تبادل الأمن الإسرائيلي بأمن النظام
سنحاول في هذا المقال تقصي عوامل قوة النظام السوري كما يتعاورها الأصدقاء والخصوم هذا إذا صح أن نتحدث عن صلاحية مسميات أصدقاء وخصوم للنظام الذي صاغ مؤسسه (الأسد الكبير) عبر ثلاثة عقود قام بنسج شبكة علاقات فريدة في غرابتها واستثنائيتها كاستثنائية قوانينها، حيث تحتاج الى حقل دلالي مختلف، إذ أن المنظومة السياسو-ايديولوجية التي استند إليها الأسد الأب في رؤية الآخر قامت على معادلة ثنائية، (عميل أو خائن)… ولهذا فإن منظومة علاقاته وتحالفاته وبنائه لسلطته قامت على هذه الثنائية الحاسمة… فالأصدقاء وفق الترسيمة الأسدية هم من يتماهون انصياعا بـ(لأنا الأسدية) عبر استقالة طوعية (استلابية) قزمية للذات في صورة (الجندي العميل) الذي ينفذ الأوامر، وعلى هذا الأساس بنى علاقته مع شعبه وحلفائه في المنطقة سيما في لبنان الشقيق الأصغر: حيث معادلة: (صديق/عميل) تفترض بمن يقترفها أن يؤمن بسلطته المطلقة وبسياساته وتدابيره بوصفها عين الحكمة وموئل الصواب، الذي لا يستدعي الموافقة فحسب بل والتأييد بالروح والدم… وهكذا تموضع حزبه بعد انقلابه وبنيت تحالفاته مع الأحزاب الأخرى فيما سمي بـ(الجبهة الوطنية التقدمية) من خلال قبول الجميع وتجاوز ما كان يسمى بيسار أو يمين، ومن يخرج على هذه القاعدة (العمالة) فإنه لن يكون إلا (خائنا) ولهذا فليس في سوريا –وفي العراق أيام صنوه صدام- معارضة بل مجموعة خونة، وهذا ما يعبر عنه سليله ووريثه طبيب العيون(الأسد الصغير) لكل وسائل الإعلام بلسان عربي مبين لا عيب فيه ولا قصر ولا ثأثأة…! بل وكان حاسما -بوصفه ابن أبيه- عندما أراد المرحوم الحريري أن يعطي معنى آخر للصداقة غير(العمالة)، فلقي الرجل مصرعه بوصفه (خائنا) على يد الشاب الهمام (ابن أبيه) القادر على ضبط أعصابه حتى ولو فرقعت الطيارات الإسرائيلية فوق غرفة نومه… والحريري في خيانته كان في ذلك مثله مثل (الخائن ) ياسر عرفات الذي أبى أن يكون صديقا للأسد الأب على طريقة أحمد جبريل، لكن إسرائيل هي التي عاقبته على خيانته بالنيابة…!
وهكذا ستتحول هذه الثنائية (عمالة /خيانة) الى أدلوجة : ينضد المجتمع على أساسها، منذ الحضانة الأولى إلى المرحلة الابتدائية فالإعدادية فالثانوية فالجامعية : حيث تربية الأصدقاء/العملاء على ثقافة… بالروح بالدم… الى الأبد الى الأبد. هذا الشكل لمعنى الصداقة (العمالة) سينتج مضاده في صورة (الخيانة) التي سيملأ مربعها الأخوان المسلمون… حيث الحضانة والطفولة والفتوة والشباب في كل مراحل سلك التعليم، عليهم أن ينشدوا يوميا لوازم (مواطنيتهم) النضالية : الولاء بـ (الروح والدم والأبدية ) والبراءة من (عصابات الأخوان الخائن).
