نتوقف عند حادثة مقتل الجنود المصريين في سيناء، ونلاحظ ما يلي:
أولاً، تهريب السلاح إلى غزة يمثل تهديداً لأمن مصر، واستقرارها، وانتهاكاً لسيادتها. ولن يتمكن المصريون من تأمين سيناء، وضمان أمنها، دون القضاء على شبكات التهريب.
ثانياً، لم تشكل غزة، ولن تشكل في يوم من الأيام تهديداً عسكرياً لإسرائيل، مهما كدّس حكّامها من أسلحة، ومهما حفروا من أنفاق.
ثالثاً، سواء أكان الرئيس المصري عضواً في جماعة الأخوان المسلمين، أو في غيرها، فإن منطق الدولة في مصر ينتصر دائماً. ومنطق الدولة لن يقبل بتهديد أمن مصر واستقرارها، والنيل من سيادتها، بصرف النظر عن الهوية الأيديولوجية للرئيس، وعن هوية المُهدِدين وحروبهم وقضاياهم.
أما بعد.
يصعب الفكاك مما يجري في سورية، في ظل تطوّرات متلاحقة من بينها فكرة لامعة كتبها أحد المعلّقين الغربيين قبل أيام قليلة، ومفادها أن النظام السوري فقد سمات النظام الحاكم، وأسقط من حساباته مسؤولية الدولة إزاء مواطنيها، ليتحوّل إلى ميليشيا مسلحة بالدبابات والطائرات تقاتل وتقتل في سبيل البقاء. وهذه الفكرة عززها انشقاق رئيس الوزراء السوري يوم أمس.
ومع ذلك، الصحيح أن هذا النوع من الأنظمة لم يتحوّل إلى ميليشيا في ظل الأزمة، بل أن الأزمة هي التي كشفت القناع عن وجهه الحقيقي، أي وجه الميليشيا العائلية المسلحة. ولا يمكن لعاقل مقاومة الإحساس بالرعب، حتى بأثر رجعي، مع إدراك أن كل الكلام في العقود الماضية عن “المقاومة والممانعة” كان مجرّد قناع على وجه ميليشيا طائفية. كم من الدماء والدموع أراقت ميليشيا آل الأسد في سورية، ولبنان، وفلسطين، والعراق، وكم من الضرر ألحقت بمصر والأردن؟
حتى في حادثة الاعتداء على الجنود المصريين في سيناء، و”اقتحام” الحدود مع إسرائيل، يمكن العثور على خيط من الدم يصل إلى دمشق. مثلاً: الفرق بين هذه العملية وعملية “اقتحام” خط الجبهة في الجولان، من جانب “متظاهرين” في ذكرى النكبة بعيد اندلاع الثورة السورية، فرق في الدرجة لا في النوع.
وطالما وصلنا إلى هذا الحد، تصعب الكتابة، بطريقة حصرية، عمّا أصاب الفلسطينيين في مخيم اليرموك. فالكارثة التي لحقت بهم جزء من الكارثة التي لحقت بالسوريين. وهم رهائن مرتين: مرّة لدى ميليشيا آل الأسد، ومرّة لدى ميليشيا أمراء الحرب الفلسطينيين. ولا فرق في تجارة الدم بين هذه وتلك.
أخيراً، في مكان ما من العالم شخص يقرأ الجرائد و”ينصح” التلفزيون الرسمي في دمشق بنشر هذا الخبر أو ذاك. وهذا الشخص، الذي ربما كان عضواً في ما يُطلق عليه “الجيش الإلكتروني”، يختار من الأخبار ما يشاء، ويحذف منها ما يشاء. وفي هذا السياق نشر التلفزيون الرسمي في دمشق يوم الأحد الماضي الخبر التالي في شريط الأنباء: روبرت فيسك يحذر في صحيفة الإندبندنت البريطانية من قيام العصابات الإرهابية بتدمير الآثار السورية.
والصحيح أن روبرت فيسك كتب مقالتين في غضون أسبوع واحد عن آثار سورية، وكان عنوان المقالة ـ التي استشهد الشبيح في ميليشيا “الجيش الإلكتروني” بفقرة مشوّهة وردت فيها ـ: “هجوم بلا شفقة يشنه الأسد يهدد بتدمير مستقبل سورية وماضيها”. ولم يكن ليجرؤ على نشر العنوان بطبيعة الحال.
في المقالة وصف لما أصاب آثار سورية من دمار نتيجة القصف الصاروخي والمدفعي من جانب قوات النظام لقلاع ومواقع تاريخية في مختلف المدن والبلدات السورية. وعلى هامش الوصف كلام عن عدم اهتمام الأصوليين الإسلاميين في صفوف المعارضة بمصير تلك الآثار.
ومن الأشياء التي “تجاهلها” شبيح الميليشيا الإلكترونية في مقالة فيسك: تحذير السلطات السورية الرسمية من احتمال تعرّض المتاحف والمواقع الأثرية في سورية للسرقة. وربما يندرج هذا التحذير، والكلام لروبرت فيسك، في إطار تمهيد أشخاص من داخل النظام نفسه لسرقة المتاحف والمواقع الأثرية.
ثمة “غزوة” أخرى قام بها شبيحة الميليشيا الإلكترونية وتمثلت في اختطاف موقع تويتر لبعض الوقت، وتعميم رسائل باسم “تويتر الشرق الأوسط” تفيد بمقتل المئات من جنود “الجيش السوري الحر”، ونفاد ذخيرته. وقد عبّروا بذلك عن رغبات دفينة لم تكن متحققة في الواقع فأسقطوها عليه. ومن حسن الحظ أن المشرفين على الموقع تمكنوا من استعادته بسرعة من قبضة الميليشيا الإلكترونية، واحتفظوا بالرسائل المزيفة التي عممها هؤلاء. الرسائل التي ربما تصلح ذات يوم كوسيلة إيضاح في درس لتحليل الخطاب.
هذه أشياء صغيرة، بطبيعة الحال، ولكن الصغير والهامشي يدل على الكبير والأساسي، دائماً. وهذه “الغزوات” تدل على علاقة شديدة الأريحية بالحقيقة، وعلى بنية عقلية لا ترى في الواقع إلا ما ينبغي للواقع أن يكون عليه، فإذا لم يكن، استعانت عليه بالبلاغة، لتصبح البلاغة هي الدليل الوحيد على صدق ما قالته عنه، فإذا لم يحظ قولها بالقبول، أفحمت الخارجين على إجماع “شعب المقاومة والممانعة” بالقتل. من حسن الحظ أن وقت الميليشيا العائلية آخذ في النفاذ، ومن سوء الحظ أن الثمن باهظ ومؤلم.
في دمشق ضوء في آخر النفق. وفي غزة نفق يقود إلى نفق، ولا ضوء ولا ما يحزنون.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني