “الأجيورنمانتو” الخاص بالإسلام، عندما اقترح ذلك على الإخوان المسلمين و”النهضة”، خلال زيارتيه لمصر و تونس في 2011. وللأسف، وكما كان متوقعا من قادة أقصى اليمين الإسلامي، رفضاها !
شارك 2540 مسؤول ديني، فضلا عن 40 ملاحظا ممثلين لجميع الكنائس غير الكاثوليكية، في المجمع الفاتيكاني الثاني.
في دورة المجمع الأولى، التي دامت أكثر من شهرين، تواجه اتجاهان ـ اتجاه واتجاه مضاد كما في جميع الأحداث التاريخية الكبرى ـ محافظ ومجدد. انتصر هذا الأخير في الدورة المجمعية الثانية (1965).
غداة انتهاء فاتيكان 2، أعلن زعيم المحافظين الفرنسي المونسنيور “لوفيفر”، تأسيس كنيسة منشقة: “كنيسة التراث” هي اليوم برسم التفكك وعودة غالبيتها إلى الفاتيكان.
الخلاصات التي توصل إليها فاتيكان 2 نالت استحسان ممثلي الديانة الأرثوذكسية والكنيسة الانجليكانية والديانة اليهودية. تجلى ذلك في برقيات التهاني التي تلقاها البابا بولس 6 من كبير رباني إسرائيل وبابا الكنيسة الأرثودوكسية الروسية ورئيس الكنيسة الأنجليكانية. لكن يبدو أن شيخ الأزهر كان في عداد الغائبين!
يتضح من قرارات المجمع أن غالبية المطارنة الذين تناقشوا طوال 4 سنوات قد تشبّعت بقيم الفلسفة الإنسانية وفلسفة “الأنوار”، التي جسّدها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، فأعادوا تأسيس دينهم على هداها إلى درجة أن أحد الكرادلة وصف فاتيكان 2 بأنه “ثورة 89[في الكنيسة]”. ومعروف أن هيجل قال عن 89 بأنها “ثورة الفلسفة”، أي فلسفة “الأنوار” العقلانية. ومعروف أيضا أن الفاتيكان حارب هذه الثورة، ثم عاداه،ا إلى تاريخ انعقاد “فاتيكان 2”.
الحلم ليس ممنوعاً. فدعني أحلم بمؤتمر إسلامي عالمي يعقده فضيلة شيخ الأزهر، د. أحمد الطيب، لينجز في الإسلام ما أنجزه “فاتيكان “2 في المسيحية،وليجسد اقتراح إردوغان: “ضرورة مصالحة الإسلام مع الحرية والعلمانية والديمقراطية”. وأتمنى أن يشكل منذ الآن لجنة من الاخصائيين، من جميع الطوائف الإسلامية، لدراسة وثائق “فاتيكان “2 (2000 صفحة) للإستعانة بها في مؤتمره المأمول، وأن يدعو إليه ممثلي اليهودية والمسيحية في أرض الإسلام كمشاركين وممثلي اليهودية والمسيحية في العالم كملاحظين. تجديدا وإعادة تأسيس في الوقت نفسه لحوار الأديان في بغداد وقرطبة الزاهرتين. فالإسلام اليوم محتاج هو أيضا إلى إعادة تأسيس تاريخية تخّلصه من معجمه وسلوكه الإحفوريين. يستطيع عندئذ، بإعادة التأسيس هذه، أن يضع نهاية لحربه مع نفسه، الحرب السنية ـ الشيعية نموذجا، وحربه مع العالم، الإرهاب الإسلامي العالمي نموذجا. وليضع أيضا نهاية لحربه الدامية مع الحداثة: مع مؤسساتها وعلومها وقيمها التي ما فتئ يكفّرها بالأصائل والبكور، ويستمطر اللعنات على دعاتها المسلمين ويحرض على اغتيالهم بفتاوى التكفير، التي غدت اليوم علامة تجارية مسجلة للإسلام من دون جميع الديانات التوحيدية والوثنية!
ما هي اهم الخلاصات التي انتهى إليها مجمع فاتيكان 2؟
جَدّدَ الدين الكاثوليكي كله، من الشعائر إلى العقائد مرورا بالمبادئ الأساسية نفسها التي قامت عليها الكنيسة طوال تاريخها.
في خطاب اختتام المجمع صرح البابا بولس 6: “دين الله الذي تجسد إنساناً [في العصور الوسطى] التقى اليوم مع دين الإنسان الذي تجسد إلاها [في الحداثة]”، عبر الاعتراف له بحقوقه الطبيعية التي صادرها منه رجال الدين على مر العصور.
تأليه الإنسان في الحداثة يعني الانتقال من “ثيو سانتريزم” [=مركزية اللاهوت] إلى “الانثربو سانتريزم” [=مركزية الناسوت].
