لم يكن أحداً ليصدق أننا سنبلغ هذا المستوى من التخاطب والسلوك السياسيين. تحولت لغة الشارع المبتذلة الى خطاب “رسمي” ينأى عنه حتى اللبناني المُعْتَبر كطائفي ومذهبي. الغريب في الأمر أن أصحاب هذه البدع لا يدركون حجم امتعاض ورفض “المواطنين” اللبنانيين لهم ولهذه اللغة المستجدة ولهذه الصورة المبتذلة عن لبنان.
يفرضون قوانين انتخاب طائفية مفصلة على مقاسهم تفرز ممثلين يرفعون علناً ولاءهم لحكام طوائفهم ولمرجعياتهم التي غالباً ما تكون عابرة للحدود. وفيما هم يزعمون تمثيل لبنان واللبنانيين والحفاظ على حقوقهم، نجدهم يذعنون لما يريده مرشد الدولة!! فعن أي تمثيل حقيقي للمواطنين اللبنانيين يبشرون؟
السؤال الذي يطرح: كيف يزعمون ان قوانينهم تمثل جميع اللبنانيين؟ فأي نسبة يمثلون هم وجمهورهم في الواقع كي يقرروا عن الشعب اللبناني بأكمله وبوكالة منتهية الصلاحية؟ أأكثر من 30 او 40% فلماذا يفرضون توجهاتهم وسياساتهم الطائفية على من هم خارج الاصطفاف الطائفي والمستقلون وغير المنتمين الى احزابهم والذي يتبين في كل مناسبة انهم في ازدياد ويفوقونهم عدداً!؟
وفي مقابل هذا الخطاب الطائفي المبتذل نجد ان البعض يرفع شعار “العلمانية”، هكذا!! وكأنها الحل السحري لما نعانيه. بينما يعتبرها البعض الآخر “رجس من عمل الشيطان” والشيوعي خصوصاً.
دعونا نتفق بداية أي علمنة نريد وعلى ان “العلمانية” لا تؤدي بالضرورة الى الديموقراطية. فالنازية مثلاً كانت علمانية، مثلها مثل الاتحاد السوفياتي. النظرية الماركسية التي لم تفرق بين الدين والايديولجيا، لكنها استثنت نفسها ولم تعتبر انها هي ايضا ايديولوجيا.
ما نستنتجه من ذلك ان الصراع العقائدي او الايديولوجي يتماثل مع الدين، لأنه شكل من اشكال الصراع الديني. وهذا ما ينطبق على العلمانية عندما تتحول الى ايديولوجيا.
ذلك يتطلب أيضاً تحديد معنى ومكونات الديموقراطية وشرعية التمثيل الديموقراطي كشرط ضروري لنجاح العلمانية. فالأنظمة العربية مثلاً تعتمد على الانتخابات ونتائجها كي تبرهن شرعيتها وديمقراطيتها؛ ونظام الأسد لا يزال “شرعياً”، بنظر داعميه والمتواطئين معهم، بعد تدميره معظم سوريا وبعد تهجير الملايين من شعبه؛ فهو يجري انتخابات علاوة على “علمانيته المفترضة”!!
الديموقراطية ليست مجرد انتخابات؛ فحماس جاءت بانتخابات فهل يعني هذا انها ديمقراطية؟ البابا منتخب وهذه ليست ديموقراطية ولا يقدم نفسه على انه ديموقراطي.
المطلوب نظام ديموقراطي فعلي؛ لأن جوهر الديموقراطية، حكم الشعب نفسه بنفسه من اجل نفسه، أي مبدأ سيادة الشعب واحترام الحرية الفردية والحريات العامة ومبدأ المساواة بين المواطنين كما الشفافية الناتجة عن المراقبة والمساءلة. والدولة لا يمكنها ان تكون ديموقراطية دون حريه المعتقد؛ وبما ان الدولة الدينية تكفّر من لا يؤمن بدينها والمساواة تكون بين مواطنين وليس بين كفار ومؤمنين او بين مؤمنين متسامحين مع وجود الكفار او من الاديان الاخرى بينهم.
فمن هنا مطلب فصل الدين عن الدولة، الذي يعني اخراج الدين من مجال الدولة ونزع فكرة أن السلطة حق من حقوق رجال الدين. وهذا ما يعرف بتحييد الدولة، الشرط الضروري للديموقراطية.
لذا لا يمكن للدولة إلا أن تكون علمانية، اذا اعتبرت مؤسسة حيادية وظيفتها حماية حقوق وحريات المواطنين. وكلما نجحت البشرية في جعل السلطة والقضاء ومؤسسات الدولة أجهزة حيادية منفصلة عن بعضها كلما حققت الأمن والسلام. لأننا عندها نؤسس لمجتمع يتساوى فيه جميع المواطنين بالواجبات والحقوق المشتركة والمقبولة بالحد الأدنى بينهم جميعا.