ووفق لازمة (الولاء والبراءة) هذه، بنى الأسد – أو بالأحرى – دمر الحياة السياسية وأعادها إلى مستوى الثنائيات القروسطية عن مطلق الخير والشر، فكانت صورة أيقونة الخير ترتسم هبوطا من ذاته وصفاته فعائلته المقدسة حيث ينشد عناصر الحرس الجمهوري والأمني المقربون محفوظات سرية تبدأ بترتيلة (اللهم بارك البطن الذي حمل حافظ الأسد… وتمضي سلسلة المباركات مستمرة بالبطن الذي حمل بباسل…وبشار…وهكذا دواليك… الخ)، ومن بعد الذات والأسرة، تبدأ دائرة العائلة فالطائفة فالحزب فالجبهة الوطنية التقدمية التي تتوج عمق معنى وجودها الدلالي في دعاء خالد بكداش على الفضائيات للرئيس بطول العمر، أي (مبايعته بالأبدية)، وذلك قبل وفاة خالد بكداش بشهور… أي في ذروة بناء مملكة الرعب في سوريا، بعد أن أصبحت المبايعة بالأبدية نوعا من التتويج على عرش من الجماجم، مما يحق للأسد أن لا ينازعه على لقب (أبو الجماجم) إلا صدام حسين سميه وخليله.
يعزو أصدقاء النظام السوري –أو اقرأ عملاؤه- الحاكم منذ 39 سنة نجاحه في الاستمرار طوال هذه المدة، إلى الكفايات المتنوعة لمؤسس هذا النظام (حافظ الأسد ) وتمتعه بعقل “استراتيجي” وآخر “تكتيكي”.
إن القائلين بهذا الرأي -خارج دائرة الولاء (عملاء الداخل)- هم في أغلبيتهم صحفيون أو سياسيون عرب من مرابعي النظام السوري في المؤتمرات القومية – الاسلامية، أصحاب استراتيجية: (الهتاف والصفير والدبكة والدربكة وفي المآل التوريط) لدى قادة انتحار المشروع القومي العربي بدءأ من صدام حسين حتى أوصلوه حبل المشنقة… وعمر البشير الذي يهتفون ويصفرون لبطولاته بالغزو العربي (الجنجويدي) لقبائل سودانية مسلمة، لكنها تفتقد إلى شرف العروبة فحل ذبحها، باعتبار أهلها ليسوا عملاء(ولاء) بل خونة (براء)، والأسدية هي واسطة العقد في المصالحة بين عمالة العروبة الصدامية سابقا، والعروبة الممهورة بأختام اسلام ولي الفقيه في (ايران)، وذلك في مواجهة (الخونة) من الديموقراطيين الغريبين عن العروبة والإسلام من كل أولئك الداعين إلى الشرعية الدستورية : من ليبراليين ويساريين وإسلاميين مدنيين ينتمون إلى العصر وقوميين لا يعرفون هويتهم بالضد من الآخر، حيث كل هؤلاء يؤمنون بضرورة المصالحة الوطنية مع الذات في الداخل الوطني والقومي تحت ظل دولة القانون والشرعية الدستورية وفصل السلطات والمصالحة مع العالم بوصفنا جزءا من هذا العالم ولسنا (خوارج)عليه، جزءا من سكان هذا العالم الذين يريدون أن يساهموا في بنائه وتقدمه وحماية منجزاته الحقوقية والقانونية والسيادية.
