تصوروا لو أن الطفل الفلسطيني خالد الجعبري- الذي اعترض جنود الإحتلال أثناء اعتقالهم لوالده في قرية “البقعة” الخليلية منذ أيام- كان يصرخ في قاعة إحدى المحاكم الجعفرية في لبنان “بدي ماما” بدلا من “بدي بابا”. هل سترق قلوب قضاة المحكمة أكثر من قلوب جنود الإحتلال فيسمحون له بالذهاب مع والدته عوضا من إلحاقه غصباً بحضانة والده؟ بالطبع لا!
عملية المقارنة صعبة للغاية في هذين الموقفين، كما أنها تجاوز للخطوط الحمر. وقد يهدر دمي أو يتهمني أحدهم بالكفر، إذ أنني أشبه رجال الدين بجنود الإحتلال. مع ذلك فالنتيجة واحدة، وهي الظلم. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة، وإذا كانت الإحصاءات شبه الرسمية للسلطة الفلسطينية تقول أن ثلاثة آلاف طفل فلسطيني يعيشون بعيدا عن أحد الوالدين بسبب الإعتقال، فلا يوجد إحصاءات رسمية ولا شبه رسمية للمحاكم الجعفرية في لبنان تكشف كم (خالدا) يعيش في سجن الأبوة القسري بعيدا عن والدته. ورغم لحظات العذاب المريرة التي مرت على خالد وهو يشهد عملية اعتقال والده، إلا أنه أوفر حظا من كثير من الأطفال في بلادنا، لسببين. أولا: لأنه استطاع أن يحصد تعاطف الملايين من المشاهدين الذين تابعوا تفاصيل قصته المأساوية على شاشات التلفزة. ثانيا: لأنه رغم مأساته، سيفطن ذات يوم أن إسمه قد دخل التاريخ من أوسع أبوابه، ما قد يشكل ربما تعويضا معنويا بالنسبة إليه. فهو أصغر مقاوم في العالم تصدى بلحمه الطري لعشرات الجنود المدججين بالسلاح. هذا عدا عن المعاني الإنسانية والأبعاد الملحمية التي تترجمها قضية خالد وتجعل منه ومن أترابه الفلسطينيين أطفالا استثنائيين.
مأساة خالد قلبت علي المواجع وجعلتني أحسده، وذكرتني بكثير من الأطفال في بلادنا الذين يؤخذون عنوة من أحضان أمهاتهم، لا لذنب إقترفوه –هم أو أمهاتهم- ولا لجريمة يعاقبون عليها، إنما تنفيذا لمشيئة الرجل – الأب أوالقاضي. وقد ترأف قوانين المحاكم الجعفرية أحيانا بهؤلاء الصغار وبأمهاتهم فتسمح لهم بما هو متعارف عليه ب،(حق الرؤية) ليتحول هذا الحق بطريقة ما إلى جلسات جلد أسبوعية. أقول حسدت خالدا لأن أطفالنا لا أحد يتابع تفاصيل حكاياتهم وتنتهي فصول مآسيهم، أو ربما تبدأ، بإمضاء بسيط في ذيل ورقة وبالعبارة الشهيرة “رفعت الجلسة”. أطفالنا لا أحد يتكرم ويسألهم عن رغبتهم أين يفضلون العيش؟ ومع من يحبون البقاء؟ فهم سلع مصادرة، تماما مثل أمهاتهم، وكلاهما بضاعة يراهن عليها في المزادات الأخلاقية والمحافل الدينية، تبدأ صلاحيتها وتنتهي تبعا لغرائز السلطة الذكورية ورغبتها في السيطرة والتحكم، سواء الأبوية منها أو الشرعية.
ما يحصل في المحاكم الجعفرية في لبنان، أو برضا منها، أو تحت نظرها، أصبح أمرا معيبا في مجتمعنا الشيعي الذي يدعي التمدن والتحضر ويفاخر بتكريمه للمرأة. أفلا تشبه حال الأم المحرومة من رؤية أطفالها، حال المرأة العربية التي كانت تدفن حية في الجاهلية؟ ألا تشبه شرعية إنتزاع الطفل من حضن أمه، إلا في حال تخلى الأب عن هذا الحق، شرعية القتل عمدا؟ وبالتالي، ألا يمكننا تفسير الآية الكريمة إذا ما أعتقنا النص من زمانه ومكانه- إذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت- على أساس ما سلف؟ لكنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه، ويتغنون بالحديث المتناقل لتبرير افعالهم، بأن النساء نواقص العقول والحظوظ والإيمان، وينظرون إليهن نظرة إستعلاء ويتعاملون معهن على أنهن كائنات دونية، قاصرات، وشهادة رجل أمي من بينهم، تساوي شهادتين من أكثرهن علما ومعرفة.
وبغض النظر عن النصوص الشرعية التي قيدت المرأة بسلاسل الظلم وسلبتها أبسط حقوقها الإنسانية وحصرت دورها في إمتاع الرجل ومؤانسته، تبرز الإشكالية الأكبر والتي لا يلتفت إليها رجال الدين ولا يبدو أنها تهمهم في شيء، فالأطفال الملتحقون قسرا بحضانة آبائهم هم مشاريع مرضى نفسيين ومجرمين مستقبليين.
تقول الدراسات العلمية أن المشاكل الأسرية والإجتماعية التي يعيشها الأطفال دون الخامسة من العمر تؤثر إلى حد بعيد في تكوين نواة ذاكرتهم الأولى وما تبنى عليه شخصياتهم لاحقا، وتنعكس سلبا على نفسياتهم وتمنعهم من تكوين ذواتهم المستقرة وتجعل منهم إما أشخاصا مضطربين نفسيا مدى الحياة، أو فاشلين اجتماعيا وأخلاقيا.
فهنيئا لمحاكمنا وقضاتنا بما تقترفه أيديهم يوميا من جرائم وانتهاكات بحق الأطفال، والتي لا تقل بشاعة عما يقترفه جنود الإحتلال. وهنيئا لهم استباحة المقدس باسم المقدس، وحذار من التجديد أو التطوير في النصوص الشرعية المتسترة بقناع الألوهية، لأن في ذلك تهديدا لسلطتهم القائمة على أساس استغباء العامة ومصادرة عقولهم وعواطفهم بمنطق الحلال والحرام والثواب والعقاب والجنة والنار، وحضورهم المستمد من كثافة الأوهام وثقافة التضليل وتضييق الآفاق.
* كاتبة لبنانية