تونس-
جلس مدير عام هيئة الإذاعة والتليفزيون الليبية الدكتور عمر القويري (المنحدر من مصراتة التي يُقال إنها “مدينة المتشددين”) وجلس إلى جانبه نائبه أحمد أبو روجة (الآتي من الزنتان) وعلقا لـ “swissinfo.ch” قائليْن: “ألم تسمعوا في وسائل الإعلام أن الصراع في ليبيا هو بين الزنتان ومصراتة؟ انظروا إلينا كم نحن متحدان ومنسجمان، هكذا الأمر في كل المناطق الليبية، فبيننا مُصاهرات وصلات رحم تفرض علينا أن نتفاهم ونتفق على كلمة سواء”.
وأشار الدكتور القويري إلى أن الليبيين كلما جلسوا على مائدة الحوار إلا وحقنوا دماء أبنائهم وتوصلوا إلى حلول حكيمة. واتهم “الخارج” بمحاولات دق إسفين بين الليبيين بالتفريق بين الغرب والشرق، العرب والأمازيغ، الثوار والمناهضين للثورة… مؤكدا أن ليبيا ينبغي أن تبنيها “كل سواعد أبنائها من دون إقصاء أحد”.
يأتي هذا في وقت تتصاعد فيه وتيرة العنف في كثير من المدن الليبية وتتعدد السيارات المفخخة التي استهدفت إحداها مقر السفارة المصرية في طرابلس فيما استهدفت الثانية السفارة الإماراتية. وفي المقابل، استهدفت سيارة مفخخة مقر البرلمان المنتخب في الخامس والعشرين من يونيو 2014 في مدينة طبرق (شرق)، بينما استهدفت سيارة ثانية قاعدة الأبرق الجوية القريبة من مدينتي البيضاء وشحات حيث مقر الحكومة المعترف بها دوليا. وتحدثت تقارير أمنية عن إحباط محاولة تفجير ثالثة في البيضاء والقبض على انتحاري يستقل سيارة مفخخة. ويؤشر تصاعد دوامة العنف على أن الحل العسكري غير مُمكن في ليبيا، وأن المخرج الوحيد من الأزمة الراهنة هو إقامة حوار بين الفريقين المتصارعين لوضع خارطة طريق يتوافقان عليها لإنقاذ البلد من التقسيم وتجنيبه ويلات الحرب الأهلية.
غياب الثقافة الديمقراطية
الدكتور مولدي الأحمر، أستاذ علم الإجتماع السياسي في جامعة تونس عزا هذا التجاذب الحاد على الشرعية إلى ما سماه غياب الثقافة الديمقراطية في ليبيا، مستدلا بأن الزعماء السياسيين الليبيين كانوا “غير حريصين أبدا على تركيز شرعيتهم السياسية على أساس الإنتخابات بمفهومها المعاصر”. وأشار الأحمر، الذي خصّص رسالته لنيل الدكتوراه للبحث عن “الجذور الإجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا“، أن دستور 1951 حظر تعدد الأحزاب، فيما اعتبر نظام الجماهيرية أن “الديمقراطية هي أكبر كذبة في التاريخ”. وانطلاقا من هذه الرؤية تساءل عما إذا كان من الممكن اليوم التوصل إلى حل سياسي انتقالي للأزمة الليبية على قاعدة شرعية انتخابية كفيلة بإفراز مؤسسات سياسية تملك قوة الإقناع أو الإخضاع الضامنة لسيادة الدولة؟ ورأى أن كل ما حدث في ليبيا منذ سقوط معمر القذافي في خريف 2011 لا يعدو أن يكون تجربة مؤلمة جدا للتدرب على مبدإ الانتخابات والقيم الثقافية التي يستبطنها.
وفي هذا السياق اختار المجلس الوطني الانتقالي برئاسة مصطفى عبد الجليل أن يكون “المؤتمر الوطني العام” (برلمان انتقالي) مؤلفا بنسبة ستين في المائة من نواب مستقلين، مما يعني أن التصويت لهم لم يكن مُستندا على برامج انتخابية وإنما على وزن عشائرهم في مناطقهم، “أي المعايير نفسها التي كان يعتمدها نظام القذافي لدى اختيار أعضاء اللجان الشعبية”. أكثر من ذلك، تشكلت “لجنة الستين” التي كلفت بكتابة الدستور وفقا للطريقة نفسها التي تشكلت بها لجنة مماثلة قبل 65 عاما، عندما أعطي لمنطقة فزان التي كان يعيش فيها خمسون ألف ليبي مثلما أعطي للمنطقة الغربية (طرابلس) التي كان عدد سكانها يقارب 800 ألف ساكن. واليوم أعطيت للمنطقة الغربية (3 ملايين ساكن) حصة مماثلة للحصة التي أسندت لبرقة (1.5 مليون) ولفزان (150 ألف ساكن فقط).
من هنا يعتقد الدكتور الأحمر أن الليبيين “ورثوا تجربة سياسية لا تؤهلهم لمعاودة صياغة دولتهم طبقا لمبادئ الإقتراع العام”، كما يذهب إلى أن “المؤسسات التي جرّبوا إقامتها لم تُمكنهم من امتلاك الوسائل السياسية الشرعية، المادية والفكرية، التي تُخوّل للدولة بسط نفوذها والدفاع عن نفسها وعن المجتمع”. ويستطرد معتبرا أن ليبيا ربما ارتكبت خطأ جبارا عندما “تسرعت في إضفاء الشرعية الإنتخابية على دولتها وعلى ممثلي تلك الدولة”، مُلمحا إلى أنه “ما كان عليها أن تأخذ بنصائح الناصحين في هذا المجال”. وبناء على ما تقدم، يتساءل الدكتور الأحمر عما إذا كان من الأنسب اليوم إعادة المسار الإنتقالي إلى الوراء والعودة إلى صيغة “المجلس الوطني الإنتقالي” بفضل تسوية على الطريقة التقليدية ولمدة سنتين أو ثلاث، يُصبح الليبيون بعدها أكثر استعدادا نفسيا ومؤسسيا للحداثة السياسية عبر الإنتخابات.