أو هم –القائلون بالكفاية الاستراتيجية للأسد- من صحافيين أجانب من الدرجة العاشرة يجدون من يشتريهم بسعر غير متوفر في بلادهم، أو من صحافيين ملحقين بوزارات خارجياتهم للحفاظ على علاقات مصالح بلادهم مع طغم مافيات النظام السوري وغيره من الأنظمة الديكتاتورية…
لكن الحديث عن التكتيك والاستراتيجية للأسد الأب يظل تجريديا يضمر ما هو مسكوت عنه، والتعببر الوحيد عن حقيقة هذه الكفاية، إنما تحيل إلى: استراتيجية التقاء أو تقاطع أو تطابق المصالح بين النظام السوري وإسرائيل، في صيغة “الحفاظ على أمن اسرائيل مقابل الحفاظ على أمن النظام”، وهنا علينا الانتباه إلى أن التبادل هذا هو بين أمن اسرائيل القومي،أما الأمن بالنسبة لسوريا فهو “أمن نظامها”، ويكفي هذا الفارقق بين الديموقراطية والاستبداد، حيث الديموقراطية اسرائيليا تصب في المصلحة الوطنية والقومية الإسرائيلية (الأمن الوطني)، بينما الاستبداد لا يمكن أن يصب إلا في مصلحة النظام الديكتاتوري الحاكم (أمن النظام)… هذه (الاستراتيجية) تستند إلى (تكتيك) حرية حركية الصراع عبر (الإعلام)، لكن المسيطر عليه والمراقب بدقة وشدة، حيث الخطاب الإعلامي المضاد لإسرائيل شعاريا ولفظيا مسموح ومكفول، لكنه الذي يحافظ على حد معين من العداء المقنن المؤسس على أدلوجة الحرب الإعلامية (صمودا وتصديا وأخيرا ممانعة…) ضد (العدو الإسرائيلي والامبريالية الأمريكية….الخ).
وتطابق المصالح هذا قائم على تبادل الاستقرار الأمني: لكنه أمن النظام مقابل أمن إسرائيل، لأن اسرئيل ليس لديها ثمة نظام تخشى على أمنه ما دام هناك صندوق اقتراع، والهدف من ذلك هو الحفاظ على الوضع القائم جيو سياسيا، والسماح-في آن واحد- بالحركية الاعلامية، وهو ما عبرعن معناه باتريك سيل في كتابه عن (حافظ أسد)في كون الأخير خاض ما يسمى بـ(حرب تشرين) بوصفها آخر المعارك مع اسرائيل، لكي يتفرع للإثراء : الأسدي فالعائلي فالطائفي، حتى أن سيل يعتبر أن من حق الأسد على طائفته أن تعتبره نبيا كما هو معروف… ومع ذلك فإن باتريك سيل يأتي إلى سوريا ويستقبل من الأسد نفسه وحاشيته وبطانته الأمنية والعسكرية دون أن يحال إلى محكمة أمن الدولة لتحاكمه بتهمة إثارة النعرات العنصرية والطائفية….!
وقد سبق لبن غوريون منذ منتصف الستينات أن أشار الى هذه (العبقرية الأسدية) في بناء استراتيجيته وتكتيكه، عندما كشف عن مضمون دلالة الرسالة (اليسارية الراديكالية ) التي قادتها اللجنة الثلاثية (الأسد –عمران –جديد)، عندما قال أنه باسم هذه اليسارية وتحت مظلتها تتم عملية (تطييف) النظام في سوريا… وهذا يعني بعث رسائل تطمينية لإسرائيل مفادها: إن مصلحة اسرائيل وأمنها يكمنان في غلبة أقلية طائفية من خلال الاستيلاء على الجيش ومن ثم على البلاد… عبر شعارية يسراوية لفظية، استخدمت الايديولوجيا الطبقية (الفلاحية) باسم هزيمة المدينة (البورجوازية) وتمثيلها في الجيش الذي غدا اللاعب الأساسي في الحياة السياسية في سوريا بعد انقلاب 8آذار 1963، هذا الجيش كان لابد من تطهيره من البورجوازيين والرجعيين –من أبناء المدن- المعادين للثورة… وذلك عبر اعتماد (تكتيك) ايلاء مهمة الحراك الاعلامي لحزب البعث، وذلك لتغطية هذه الصفقة التاريخية