مايكل يونغ: ما أكثر ما أثار اهتمامك في الاضطرابات الأخيرة في إيران؟
أندرو سكوت كوبر: على رغم أن عوامل عديدة أشعلت فتيل هذه الاضطرابات، ما أثارني على وجه الخصوص هو رؤية إيرانيين من الطبقة العاملة والطبقة الوسطى الدنيا في البلدات الصغيرة والمدن متوسطة الحجم وهم يطالبون بإطاحة الجمهورية الإسلامية ويهتفون للمَلَكِيَة ولأسرة بهلوي المنفية. بالنسبة إلى العديد من المتظاهرين، الحالة البائسة للاقتصاد الإيراني والفساد هي التي وفّرت الظروف المناسبة كلياً لتفجير مشاعر القومية الفارسية المكظومة.
في أعقاب حملة القمع العام 2009، أُصيب العديد من الشبان الإيرانيين بخيبة أمل من الإسلام السياسي، ووجدوا عزاءهم في الفن والثقافة الفارسيين ماقبل الإسلام. وأنا أدركت هذه الظاهرة في العام 2013 حين أمضيت بعض الوقت في قم في إجازة أكاديمية. كانت الهيئة التعليمية في أهم جامعة في المدينة تتفجع على إعجاب الشبان بإيران ماقبل الثورة وبعائلة بهلوي. وقد استخدم النظام مختلف الاستراتيجيات لقمع وثني واستتباع هذه التوجهات، لكن من دون جدوى. وقد دلّ حجم المظاهرات على أن الطبقات الاجتماعية نفسها التي كانت تُعتبر من أشرس الداعمين للنظام استسلمت لهذا الإعجاب. وهكذا، وفي لحظة ما، كان لامناص من أن تنفجر جهاراً القومية ذات العمق الفارسي. أنا كنت أنتظر مثل هذه اللحظة، لكن رؤيتها تحدث عيانياً كانت أمراً مثيراً حقا.
يونغ: كيف يمكن للاضطرابات أن تؤثّر على طموحات إيران الإقليمية، هذا إذا ماكانت ستؤثّر فعلا؟
كوبر: لا خيار أمام الرجال الذين يديرون إيران سوى إعادة تقييم طموحاتهم الإقليمية. سيتعيّن عليهم العثور على وسائل لتعزيز الإنفاق الاجتماعي، وإحدى الطرق ليفعلوا ذلك هي إعادة توجيه الموارد بعيداً عن وكلائهم الإقليميين الذين استهدفهم شطر كبير من الحنق المحلي، ودفعها (الموارد) نحو الاقتصاد المحلي. سيكون عليهم التركيز على خلق فرص العمل، والمزايا الاجتماعية، والإسكان. وعلى المدى القصير على الأقل، قد يبدون رغبة في إبرام صفقات لإنهاء نزاعات تستنزف الكثير من الثروة الوطنية. يمكن للملالي أن يكونوا مرنين حين يريدون ذلك، إذ من في وسعه أن ينسى قرار أية الله الخميني بـ”تجرّع السم” وإنهاء الحرب مع العراق؟ لكن، لماذا يجب على السعوديين القدوم إلى طاولة المفاوضات فيما هم يشتمّون رائحة الضعف في إيران؟ الرياض قد تشعر الآن بالاغراء لإبقاء الأمور على درجة الغليان لفترة أطول. ثم أن التذبذب غير المتوقع في أسواق الغاز والنفط، بما يحمله من مضاعفات سلبية على الخزانة الإيرانية، سيلعب دوراً مهماً فيما سيحدث لاحقا.
