لا وجود لحقوق مقدسة وثوابت. هذا بقدر ما يتعلّق الأمر بالسياسة. ولا وجود لعواصم أبدية، أو خالدة. إن فكرة القائلين بالعواصم الأبدية والخالدة تعاني من مشكلة في تعريف الأبدية والخلود، وهما أطول عمراً من الأمم والعواصم، ناهيك بطبيعة الحال عن أعمار بني البشر. فلنفكر في الأمم والشعوب والعواصم ليس قبل عشرات القرون وأين هي الآن، بل في جغرافية العالم السياسية والبشرية قبل مائة عام.
وإذا كان ثمة من قداسة تليق بحق ما، فإن حق الإنسان في الحياة والحرية مقدس. وإذا أردنا حصر الأمر في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، فإن هذا الحق يصدق علينا وعلى اليهود الإسرائيليين.
مناسبة هذا الكلام ما أعقب تصريحات للرئيس محمود عبّاس في لقاء مع محطة تلفزيونية إسرائيلية من ردود فعل في فلسطين وخارجها. وبقدر ما يعنيني الأمر يصعب التفكير أن إضفاء صفة القداسة على حق العودة، أو التعامل معه باعتباره ثابتاً من ثوابت السياسة يُسهم في تحقيقه.
ومع ذلك، لا أعتقد أن التوّصل إلى حل دائم للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في فلسطين وعليها، ممكن دون حق العودة، وحتى لو تنازل الفلسطينيون عن هذا الحق (وهذا على الأرجح لن يحدث)، فإن نجاح اليهود الإسرائيليين في توفير “ضمانات” تاريخية لوجودهم في الشرق الأوسط، وبين الأمم الثلاث العربية والتركية والفارسية، لن يتأتى دون الاعتراف بهذا الحق.
لن يتمكن الإسرائيليون من الاعتراف بهذا الحق، ولن يتنازل الفلسطينيون عنه، طالما ظل الصراع في فلسطين وعليها محكوما بمنطق السيادة القومية الحصرية، بمعنى السيادة الحصرية لليهود مقابل وعلى حساب السيادة الحصرية للفلسطينيين، والعكس صحيح. السيادة الحصرية وصفة مضمونة لتأبيد الصراع.
قد تفرض موازين القوى في هذه المرحلة أو تلك حلولا مؤقتة، وقد تبدو الحلول المؤقتة في نظر كثير من الإسرائيليين مضمونة أكثر من مجازفات وجودية، ومع ذلك لن تكف جذوة الصراع عن الاشتعال من وقت إلى آخر.
وإذا أردنا قراءة الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي في فلسطين وعليها بطريقة جديدة، فلنقل إن ديمومة الصراع نجمت عن مبدأ الانفصال. كل الحلول السياسية التي طُرحت منذ مائة عام استندت إلى فكرة الفصل بين الفلسطينيين واليهود، وكان مصيرها الفشل. وقد كانت اتفاقيات أوسلو آخر تجلياتها.
تعيدنا هذه التداعيات، على الفور، إلى فكرة الدولة الواحدة (أي نقيض الانفصال)، ولدينا في الواقع أدبيات يعود بعضها إلى مائة عام، وينتمي البعض الآخر إلى الإحباط الناجم عن فشل “عملية” السلام في العقود الأخيرة، وقبلها بقليل إلى التفكير الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية بشأن الدولة الديمقراطية العلمانية، مع ملاحظة أنها لا تحظى بتأييد أعداد يعتد بها من الإسرائيليين، ولا تُستحضر، غالباً، من جانب الفلسطينيين إلا في سياق مماحكات سياسية. ومع ذلك، ما لا يحظى بالإجماع لا يعني بالضرورة أنه مُفارق للمنطق، أو غير قادر على اختراق التيار السياسي العام في وقت ما.
طرحت جماعة من المثقفين اليهود، قبل إنشاء الدولة الإسرائيلية، أفكاراً مختلفة تحت عنوان ثنائية القومية، وربما انطلق بعض هؤلاء من دافع الخوف على مصير الييشوف اليهودي في فلسطين. وقد تحوّل بعضهم إلى قوميين متشددين بعدما أدركوا أن التهديد العربي لم يكن بحجم خوفهم. المهم أن الخوف قد يكون مصدراً للحكمة، وبعد النظر في حالات بعينها.
واليوم يطرح بعض الفلسطينيين، وهم أقلية في جميع الأحوال، فكرة الدولة الواحدة، نتيجة الإحباط، والفشل في إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني بطريقة مباشرة. مرّة أخرى، قد يكون الإحباط مصدراً للحكمة وبعد النظر في حالات بعينها.
أضع هذا كله في الذهن، مع إدراك مُسبق لحقيقة أن حظوظ الدولة الواحدة أقرب إلى الصفر منها إلى أي شيء آخر. وما يحكم اقترابها من الصفر لا ينحصر في حقيقة أن اليهود الإسرائيليين لن يتنازلوا عن السيادة (الواقعية المتحققة بقوّة السلاح) مقابل “ضمانات” تاريخية تمنحهم طمأنينة وجودية في هذا الجزء من العالم، بل يتجاوز ذلك إلى حقيقة أن اقتصار الفكرة المضادة للانفصال على خارطة سياسية وحيدة للطريق اسمها الدولة الواحدة يحكم عليها بالفشل.
ليس للأرض من أهمية حقيقية خارج فكرة الانفصال. فلا معنى للسيادة دون محددات جغرافية، خاصة إذا كانت حصرية. وفي سياق السيادة الحصرية، فقط، تصبح قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين، وتصفية آثار حرب العام 1948، قنبلة موقوتة لن يتمكن أحد من نزع فتيلها.
النظر إلى الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي في فلسطين وعليها بطريقة معاكسة للانفصال لا يعني، بالضرورة، نفي فكرة الترتيبات السيادية المؤقتة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا يعني عدم التفكير في اقتسام الأرض، ضمن ترتيبات إقليمية يُتفق عليها، إنه يعني على الأرجح محاولة العثور على حل ينسجم مع هوية وخصوصية فلسطين بالمعنى التاريخي. المهم أن للأفكار حياة ذاتية خاصة، وقدرة يصعب التنبؤ بتجلياتها في الواقع.
كل حل يقوم على فكرة السيادة الحصرية بين البحر والنهر، سواء أكانت يهودية أم عربية، يعني اختزال جزء من هذا التاريخ، وتأويله طريقة انتقائية. وفي هذا، أيضاً، ما يؤبد الصراع.
من هنا إلى أين؟ لا يشكو الفلسطينيون والإسرائيليون ندرة الدراسات والتحليلات “الإستراتيجية” التي تقول لهم: يجب وينبغي، وترسم خارطة للطريق في كل أفق واتجاه، بينما المشكلة الحقيقية في الأفكار، في نقدها ونقضها والخروج عليها. لا أعرف كيف تُترجم الفكرة المضادة للانفصال بالمعنى السياسي، بل أعرف، فقط، أنها قد تصلح للخروج من مأزق يبدو دائماً وقائماً وقريباً من شبهة الأبد.
khaderhas1@hotmail
كاتب فلسطيني