ان ما سبق شكل الخلفية لمطلب “الدولة المدنية” كبديل عن العلمانية التي تثير الذعر.
ومن شروط الدولة المدنية الديموقراطية تأمين التعدد وقبول الآخر المختلف والمساواة في الحقوق والواجبات المتشاركة. كما تؤمن الحريات وخاصة حرية التعبير. ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألا تنتهك حقوق أي فرد من طرف آخر (تحريم اللجوء الى العنف)؛ حيث أن هذه القيم هي التي تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق ووجود حد أدنى من القواعد يتم اعتبارها خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها.
ولا بد من الاشارة هنا الى ان مفهوم الدولة المدنية نشأ في بلادنا كي لا يتم الخلط بين الدولة العلمانية الفرنسية المعادية للدين فيما الدولةفي البلدان الاخرى وخاصة الانكلوسكسونية تستخدم مفهوم Secular State ويقصد منه دولة غير دينية وليست معادية للدين كما كان عليه الأمر في فرنسا. في إعلان الأزهر الأخير (مطلع آّذار الفائت) تم الاعلان عن دولة المواطنة المدنية التي يتساوى امامها المواطنون كما تم رفض مفهوم “الأقلية” طالما ان الدولة هي التي تحمي الحقوق أمام القانون. وهذا جوهر الديموقراطية التي تحافظ وتحمي جميع أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والعرق والدين والمعتقد.
لم تعمل الطبقة السياسية في تاريخها حتى الآن على بناء دولة المواطنة، ولا على تسويق عقيدة وطنية لبنانية جامعة تؤسس لها بسلسلة برامج اجتماعية خدماتية وتربوية لتطوير النظام ليصبح اكثر مدنية وعصرية، بل تزداد غرقا في بمستنقع الطائفية. وبدل الاستفادة من اعلان الأزهر للمساواة المواطنية ولرفض مفهوم الاقليات وقراءة ما يجري في العالم العربي من عنف طائفي كدليل على تراجع الديموقراطية والحريات وحقوق الانسان واظهار لبنان، يُرفع شعار رفض “التهميش المسيحي” والاحتماء بتحالف الاقليات ويتم القضاء على الديموقراطية اللبنانية والامعان في تأبيد الطائفية.
والحصيلة تعميق نفوذ السلطة الدينية واعطاءها دور رقابي افتتح العمل به منذ اتفاق الطائف الذي زاد من حضور بعضهم الطاغي وسمح للسطات الدينية الصاعدة بحق الاستئناف أمام أعلى السلطات القضائية اللبنانية حول أي قانون او مرسوم “يضرّ او يمسّ، بنظرها”، بطائفة وحق التربية والتعليم الديني وصولاً الى “حرية المعتقد وحرية الضمير” التي تعني لهم حصراً حفظ حقوق الخطاب الطائفي.
الأسئلة التي يطرحها المواطن اللبناني خارج القيود الحزبية الطائفية والمذهبية المطبقة على خناق لبنان:
الدولة حيادية في الامور الدينية وهي لا تضايق الجماعات الدينية، فمتى ستكف عن مضايقة المدنيين والعلمانيين؟
هل ينص الدستور على دين معين للدولة؟ كلا، اذن متى سيعطى المواطن حق اختيار ادارة شؤونه الشخصية كافة خارج سيطرة الطوائف والمذاهب؟
متى سيتم عدم انتهاك الحريات الفردية باسم “الاخلاق” المذهبية والطائفية؟ لاننا لا نتكلم في لبنان عن “دين” بل عن مذاهب وطوائف وممثلين لها يحتكرون السلطة على المسجلين رغما عن انوفهم في قيد طائفي.
هل لا زالت الدولة تصون حقاً حرية المعتقد؟ أي اللإعتقاد ايضا؟
هل تقبل ببدائل بعيدة عن الدين؟
هل أن الجيل اللبناني الشاب المستبعد عن جنة الاقتراع يرغب بالقوانين الطائفية المذهبية التي يقترحونها ؟ هل يرغب بتأبيد هيمنة النظام الطائفي؟ هل يرغب بالتقاسم المحاصصاتي الزبائني بين المذاهب؟ هل يقبل بأن تنتهك حقوقه وان تنتقص سيادة وطنه؟
نعلم ان الانتخابات في العالم ككل لا تحسم على أساس الأفكار، لكنها تحسم على أساس المصالح. ونجد هنا ان لا مصلحة لمعظم اللبنانيين في الانتخابات القادمة على اساس القوانين المفصلة على قياس الطبقة السياسية التي تخطف لبنان.
monafayad