يونغ: كيف يمكن لأحداث اليوم أن تُقارن بالفترة التي تطرقت إليها في كتابك الأول The Oil Kings: How the U.S., Iran, and Saudi Arabia Changed the Balance of Power in the Middle East ؟
كوبر: إيران، كما كانت دوماً، هي من يقود إلى التغيير: وأينما تذهب إيران، تذهب المنطقة. على سبيل المثال، دشّنت ثورة 1979 حقبة من الصراعات الطائفية الحادة والاضطرابات في المنطقة. لكن يبدو أن غالبية الشعب الإيراني تعبوا من الاسلام السياسي على النمط الخميني الذي لم يجسد قدرات إيران على رغم كل وعوده. وبالطبع، الشعارات الثورية نادراً ما تستطيع تحقيق ذلك. والآن، الشبان الإيرانيون يحتفون الهوية بالقومية الفارسية ويعيدون توكيدها كرد فعل تقريباً على النظام، وبوسائل أعتقد أنها ستؤثّر على المنطقة لعقود عدة مقبلة. إن فصل مابعد 1979 قد أُغلق وبدأ فصل جديد. وإذا ما استمرت التوجهات الحالية، أتوقع أن تسير إيران باتجاهنا ثانية.
يونغ: يبدو ملالي إيران من نواحٍ عديدة قوميين إيرانيين أولاً، تماماً كما كان الشاه. إلى أي مدى ثمة تشابه بين الجمهورية الاسلامية وبين نظام الشاه حين يتعلّق الأمر بالدين؟
كوبر: الملالي اكتشفوا القومية في وقت متأخر. الخميني بالطبع أعرض عن القومية، إلى أن شعر بالحاجة إلى تعبئة الإيرانيين خلال الحرب مع العراق. وفي السنوات الأخيرة، رأينا النظام يحاول (ويفشل) في استلحاق التقاليد الفارسية. فقد أسفرت جهود الإعلام لتشويه صورة أسرة البهلوي عن نتائج عكسية لأنها سمحت بالحديث عن هذه الأسرة علنا. وفي أعقاب المهرجان الكبير في ضريح قورش الكبير في باسارغادي في تشرين الأول/أكتوبر 2016، والذي فاجأ السلطات، جرت محاولة غبية للإثبات أن النبي محمد له علاقة بقورش. وهذا يوحي بأن القيادة مشوّشة نوعاً ما وغير واثقة من كيفية الرد.
مثل هذا المنحى شكّل منعطفاً عن حقبة السبعينيات، حين رفض الشبان الإيرانيون أسلوب الشاه محمد رضا بهلوي وتبنّوا كل مجالات الاسلام الشيعي. واليوم، أطفال وأحفاد هؤلاء الثوريين يوظفون التقنيات القديمة التي استُعملت لتقويض الشاه، لكن هذه المرة ضد الملالي. فالملابس التي يرتدون، والموسيقى التي يسمعون، والكتب التي يقرأون، والأماكن التي يزورون في الإجازات، تعكس حبّهم للثقافة الفارسية ورفضهم الضمني للإسلام السياسي. وبهذا المعنى، هم يعرفون تاريخهم بشكل جيد للغاية في الواقع.
أما بالنسبة إلى التشابه بين الجمهورية الإسلامية وبين نظام البهلوي، فهي تبدو واضحة في الرغبة في استعراض النفوذ الإيراني في طول المنطقة وعرضها. بيد أن الشاه كان مقيّداً بظروف الحرب الباردة وبالنظام الدولي الليبرالي الذي تعهّد الدفاع عنه، هذا في حين أن الجمهورية الاسلامية تسعى إلى استغلال فراغ القوة في المنطقة مع إنسحاب الولايات المتحدة من العراق. الشاه كان سيشعر بالهلع لو رأى اليوم كيف تتصرّف إيران. وقد أبلغني أحد أفراد أسرة البهلوي أنه سعيد لأن الشاه مات في بدء الحرب العراقية- الإيرانية، لأن هذا الحدث كانت دمّره تماما.
يونغ: إذن، أنت ترى عملية مراجعة تجري على قدم وساق في إيران في ما يتعلّق بإرث الشاه، وبالنظام الملكي بوجه عام؟
كوبر: لا أعتقد أنه من المبالغة في شىء القول أنه إذا طُلِبّ من الإيرانيين الاختيار بين نظام الشاه ونظام مابعد 1979 فقد يختارون الشاه بنسبة كاسحة. لكن ليس هذا ماتسمعه من بعض المثقفين المنفيين الإيرانيين الذين لايستطيعون أن يوقنوا تماماً بأن الكثير من الطلاب ومن الطبقة العاملة الإيرانية قد يفضلون النظام الملكي على الجمهورية الإسلامية. إنهم لازالوا يكنون مُقتاً عميقاً لأسرة بهلوي.
