من مقعدها في القسم المُخصص للصحافة، في قاعة المحكمة في القدس، حاولت حنّا أرندت العثور في ملامح أيخمان، القابع في القفص، على ما يبرر أو يُفسّر المحرقة، وفشلت. فليس في ملامحه ما ينم عن غير العادي، ولا في شكله أو سلوكه، ما يجعل منه وسيلة إيضاح توازي ما أضفته حكومة بن غوريون على محاكمة اعتبرتها محاكمة القرن، وأرادت لها أن تكون منصة قانونية وأخلاقية وسياسية لتسليط الضوء عل حدث غير مسبوق في تاريخ الإنسان.
لم تجد أرندت في رجل باهت، متوسط الكفاءة، والثقافة، والذكاء، أقرب إلى موظف حكومي كئيب منه إلى الوحش الذي صوّرته المحكمة، وتكلّم عنه الشهود، أكثر من تفاهة الشر. الشر الذي لا تنوب مكوّناته فرادى ومجتمعة عنه، ولا تكفي للقبض على ماهية تستعصي على الفهم. لا شيء في الكون سيساعدنا، في يوم ما، على القبض على الجامع والمانع في معنى الشر. والأهم: أن ما في الشر من رعب وأهوال ينبغي ألا يحجب عن الأعين تفاهته.
بهذا تتفرّد أرندت، أحد أهم صنّاع النظرية السياسية في القرن العشرين، وفيه ما ندين به لها، أي إمكانية العثور على التفاهة في أكثر تجليات الشر بشاعة واستعصاء على الفهم. وبهذا، وفيه، يستوي ما يتجلى منه في “الصغير” و”الكبير” من الأفعال والأهوال، سواء في منطقة نائية، أو في قلب العالم.
وبهذا وفيه، أيضاً، ما يصلح مدخلاً للكلام عن حادثة صغيرة لم، ولن، يسمع بها تسعة وتسعون، وتسعة أعشار بالمائة من قاطني المعمورة، في منطقة لا يعرف العدد نفسه من الناس مكانها على الخارطة. ومَنْ سمع، وعرف، فلن تبقى في ذهنه أكثر من برهة عابرة سرعان ما تغمرها موجة فيضانية من الصور والأخيلة والأحداث القادمة من أربعة أركان الأرض، والتي تتجدد بالثواني والدقائق لا بالساعات والأيام.
أعني تمثيلية الذبح في روضة للأطفال في رفح. فهي وسيلة إيضاح لتفاهة الشر، التي لا يصعب القبض على دلالتها خارج سياقها، ولكن السياق نفسه يؤثث المشهد، ولا يبخل علينا بدلالات كوميدية وإن تكن مُفزعة.
فالمربية، التي مثّلت مشهد الذبح بأطفال ولأطفال، لم تكن تريد بهم شرّاً، بالتأكيد، بل “ابتكرت” بمزيج من جدية المهموم بالنجاح المهني، وميل الإنسان الفطري للتمثيل، طريقة جديدة لتقريب معنى “خروف العيد” من أذهان أطفال ما بين الثالثة والخامسة من العمر. وهي ليست متدينة، وحسب، بل وتؤمن، أيضاً، أن في تدينها ما يحض على إسداء خدمة للأطفال وذويهم، وهل ثمة من خدمة أعلى من الهداية؟
هناك، طبعاً، سنوات ضوئية تفصل ما بين عالمها وعالم جيرار جينيت، وما فيه من مرافعات عن أولى تجليات فكرة القربان منذ الطوطمية في عصور ما قبل التاريخ، ومركزية فعل المحاكاة، وعلاقته العضوية بالعنف في المخيال الديني، وإن كان في كل ما فعلته وسيلة إيضاح إضافية تلتحق بملايين غيرها على مدار اليوم، بما فيها جزء الرؤوس في فيديوهات الدواعش.
ليس من المطلوب، ولا المُنتظر، ولا المنطقي، افتراض أن تكون أشياء كالقربان، والمحاكاة، بأدوات جينيت، جزءاً من عالم المعنية بالأمر، ولكن من المطلوب والمُنتظر والمنطقي ألا تغيب المرافعات ذات الصلة، التي تحفل بها العلوم الإنسانية، عن كل محاولة لنقل الكلام في الشأن العام، وعنه، في بلادنا، من رداءة وهبوط المستوى المعرفي إلى ما يغني الحقل الثقافي العام، ويفتح فيه نوافذ جديدة. فالبعض قد يكفيه كيل الشتائم للمربية، ولكن إذا كان في هذا ما يشبع الغرائز، فإن فيه ما يُفقر الكلام في الشأن العام.
فما المانع، مثلاً، من التفكير في حقيقة أن فعل العنف الشعائري الذي مارسته المربية مزدوج، فقد اختارت وهي الأنثى طفلاً، لا طفلة، لوظيفة القربان. ولا يحتاج الإنسان إلى مهارات كثيرة في علم النفس التحليلي لتأويل فعل كهذا، فقد احتلت السكين، مثلاً، مكانة مركزية في المشهد التمثيلي، ولم يغب عن ذهنها أن تلونها بالأحمر، للإيحاء بالدم. وفي معرض الرد على المنتقدين، لم تغفل عن تذكيرهم بأن السكين “خشبية”. وعلاوة على هذا وذاك، لم يتلصص أحد على مشهد العنف الشعائري، بل هي التي تطوّعت برفع الصور على الصفحة الإلكترونية للروضة، ونالت عليها بعض “اللايكات” من نساء، أيضاً.
وما المانع، أيضاً، من محاولة رسم صورة أولية لعالم الروضة الاجتماعي، والثقافي، والروحي، ودورها في الاقتصاد السياسي لتطبيع، وإنتاج، وتدوير، واستهلاك خطاب العنف، بحمولته الرمزية، ووظيفته الاجتماعية؟ وهل ثمة من إمكانية للفصل بين أمر كهذا وحكم حماس؟
على الصفحة الإلكترونية للروضة ثلاثة بنود بعناوين من طراز ووزن: “الرؤيا، والأهداف، والرسالة” وتحت كل عنوان قائمة من الأهداف التي لا تجرؤ حتى وزارة التعليم في أميركا على طرحها في سلة واحدة، وتسويقها كبرنامج يمكن أن ينجو من السخرية. ولكن، ما أدراك إذا أخذت روضة (في مكان هو الأعلى كثافة سكانية في العالم، يعاني ندرة مياه الشرب، ويمكن ألا يصبح قابلاً للحياة بعد سنوات، ويعيش على المساعدات) على عاتقها تحقيق ما يعجز عنه، أو يخجل منه، الأميركيون والصينيون والهنود والروس؟
المهم، أن هذا كله مكتوب بلغة ركيكة، ينبعث منه ضجيج بلاغي ولفظي، بحجم جوقة من الطبول، ويحيل إلى عالمين: واقعي وافتراضي، يعاني كلاهما موت وخواء المعنى. والأهم: هل يحتاج أطفال ما بين الثالثة والخامسة من العمر، إلى ما هو أكثر من اللعب المُجرّد من كل هدف، والمتعالي على كل رسالة؟ إذا كان الجواب بالنفي، وينبغي أن يكون، فهل ثمة، وبكل هذا القدر من الأخطاء اللغوية، والصور، والبراءة (من نبل الرسالة إلى السكين الخشبية)، تفاهة للشر أكثر بلاغة من هذه؟
khaderhas1@hotmail.com