وهذا اعتراف ولا أصرح باعتراف “الفاتيكان2” بقيم الحداثة: عبر تبني الفلسفة الإنسانية، التي ألّهت الإنسان وجعلته خالقا لأفعاله وأفكاره وقيمه ومؤسساته التي كانت تنسب إلى الله، وبالفلسفة العقلانية التي اعترفت بسيادة العقل على النقل، وبالفكر النقدي الذي تجسّد محكمة عقلانية يدعو جميع الإدعاءات الدينية و الدنيوية إلى المثول أمامها لتبرير شرعيتها العقلانية.
تطبيقا لذلك، صالح المجمع الفاتيكاني الثاني كنيسة بطرس نهائيا، في السيناريو المتفائل، مع الحداثة. قَرَنَ “بولس 6″، ككل رجل دين نزيه يمارس ما يقول ويقول ما يمارس، القول بالفعل: فهو الذي دفع في1967الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية إلى إنهاء معارضتها لعلمانية الدولة؛ بالمثل أوصى، في 1973، الكنيسة الكاثوليكية الكولومبية بقبول علمانية الدولة؛ والحال أن جميع أسلافه كفّروا العلمانية، حتى أن الفاتيكان كفّر جميع النواب الفرنسيين الكاثوليك الذين صوتوا في البرلمان على قانون 1905 العلماني وطردهم من حظيرة المسيحية!
تأكيدا لإبتعاد الكنيسة عن التعصب الديني الذي لازمها طوال تاريخها، وما زال، واحسرتاه، ملازما للإسلام إلى اليوم، أعلن “فاتيكان “2 أن: “الخلاص الروحي مضمون لجميع البشرية”، من آمن منهم بالله ومن لم يؤمن. تماما كما فعل كبار متصوفة الإسلام مثل الحلاج وابن عربي.
ماذا بقي من فاتيكان 2 بعد ربع قرن؟
كل شيء: التخلي عن النرجسية الدينية إلى حوار الأديان، لذلك اعترف ولا زال أن “العهد الجدي” لم ينسخ “العهد القديم”، كما كان يقول الفاتيكان قبل 1962؛ هذا الااعتراف يتفق مع حقائق تاريخ الأديان المقارن القائل بأن المسيحية امتداد لليهودية، والإسلام امتداد لهما، وهن جميعا امتداد للديانات الوثنية الميتة، وخاصة المصرية والبابلية؛والنخب الكاثوليكية النقدية التي تدرس تاريخ المسيحية ورموزها بعلوم الأديان، وتعلن دون عِقَد أن مسيح الإيمان ليس مسيح التاريخ.
هذا ما يطمح مشروعي الإصلاحي إلى الوصول إليه في الإسلام الذي ما زال دينا عتيقا وعنيفا ومغلقا على نرجسيته التي تكفّر علوم الأديان وحقوق الإنسان والمؤسسات العلمانية والديمقراطية التي جسدتها! وما زال الإسلام السلفي يعلن أن اليهودية والمسيحية، بما هما ديانتان/ نسخهما الإسلام، “الدين الحق” الوحيد، فأصبحتا مجرد شريعتين نسختهما الشريعة الإسلامية. المغزى لا دين على وجه الأرض إلا “الدين الحق” ولتذهب ديانات 6 مليارات بشر إلى مزبلة التاريخ!
عُمق الإصلاح الفاتيكاني، أي إعادة التأسيس،تشهد به “كنيسة التراث” المنشقة؛ فبماذا اتهم المونسنيور “لوففر” فاتيكان 2؟ بالتخلي عن امتلاك الحقيقة، التي حاربت بها الكنيسة العلم والعلماء طوال قرون، أي جميع “حقائق”سفر التكوين، من خلق العالم إلى خلق آدم وحواء مرورا بطوفان نوح وغيرها من”الحقائق”؛ تصالحت مع الحداثة والديمقراطية والعلمانية والجمهورية. وهكذا فروما “فاتيكان 2 ” هي في نظر الكنيسة التراثية: “روما الجديدة والحديثة التي قطعت مع روما الخالدة، سيدة الحكمة والحقيقة”!
لخّص مونسنيور “دوماليريس”، الناطق باسم الكنيسة المنشقة، “جرائم” فاتيكان 2: مصالحة الحداثة على حساب التراث، والجمهورية الديمقراطية على حساب الملكية المطلقة، والدولة العلمانية على حساب الدولة الكاثوليكية، وحقوق الإنسان على حساب حقوق الله، والعقل البشري على حساب العقل الإلهي. أو بعبارته هو: “انتقلت الكنيسة الحداثية إلى عبادة الإنسان الذي تجسد إلاها على حساب عبادة الله الذي تجسد إنسانا”، كما قال مستشهدا بخطاب البابا بطرس 6 في ختام المجمع الفاتيكاني الثاني في 8 ديسمبر 1965، مضيفا “وهكذا صالحت روما الحداثية عقيدة الإيمان مع الأخطاء الليبرالية”.
تأكيدا لإتهاماته لفاتيكان 2 بالتصالح مع قيم الحداثة يستشهد الناطق باسم الكنيسة التراثية: “بأن البابا الحالي اعترف، عندما كان كردينال في 1985 لأحد رجال الدين، بأن: “مشكلة سنوات 1960 كانت امتلاك الكنيسة لأفضل القيم التي نضجت خلال القرنين الماضيين. رغم أن هذه القيم ولدت خارج الكنيسة فبإمكانها أن تجد مكانها، بعد تطهيرها وتصحيحها، في رؤية الكنيسة للعالم”كما قال.