على سبيل المثال، في حين أن هؤلاء المثقفين ينتقدون بقسوة قيام الشاه بإقالة رئيس الوزراء محمد مصدق في العام 1953، وللحفلة التي أقامها في الصحراء في بيرسيبوليس العام 1971، إلا أن العديد من الشبان الإيرانيين لايُظهرون المستوى نفسه من الاهتمام بعملية أجاكس، وينظرون إلى بيرسيبوليس من زاوية أخرى. إنهم يرونها رائعة ومذهلة لأنها ترمز إلى زمن كان فيه قادة العالم يأتون إلى إيران لتقديم مراسم الاحترام لعاهل إيراني كان يحوز على سلطة هائلة في الساحة العالمية.
علاوة على ذلك، قد أجادل بأن نقطة التحوّل الرئيسة في تطور الاضطرابات تمثّلت في الاقبال الكبير للناس على باسارغادي في تشرين الأول/أكتوبر 2106، كما ألمعت أعلاه. فمثل هذا التمرين على التعبئة الجماهيرية لاقى تجاهلاً من الإعلام الغربي ومن المحللين الإيرانيين المقيمين في الغرب. لقد قُدِّر عدد الجمهور بنحو 100 ألف، وصوّروا وهم يهللون ويدعون إلى عودة عائلة بهلوي وإعادة النظام الملكي. وأنا عرضت على دورية “فورين بوليسي” أن أكتب مقالة أشرح فيها مدى أهمية هذا الحدث، ولماذا تواجه الجمهورية الاسلامية أزمة شرعية، وكيف أنه سيثير على الأرجح اضطرابات مستقبلية. بيد أن عرضي رُفض لأنه، كما قيل لي، يفتقد إلى رابط إخباري مناسب.
يونغ: تعرَض الشاه على مدى السنوات إلى قدح وذم، لكنه حظي إلى حد ما بمن يدافع عنه. وبصفتك أحد الذين يكنّون رأياً إيجابياً به، كيف تقيّم حكمه بعد نحو 40 سنة من الثورة الإيرانية؟
كوبر: من المهم هنا أن نتذكّر بأني مؤرخ لا عالم سياسة أو صحافي أو روائي. وقد عنى رفع حكم السرية عن الوثائق في عهود نيكسون وفورد وكارتر في العقد الماضي أن إعادة النظر في العلاقات الأميركية- الإيرانية خلال الحرب البادرة، هو أمر منطقي وضروري وفي وقته. كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم؟ هذا السؤال كان الدافع وراء أبحاثي، لكنه ليس سؤالاً مطواعاً للإجابة.
يجب أن نضع الشاه في سياق الزمن الذي عاش فيه، كقائد علق بين تياري الحرب الباردة والانبعاث الاسلامي. كان مدفوعاً بأحلام طوباوية حول تحقيق العدالة الاجتماعية لشعبه، وسنّ إصلاحات تقدمية في مجالات كالسياسة الاجتماعية، وحماية البيئة، وحقوق المرأة، وحماية الأقليات، والقراءة والكتابة. قدرته على إنكار الذات تمثّلت في كيفية تعاطيه مع قوات الأمن، إذ هو تخلى عن العرش بدلاً من السماح بحملة عسكرية كانت ستزهق آلاف الأرواح وربما تثير حرباً أهلية.
بعد العام 1963، حين تسنّم السلطات التنفيذية، أضاع فرصة لبناء مؤسسات قضائية وسياسية مستقلة وقابلة للاستمرار ربما كانت تحمّلت العبء حين أنطلق الخميني في مساعيه للوصول إلى السلطة. لكن على رغم كل أوجه قصوره، يُظهر السجل أن إيران في عهده كانت مستقرة، ومزدهرة، وفي حالة سلام مع جيرانها. في بيروت والقاهرة سمعت عرباً يشيدون بذكرى الشاه ويقولون أنهم يتمنّون لو لم يرحل. وأنت تسمع الكلمات نفسها الآن في طهران.