التي كان يعقدها الأسد في الفترة الانتقالية لانقضاضه على السلطة سنة 1970، والتي كان عليه أن يخوض حربا تكتيكية لاحقة –بعد ثلاث سنوات- من أجل صياغة الكاريزما الضرورية للتعويض عن تمثيله (الأقلوي) ليرتفع إلى مستوى الزعامة الوطنية التي تتيح له الانتقال من التوافقات المضمرة في المرحلة الانتقالية إلى الاتفاقات المعلنة في مرحلة ما بعد حرب 1973 بوصفها نهاية الحروب الأسدية وفق استنتاجات سيل من لقاءاته مع الأسد، ووفق معطيات الواقع القائم التي برهنت لنا على درجة التزامه بحماية أمن إسرائيل واستقراراها في الجولان منذ ستة وثلاثين سنة…
يرافق ذلك الاحتفاظ بالحركية الاعلامية التكتيتكية الموكلة لحزب البعث وآلته الإعلامية، الدفع باتجاة تمدده وانتشاره كميا، لكن عبر تفريغه نوعيا من فعاليته الحزبية والتنظيمية المؤثرة والفاعلة على الحياة السياسية وتحويله إلى جهاز إعلامي وإداري ووظيفي معاشي لإدارة الفوضى والفساد والمحسوبية وطرد الكفاءات باسم الولاءات، وتقويض الطبقة الوسطى من خلال اتساع قاعدة الفقر المتوازي مع ضيق دائرة المستحوذين على الثروة، وذلك من خلال دوره الحكومي في تشكيل وزارات هي في خدمة المافيات الأمنية والعسكرية التي تتوزع تسمية الوزارات لتكون بمثابة لجان إدارة أعمال عند المخابرات والعسكر اللذين شكلا قاعدة اجتماعية منظمة لعصبية طائفية لا يشاكلها في ذلك أي نموذج آخر في العالم، حيث في هذا التمايز المميز سوريا، يكمن سر قوة النظام الذي يعبر عنه الأسد الأب أمام الحلقات الضيقة بصيغة: “أعطني بضعة جنرالات موثوقين لأدير الولايات المتحدة.الأمريكية ذاتها..”.
وعلى ذلك فإن النظام يتأسس داخليا: جنرالات الأمن و الجيش+ عصبية طائفية تشكل الملاط الذي يصهر الجميع –غطاء ايديولوجي مزيج سديمي : لعروبة متآكلة تنضح من بعثية عتيقة، يعاضدها إسلاموية سنوية مشيخية سلطوية… يعادلها على المستوى الخارجي توافق استراتيجي وتطابق مصالح بين(أمن اسرائيل وأمن النظام)، مع تكتيك إعلامي شعاري بياني وبلاغي يصدح بالعداء لإسرائيل، وذذلك لإحراج الأنظمة العربية الواقعية بدون ادعاءات (ثورية قومية أو إسلامية)، حيث يشكل النظام المافيوي بؤرة فتنة دائمة للانقسام العربي الدائم، لكن باسم العروبة وباسم أنه يمثل دمشق قلب العروبة النابض… حيث هذه المسخرة الإعلامية التي فرضها على المنظومة السياسية والثقافية العربية أتاحت له أن يدخل إيران طائفيا في منظومة مشروعه القومي والوطني التحرري : من خلال توحد الطرفين حول موروث ثقافي طائفي قائم على (الباطنية العلوية سوريا، والتقية الشيعية ايرانيا) حيث العرفان الباطني الإيراني يسخر من البيان العربي العلني والصريح، لكنه الساذج الذي يمكن ايران أن تكون هي قائدة مشروع المواجهة مع اسرائيل وأمريكا في الحين الذي تعلن فيه أنها لولا موقفها الداعم للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان لما تمكنت أمريكا من انجاز مهمتها بنجاح، وذلك وفق العتب الإيراني على الأمريكان…وكذلك العتب الأسدي حول تعاونه الأمني الذي حمى الجنود الأمريكيين.. وقلة وفاءالامبرياليين حماة الكيان الصهيوني الذين لا يقدرون خدمات الممانع الظريف…
mr_glory@hotmail.com
* كاتب سوري