تسرع؟
swissinfo.ch سألت الدكتور الأحمر كيف يعزُو الصراع المحتدم اليوم إلى ضعف القناعة بمبدإ الانتخابات والقيم الثقافية التي يستبطنُها لدى الليبيين، بينما لم يطعن أحد في المسار الإنتخابي الذي انبثق منه البرلمان الجديد في انتخابات 25 جوان الماضي، خصوصا وأن نسبة المشاركة كانت فوق المتوقع، وبالتالي أليس الطعن في شرعية البرلمان اليوم هو رفض من أحد الأطراف وليس من كل القوى السياسية (أو كل الليبيين) لنتائج الإحتكام إلى قواعد اللعبة الديمقراطية؟
في جوابه، أشار أستاذ علم الإجتماع السياسي إلى أن “الطعن في مبدإ الانتخابات تم حينما اتخذ القرار بأن لا تشارك الأحزاب فيها. ومبدأ الإقتراع الفردي المباشر يعني أن الثقافة السياسية في البلاد قد أصبحت قابلة بفكرة عصرية مفادها أن لرأي (بمعنى صوت) أيّ فقير مُهمّش، ليس له أصول عائلية معروفة ومؤثرة، نفس القيمة التي لرأي الغني الشهير صاحب النفوذ، وأن المعرفة المباشرة والقرابة والجيرة لم تعد محددة في إبداء الرأي (أي إعطاء الصوت). هذا لم يحصل بعدُ في ليبيا، ولم تتغلغل هذه الثقافة في ثنايا الشرائح الإجتماعية بالمفهوم الذي قدمتُه. لذلك من السهل في هذا البلد نقضُ أي انتخابات لا تقابل نتائجها ما كان يتوقعه المترشحون ذاتهم. ثم كيف يمكن إجراء انتخابات في بلد ثلث سكانه هاربين خارج البلاد (هذا يُسفّه فكرة نسبة التصويت العالية) وليس فيه إمكانيات حقيقة لمراقبة الإنتخابات، وليس فيه أمن و ليس له اقتصاد وليس فيه دولة أصلا؟ الليبيون الذين يعتبرون أنفسهم اليوم معنيين بالإنتخابات هم الناشطون في الميليشيات والكتائب المسلحة و قسم من طبقة المثقفين الذين بدؤوا يشتغلون بالسياسة بمناسبة الثورة. وهؤلاء تهمّهم عمليا الإنتخابات لأن لنتائجها علاقة مباشرة بنصيبهم من الإمتيازات والموارد التي تمنحها السلطة. أضف إلى ذلك أن مفهوم الدولة، الذي هو أصلا ضعيف في ليبيا بسبب التجربة القذافية في الحكم، يتعرض حاليا إلى مزيد من التفكك بسبب تطور تيارات سياسية عقائدية متطرفة في البلاد لا تشتغل بمفهوم الوطن والمواطن وسيادة الدولة والحدود والقانون، لأن مرجعياتها السياسية عقائدية أخلاقية، بينما بناء الدولة الحديثة وإرساء دواليبها، مثل الإنتخابات، يتطلب مفاهيم ومرجعيات قانونية تحيل إلى علاقة المواطنين ببعضهم البعض وليس إلى علاقة كل واحد منهم بربه”.
لهذه الأسباب مجتمعة، يقول الدكتور الأحمر: “قد يكون مفيدا جدا لليبيا أن تتريث قليلا وتجد حلا مؤقتا لمجموعة من القضايا المصيرية في البلاد – منها الحرب على الإرهاب – عبر حكومة ائتلافية تُعدّ بالتوافق لمرحلة الإنتخابات على قاعدة صحيحة. لكن هذا يتطلب طبعا شروحا وتحضيرا لخطة عمل متكاملة”.
تنازع على الشرعية
ثم عدنا نسأله عما إذا كان قرار المحكمة العليا هو قرار سياسي يندرج في إطار حرب الكر والفر بين الإسلاميين وخصومهم منذ تشكيل المجلس الوطني الانتقالي، خاصة أن المُرحّبين به اعتبروا أنه يُعيد الشرعية للمؤتمر الوطني العام الذي يسيطر عليه حزب العدالة والبناء الذراع السياسية لحركة الإخوان الليبية؟ فأجاب مؤكدا أنه “لا يعتقد أن القرار الذي اتخذته المحكمة العليا يُعيد الشرعية للمؤتمر العام، وأن موقف الرافضين له مُتوقع ويدخل تماما في صلب النزاع على الشرعية”. وأضاف “لكن من المفيد أن نلاحظ أن المحكمة الدستورية دُعيت للبت في قضية في بلد ليس فيه دستور، وفيه مجلسان منتخبان لا يتمتعان بالشرعية، وحكومتان لا صلاحيات فعلية لهما، فهل يُمكن أن ننتظر من أحد أن يلتزم بقضائها؟ ليس هناك دولة في ليبيا، والمطلوب هو العمل بسرعة على إعادة إحياء نواة الدولة التي تكلمتُ عنها سابقا”.