يونغ: في ضوء إلمامك بطبيعة العلاقات السعودية- الإيرانية خلال حقبة السبعينيات، ما الذي تراه ضرورياً كي يتوصّل البلدان إلى تفاهم جديد في الشرق الأوسط، بعيداً عن حالة الاستقطاب السائدة الآن؟
كوبر: كلا القيادتين تواجهان تحديات داخلية خطيرة قد تؤدي، في حال عدم معالجتها، إلى تمرد أو انفجار داخلي. فمن جهة، هناك الحروب بالواسطة التي يشنانها والتي تحرف الانتباه عن المسائل الرئيسة. بيد أن الإصلاحات المحلية من ذلك الطراز الذي يتصورونه، أو الذي سيكونون مضطرين لتطبيقه، سيكون صعباً ومؤلما. هذان النظامان يفتقدان إلى “صنابير السلامة” الديمقراطية الضرورية لمنع الاحتجاجات الشعبية من التدفق إلى الشوارع. ولذا، سيشعر النظامان بالإغراء للإقدام على مغامرات خارجية قد تكون أكثر خطورة، كوسيلة لتأجيج المشاعر القومية وحرف أنظار الشعب عن الصعوبات. سيتطلب الأمر حكمة سياسية ساحرة من هذا الطرف أو ذاك لتخفيف التوتر. لكني لا أرى في الأفق أنور سادات آخر. هل تراه أنت؟
يونغ: اتخذت إدارة ترامب موقفاً متصلّباً من الدور الإقليمي للنظام الإيراني، لكنها لم تفعل شيء عملياً لمجابهته. لماذا، وإلى أين تتجه برأيك العلاقات الأميركية- الإيرانية في المقبل من السنوات؟
كوبر: هل لدى إدارة ترامب سياسة متّسقة إزاء إيران أو الشرق الأوسط؟ إذا ما كان لديها مثل هذه السياسة كان يجب أن أراها. انسحاب أميركا الطائش، الذي تلاه الانحراف الراهن، خلقا فراغاً سمح للقوى الإقليمية بالقيام بأعمال شريرة. وفي غياب استراتيجية دبلوماسية تُنفّذ بمهارة، سيكون هناك خطر الانزلاق إلى الأمر الأسوأ نفسه الذي يمكن أن تفعله إدارة ترامب، أي توجيه ضربة عسكرية لإيران. وإذا ما قامت الإدارة بذلك، ستشجّع وتعزز طهران في الغالب على المدى القصير.
من الناحية الإيجابية، أنا متفائل بأن الولايات المتحدة وإيران ستكونان أصدقاء مجددا. إذ لدى الأميركيين والإيرانيين الكثير من الأمور المشتركة، على رغم أن الشعب الإيراني أكثر اندفاعاً في هذا الاتجاه من الأميركيين الذين لازالوا يعيشون في فقاعة 1979. الأنظمة لاتدوم إلى الأبد، والتغيير يحدث حيث لاتتوقعه.
يونغ: إذا ماسرحنا بأبصارنا قليلاً إلى المستقبل، هل سنرى بروز إيران مُهيمنة على الشرق الأوسط؟
كوبر: هل سنرى إيران مُهيمنة في الأفق؟ الثقة المُفرطة بالسياسة الخارجية التي يليها تمدد زائد، هو تقليد إيراني. أستطيع أن أسرد لك عشرات المقالات الإخبارية الأميركية المُفزعة من العام 1974 إلى العام 1975 والتي تحذّر من مخاطر الإمبريالية الإيرانية. وقد عاينا رد الفعل نفسه خلال عهد الرئيس محمود نجاد. إن ردود فعلنا العصبية كلما عطست طهران يشي بمدى فقداننا نحن لمشاعر الأمن، بقدر ماهي تتعلق بالنوايا الإيرانية. عن أي نظام نتحدث هنا، على أي حال؟ عن نظام يبدو غير شعبي للغاية إلى درجة أن شعبه يفضّل إعادة عقارب الساعة 40 سنة إلى الوراء؟ على رغم أنه لايجب الاستهانة بإيران، إلا أنها تُشبه من نواحٍ عديدة مهمة الاتحاد السوفييتي السابق. لقد دلفت الجمهورية الإسلامية إلى فترة الغسق، وأعتقد أنه يجب أن نبدأ بالتفكير بما سيأتي بعد ذلك.