المسألة تتخطى ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية، وترتبط بقدرة كل دولة في الدفاع عن سيادتها وحقوقها ومصالحها خلال حقبة انهيار أو تفكك أو تبعية لبعض الدول العربية المعنية.
تلاحقت في الفترة الأخيرة عدة أحداث متعلقة باستخراج وملكية الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط: الخلاف على الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل؛ رفض تركيا بدء قيام قبرص بأي عمليات تنقيب طالما ظلت أزمة انقسامها قائمة؛ وتفرع ذلك إلى تجاذب بين مصر وتركيا، فالأخيرة رفضت اتفاقية ترسيم خط الحدود البحرية بين القاهرة وقبرص الموقَّعة عام 2013، باعتبار أنها تمس بحقوقها الاقتصادية.
هكذا يخفي تداخل الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل وقبرص ولبنان وتركيا واليونان، تسابقا للفوز بالثروة الجديدة في حوض المشرق الذي يشبه البعض طفرة الغاز المنتظرة فيه بطفرة النفط في الخليج العربي في بداية السبعينات، لكن تقديرات الموجودات فيه التي تصل على الأقل إلى 3454 مليار قدم مكعبة من الغاز، وقربه من أوروبا يجعلاننا نقارنه بحوض بحر الشمال الحيوي.
بيد أن إحاطة حوض المشرق بسبعة بلدان متعارضة مع بعضها البعض منذ عقود ستعقّد الاكتشافات والتقدير الفعلي لكميات الغاز، والأدهى أن يؤدي التنافس على موارد الغاز والنفط المكتشفة إلى مسار جديد للصراع في منطقة مأزومة تعيش منذ 2011 مجريات “اللعبة الكبرى الجديدة”.
ويمكن لتداخل صراع النفوذ بين القوى الكبرى والإقليمية والتجاذب حول الطاقة أن يهددا باتخاذ النزاع أبعادا أكثر خطورة في المستقبل القريب.
لا يمكن تجاهل أهمية حروب المياه في تشكيل المشهد الشرق الأوسطي مع ندرة هذا “الذهب الأخضر”، والأمثلة لا تنقص حول أنهار الفرات والأردن واليرموك والنيل، وكان لذلك دور في اندلاع حرب يونيو 1967.
ومما لا شك فيه أن اتصال أمن الطاقة العالمي بموارد واحتياطات البترول في الشرق الأوسط، سلط الأضواء على هذه المنطقة الواقعة في وسط الكرة الأرضية، وقاد ذلك واشنطن لبلورة سياساتها من خلال عامليْ حماية إسرائيل والتحكم بمواقع ونقل الطاقة.
واليوم في موازاة اكتشافات الغاز والبترول الصخري، وأفق استنفاد موارد البترول الخام، يزداد التركيز على الغاز الطبيعي، ولذا تتنبه روسيا الأولى في سوق تصدير الغاز (تملك لوحدها نحو ربع إجمالي احتياطات الغاز المؤكدة في العالم، ويشكل إنتاجها 71 بالمئة من واردات الغاز لوسط وشرق أوروبا) لتطور اكتشافات حوض المشرق الذي يهدد هيمنتها على السوق الأوروبية، ويمكن أن يحرر الاتحاد الأوروبي من التبعية لروسيا في مجال طاقة الغاز.
ومن الواضح أنه من خلال القواعد الروسية على الساحل السوري تنسج روسيا سياسة تعتمد على البقاء لاعبا أساسيا في الشرق الأوسط، وتعتبر أن نفوذها المكتسب يمنع المنتجين في حوض المشرق من المسّ بمصالح موسكو على المدى المتوسط.
لكن ديمومة النفوذ الروسي العسكري أو السياسي لن تمنح موسكو القدرة على التحكم بمشهد الطاقة المتغير من شرق المتوسط إلى الخليج وترابط ذلك مع طلبات السوق والمصالح المزدحمة. ولذا فإن تقديم الحرب في العراق في الماضي على أنها من أجل الطاقة لم يكن دقيقا بل كانت له أبعاد متعددة.
