لا شك ان “التريّث” حمّال أوجه. كل طرف سياسي يقرأ فيه وفق كتابه ومصالحه. ففي حين ترى جهات عربية ودولية، وتحديداً السعودية، وبلسان ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان، ان خلاصة القضية تتمحور حول “عدم قدرة الرئيس سعد الحريري على الاستمرار في توفير غطاء سياسي للحكومة اللبنانية التي تخضع بشكل رئيسي لسيطرة ميليشيا “حزب الله” اللبنانية، والتي بدورها تخضع بشكل رئيسي لسيطرة طهران”، تردّ إيران باستنفار يفضح التوجس من خيوط التسوية التي تتحضر للمنطقة مع فتح كل الملفات الملتهبة، لتذكّرنا بأن السلاح في يد “حزب الله” هو سلاحه ويأتمر بأمره وليس بأمر أي لبناني، حتى لو كان الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله.
تتطلب قراءة “التريّث” هنا، فك شيفرة التناقض بين اعلان نصر الله الاستعداد للانسحاب من سوريا والعراق بعد القضاء على “داعش”، ونفي أي علاقة له بالصواريخ البالستية في اليمن، لتشجيع رئيس حكومتنا على خطوته هذه، وبين التصريحات الإيرانية، وتحديدا ما أعلنه قائد “الحرس الثوري” الايراني الجنرال محمد علي جعفري من ان سلاح “حزب الله” “مسألة غير قابلة للتفاوض وكل اللبنانيين بإستثناء عدد قليل من مجموعات الدمى، يدعمون سلاح الحزب”، للقول ان إيران صادرت السيادة اللبنانية من دون مواربة او مراعاة لـ”الدمى” التي لا تؤيد اذرعها العابثة بالساحة اللبنانية، كونها حديقتها الخلفية اليوم أكثر من أي وقت مضى.
وفي حين تشير معلومات الى تحذيرات من استخدام إيران ورقة الاستقرار الداخلي في لبنان مقابل بسط نفوذها على الحياة السياسية عبر “حزب الله”، تماماً كما حصل مع الهيمنة السورية التي كانت تبيعنا الأمن مقابل مصادرة القرار اللبناني، تبقى الكرة في ملعب رئيس الجمهورية ميشال عون ليثمر “التريّث” أملاً ببدء مسيرة خارج الاملاءات.
الاهم ان يبقى “تريّث” الحريري مصوّباً نحو بيت القصيد المتمثل في فائض القوة المهيمن على لبنان، ولا يكتفي بإخراج تسوية تقضي بأن تنكفئ الأذرع الإيرانية، ومنها “حزب الله” في المنطقة. ويبدو ان هذه التسوية في حكم الممكنة اقليمياً ودولياً، مع ما يتخلل مفاوضاتها من تجاذبات، وتقضي بانحسار سلاح الحزب الى الداخل اللبناني، ما يضمن أمن دول الخليج، على ان يؤمّن المصالح الإيرانية على الخط الممتد من طهران الى بيروت. حينها تكون الممانعة قد نجحت في تحويل “التريث” خنجراً في خاصرة السيادة.
لذا من المفيد إشهار مسار التسوية التي أعادت الحريري على نية “التريّث” في رعاية دول صديقة تخاف على لبنان، وليس تحويل هذا “التريّث” صفقة جديدة على حساب لبنان، كما يريد المحور الممانع، الذي يجاهر اعلامه بأن ما حصل في عيد الاستقلال انهى الاستقالة مع حفظ ماء الوجه، ولا لزوم للسؤال عن مصير الشروط الحريرية.
فالوجه الأهم للصيغة الحريرية الحالية، الذي يفترض ان يطغى على ما عداه في هذه المرحلة، يبقى فرصة ذهبية اذا أجاد رئيس حكومتنا استثمارها، بعدما فرض نفسه رقماً صعباً في المعادلة السياسية، وأحدث الصدمة المطلوبة لفتح الباب على مكمن الوجع اللبناني، وبقوة لا يمكن تجاوزها بعدما فرضته هذه الصدمة رئيساً لا غنى عنه للحكومة وللمشهد السياسي اللبناني داخلياً ودولياً، وزعيماً لا منافس له على امتداد لبنان.
هو رجل الساعة، اذا تابع بالحكمة والهدوء الحازم الذي تميز بهما اداؤه خلال هذه المرحلة الحرجة اقليمياً. هي فرصته ليبني على إيجابيات الصدمة ويثبت انه لا ولن يقبل إملاءات العدوان، او استمراره، على السيادة من أهل بيت فريق الممانعة، ما دام لم يقبل إملاءات الاشقاء في ما يخص مصير الاستقالة.
من جهة ثانية، وفي حين يسود التوازن المفيد خطابه في هذه المرحلة، ليت الحريري يوضح صراحةً تفاصيل المرحلة التي رافقت استقالته، فلا يترك الأمور ضبابية ومفتوحة على احتمالات مطاطة، تساهم في زيادة منسوب اللغط الذي يغذّي اللعب الممانع، سواء في الواقع او في الاعلام.
ففي الأيام الأولى للاستقالة، ركّز هذا الاعلام على شخصيات بعينها، حمّلها مسؤولية طعن الحريري من الخلف، وتبيّن لاحقاً ان هذه الشخصيات هي الراعية لـ”التريّث” والمباركة له. تالياً، هي من غير المغضوب عليهم او الضالين. أكثر من ذلك، اكتشفنا ان هذه الشخصيات صارت صقوراً حاضرة للانقضاض على كل من يريد الذهاب الى الحد الأقصى بمطالب كانت الأساس للتيار الأزرق.
وحتى يتم تدجين مَن لم يفهم الرسالة بعد، تتركز الاتهامات الهادفة وتتصاعد بخبث، بهدف إزاحة كل من يعرقل استمرار الممانعة بوضع يدها على لبنان بالشكل الذي جعل اعلان الاستقالة منطقياً لولا مسحة الارغام التي رافقته.
لذا، مطلوبٌ التوضيح وقطع الطريق على هؤلاء المصطادين في الماء العكر، وبالحكمة والهدوء المفيدين اللذين انعكسا قوة في رصيد الحريري.
نعم، المطلوب قطع الطريق على من يحاول إفراغ “التريّث” من مضمونه، وتحوير ما جرى على انه خيانة من الدوائر الضيقة او الحلفاء وتوصيف بعضهم بـ”كتبة التقارير” لتصنيف مَن حمل مسيرة “14 أذار” وشهدائها من رفاق الأمس ضمن المغضوب عليهم والضالين الذين يجب ان يبتعدوا عن الدائرة وعن الأضواء، مع تركيز على ان قاعدة الحكم المقبل بعد الانتخابات لن تضمّهم الى ملكوتها.
لذا من غير المسموح ترك المجال لتنجح الممانعة مرة جديدة في “خردقة” الصف الوطني الرافض المصادرة الإيرانية للسيادة، لأنه المكمل والسند الافعل للإنجاز الأخير المتمثل في الاستقالة وصدمتها الإيجابية.
وحتى لا نستمر في النوم بين القبور، ولا تتحول كوابيسنا الى وقائع سوداء، تبقى وظيفة “التريّث” المنيع نقل لبنان الى غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين.
sanaa.aljack@gmail.com
النهار