يشير البابا الحالي (بندكت) إلى القرنين 18 و19.
الأول هو قرن ميلاد “فلسفة الأنوار”، الذي انتصرت فيه قوة الحجة على قوة النص، والفكر النقدي على التصديق الديني الساذج؛ وبكلمة، انتصر فيه العقل على النقل.
والثاني هو قرن ميلاد الفلسفة الوضعية، الذي انتصرت فيه الحقيقة العلمية التجريبية على الأحكام المسبقة(=السابقة عن التجربة) الميتافيزيقية. وباختصار انتصر فيه العلم على الميتافيزيقا. وفي كليهما، انتصر الإنسان الحديث الواثق من نفسه وعقله على إنسان القرون الوسطى المنهار واللاعقلاني الذي لا يخطو خطوة إلا وهو متوكئ على فكرة تراثية أو نص ديني: على فتوى غالباً غبية. مثلاً قادة أقصى اليمين الإسلامي، المقيمين في “دار الحرب”، التي لا تجوز الإقامة فيها لأكثر من 3 أيام لأن صلاة الجمعة لا يجوز أن تقام فيها، إذ أن ركن خطبة الجمعة هو الدعوة إلى الإمام القائم (=الخليفة)، يطلبون لتبرئة ضميرهم فتاوى من أمثال القرضاوي تبيح لهم الإقامة فيها مدة أطول! في كتاب مدرسي سعودي، استشهدت به كالعادة مراراً، نقرأ: “إذا اقمت في دار الكفر للتعلم أو التطبب أو التجارة، فأقم بينهم وأنت تضمر العداوة لهم”!تنفيذاً لوصية شيخ الإسلام،ابن تيمية!
يختتم مونسنيور دومايريس لائحة اتهامه قائلاً: “ما فعله المجمع الفاتيكاني الثاني هو مصالحة مستحيلة. ما هي المصالحة الممكنة بين النور والظلام، بين الخير كله والشر كله.التجلي الرمزي لهذه المصالحة هو تبني “الحرية الدينية” كبديل لحقيقة المسيح وحكمه (…). وضع المجمع الفاتيكاني الشخص، وضميره وحريته كبديل لعبادة الله الذي تجسد انسانا. دين الفاتيكان الحداثي هو دين جديد لا علاقة له بالدين الكاثوليكي. ومع هذا الدين الجديد لا نريد أي حل وسط”، كما قال. شأن المصابين بالتطرف الديني أو الدنيوي!.النرجسية لا ترضى بأنصاف الحلول، مطلوبها إحدى الحُسنيين: الإنتصار أو الإنكسار!
يتضح مما تقدم أن فاتيكان 2 قدم مرجعية صالحة لتوحيد جميع الأديان حول قيم الحداثة وأساسيات حقوق الإنسان: الانتقال من الحاكمية الإلهية إلى حاكمية العقل البشري، التي تتعالى على الخصوصيات الثقافية دون أن تنفيها. فقط تحصر دور حاكمية العقل البشري في ضبط وقع هذه الخصوصيات على الذهنيات حتى لا تتصادم مع مواثيق حقوق الإنسان غير القابلة للتفاوض.لماذا؟ لأن تنقيص حق واحد منها يجعل الإنسان أقل إنسانية.
تقدم الطب النفسي وعلوم الأعصاب سيساعد على علاج الإضطرابات النفسية مثل اضطرابات الوسواس القهري، الذي هو مصدر الشعائر الدينية المتكررة يومياً كالإغتسال والوضوء والصلاة،وربما على شفاء التعصب والهذيان الدينيين، وقلق الموت والرغبة الذهانية في الخلود بعد الموت التي هي باعث أساسي على التدين.
شفاء العصاب والذهان بالأدوية سيقلص التدين العصابي والذهاني المنتشر اليوم، خاصة في أرض الإسلام، على نطاق واسع بين المؤمنين المواظبين على أداء الفروض الدينية، وخاصة،بين الراغبين منهم في فرضها على غيرهم.
بالمثل، انتشار دين حقوق الإنسان العلماني والعالمي قد يضع حدا للعنف الديني، بدايةً من العقوبات البدنية الشرعية وانتهاء بعاداة همجية تعود إلى الديانات الميتة، مثل الديانة المصرية، كختان الإناث والذكور الذي اقتبسته اليهودية منها. وهكذا تنضبط الديانات جميعا بضوابط مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والوثائق المكملة له، كمنع التمييز ضد المرأة وحماية حقوق الأقليات وحقوق الطفل، فتنحصر في حدود الخاص والفردي والمعقول.
وهذا ما سيجعل الفظاعات الدينية كالرجم بالزنا مجرد ذكرى سيئة؛ أما ممارساتها غير العنيفة كالصوم والحج فقد تصبح مجرد فلكلور يتسلى به السياح.
lafif.lakhdar@yahoo.fr
* كاتب تونسي