وهذا ينطبق اليوم على الحروب السورية، التي لها جوانب تتصل بالسيطرة على موارد الطاقة وطرقها، لكنها معنية أساسا بتغيير وجه الإقليم بمجمله وإعادة تركيبه.
نحن إذن أمام مشهد جديد للطاقة في الشرق الأدنى، إذ أن التقنيات الحديثة للتنقيب عن الغاز والبترول في أعماق سحيقة تحت مياه البحار، أبرزت احتمال احتواء حوض شرق المتوسط على مكامن غاز تحتوي على احتياطات هائلة.
وهذه المنطقة هي كذلك البوابة لاحتياطيات النفط والغاز الرئيسية في العالم في منطقة الشرق الأوسط والخليج حتى الآن. ومع مرور الوقت ستترك الاكتشافات الحديثة آثارها على التوازنات العامة في المشهد الجيوبوليتيكي.
وهكذا تؤجج عمليات ونوايا التنقيب عن الغاز نيران أزمات إقليمية محتدمة أو كامنة تشترك فيها كل من إسرائيل ولبنان وتركيا وقبرص واليونان ومصر وحتى روسيا.
فمن مصر إلى سوريا عبر لبنان وإسرائيل وقبرص، يعتبر هذا المورد سلاحا ذا حدين في منطقة تشهد حربا باردة دولية وحروب بالوكالة وأزمات إقليمية مزمنة. خلال مدى قصير من الزمن سوف تصبح مصر وإسرائيل من مصدري الغاز الأساسيين، إذ سيكون الإنتاج في المستقبل أكبر بكثير من احتياجات أسواقهما المحلية.
ولأنه سيتم تسييل كميات من هذا الغاز في المرافق المصرية الموجودة، ستتجه من هناك الصادرات نحو أوروبا، حيث تراجع إنتاج بحر الشمال وهولندا بشكل حاد، لكن الصعوبة ستكمن في منافسة الغاز الروسي رخيص الثمن، وفي هذا تفسير واضح للجانب الاقتصادي من اللعبة الدولية الكبرى للسيطرة على الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين.
ومن جهة أخرى يدلل بدء الحفر الاستكشافي قبالة سواحل قبرص على أن حوض المشرق قد يحتوي على احتياطات الغاز الهائلة. وكما إسرائيل، سيكون لبنان موطنا لاحتياطيات كبيرة من الغاز في منطقته الاقتصادية الخالصة (EEZ)، ويرجّح أن تمتلك سوريا أكبر احتياطي نفطي في المشرق، إلى جانب احتمال وجود حقول جديدة للغاز والنفط في شمال وغرب العراق تنتظر الإفراج عنها؟
وسط كل ذلك، لا يتلخص النزاع بين لبنان وإسرائيل على جزء من حقل غاز يقع على حدود البلدين، بل له أبعاد أخرى. وتسري هذه المقاربة على الصراع داخل قبرص أو حولها، وكذلك على الخشية التركية من خسارة موقع مصب الغاز والنفط على ضوء التقارب المصري-الإسرائيلي الذي تجسد في صفقة الغاز الأخيرة والتفاهمات حول استثمار هذا المورد.
تتخطى المسألة إذن ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة، وترتبط بقدرة كل دولة في الدفاع عن سيادتها وحقوقها ومصالحها خلال حقبة انهيار أو تفكك أو تبعية لبعض الدول العربية المعنية.
وإذا كان لا يُستبعد تماما أن يتطور الصراع متعدد الأطراف حول الطاقة إلى مواجهة أو حرب إقليمية، فبالرغم من استمرار الوساطة الأميركية حول “بلوك 9” بين لبنان وإسرائيل، يخشى المراقبون من ارتفاع التوتر على المدى القصير فقط، لكن خطر المواجهة المباشرة لا يزال منخفضا، في ظل احتمال ترابط ذلك مع حروب سوريا وضخامة التجاذبات الجيوستراتيجية حولها. ويسري الأمر على مصر وتركيا وقبرص. إذ يبقى من الأفضل أن يكون اقتسام موارد الطاقة مدخلا للتعاون، بدل الموت من أجل المياه أو البترول أو الغاز.
khattarwahid@yahoo.fr