عن حرب يونية 1967 (3)

0

فى فقه القانون الرفيع قاعدة مؤداها أنه ليس على المحكمة أن تتعقب كل دفاع للخصوم فترد عليه بندا بندا ، أو نقطة نقطة ، ما دامت قد استطاعت استخلاص الواقعة (أو الواقعات) استخلاصا سليما من أوراق الدعوى ومستنداتها ، وأقامت حكمها على أسباب صحيحة تحمل الحكم الذى انتهت إليه .

وما دام هيكل وهو يتحدث عن حرب 5 يونية 1967 كثير الحديث فى الفروع التى تنأى عن لب الموضوع وصميم الأحداث ، إما لأنه مشتت الفكر وإما لأنه يقصد تبديد انتباه المشاهد له والمستمع ، بحيث لا يستطيع أن يلم بالموضوع أو يخلص إلى النتائج الصحيحة بسهولة ويسر – لما كان ذلك – فإنه يكون من الأوفق عدم الرد عليه أو تعقب حديثه فى كل نقطة أو كل شطحة ، وبيان وجهة النظر فى حرب 5 يونيو 1967 من واقع المستندات والحقائق .

وفى ذلك ، فلا شك أنه لابد من التسليم بما أسرف فى الحديث عنه ، من وقوع عداء مكتوم بين الغرب والشرق (أو العرب تخصيصاً) أدى بالغرب ، وبالولايات المتحدة ، إلى أن ترى فى إسرائيل حليفا قويا صلباً ، فى محيط من العرب رخو الواقع معاد لها . وهو ما يفرض على كل نظام حكم عربى أن يكون دقيقاً رقيقاً فى قراراته ، فيُدخل حال الغرب مع العرب فى إعتباره وعند التصرف ، ويراعى ترطيب المواقف وليس تأجيج الخصومات .

يضاف إلى ذلك أن المخابرات الأمريكية من خلال عميلها كيميت روزفلت هى التى ساعدت الإنقلاب على النجاح فى مصر بتاريخ 23 يوليو 1952 ، ثم دفعته إلى الدكتاتورية وشجعتها وحاربت الديموقراطية وخذلتها ، خلال أحداث مارس 1954 ، ثم دفعت عبد الناصر إلى شراء الأسلحة من الإتحاد السوفيتى عام 1955 (حتى تتحرر الولايات المتحدة من قيود منع تسليح بلاد الشرق الأوسط ، فتقوم بتسليح إسرائيل) . ثم أوعزت إليه بتأميم قناة السويس ، لينتهى الأمر إلى القضاء على النفوذ البريطانى والفرنسى من الشرق الأوسط ، ولتحصل إسرائيل على حق مرور سفنها فى مضايق تيران وخليج العقبة ، ونزع سلاح شبه جزيرة سيناء ، وإيجاد قوات طوارىء دولية على الأراضى المصرية من شرم الشيخ حتى غزة ، وهى مكاسب للولايات المتحدة وإسرائيل قدمها نظام الحكم الإنقلابى ، لأنه كان يعمل فى الظلام بلا أىّ شفافية ، ولم تكن له أى شعبية حقيقية يركن إليها فى أخذ القرارات وإصدارها ؛ ولا كان – فى حقيقة الأمر – يهتم بالشعب ومواطنيه .

إنما يلاحظ فى ذلك أن نظام الحكم المصرى قد اندفع نحو السوفييت بما جعله عميلا له ، يحقق أغراضه فى الوجود بالشرق الأوسط ، من سوريا وحتى عدن ، وأن خروشوف الرئيس الحقيقى والفعلى للإتحاد السوفييتى ، اصطدم بعبد الناصر عام 1961 فقال عنه إنه “شاب مندفع غير ناضج وقليل الخبرة” ، كما أنه

(خروشوف) – كما قال الدكتور مراد غالب فى مذكراته – كان فى عام 1964 قد نصح عبد الناصر بأن ينأى عن الحرب مع إسرائيل ويعمل على بناء بلده مصر ، وتشييد البنية الأساسية لها (infra-structure) .

ويعنى هذا أن عبد الناصر – رئيس النظام المصرى الإنقلابى – قد خاصم كلاً من الشرق والغرب ، وأن زعيم الإتحاد السوفييتى (الروسيا الآن) كان من رأيه الذى قاله لعبد الناصر عام 1964 ألا يعمل على الحرب ، وأن يلتفت إلى بناء بلده ، ذلك لأنه كان يعرف أنه مع كثرة السلاح الذى اشتراه عبد الناصر من السوفييت عام 1955 ، فقد كانت فترة التدريب عليه ثلاثة شهور فقط ، وهى فترة غير كافية ، وتجعل من الأسلحة كمّا ضخما من الحديد يُعيق أكثر مما يُعين ؛ هذا فضلا عن أن خروشوف كان يعلم أن البلاد لا تحارب بجيوش كبيرة غير مدربة ، وإنما بجيوش عالية الكفاية شديدة الدُّربة . وأن الحروب فى الوقت الحالى ، هى بكل الشعب الذى لابد أن يساند الجيش بقوة ، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الشعب مستنيراً حرا قويا ، مؤمنا بزعامته وقضيته ، وليس باحثا عن احتياجاته الأساسية أو ضائعا بين الحقائق والأوهام .

فى عام 1964 كانت إسرائيل قد بدأت فى تحويل مجرى نهر الأردن ، فاندلعت بذلك حرب المياه فى الشرق الأوسط . وجاء إلى عبد الناصر بعض رجال حزب البعث من سوريا والعراق حيث اجتمعوا به وقالوا له إن هذه أفضل مناسبة لضرب إسرائيل ومحوها من خريطة الشرق الأوسط ، فرد عليهم عبد الناصر قائلا إنه لا يستطيع محاربة إسرائيل ، وشرح لهم أسباب ذلك . فقالوا له ولم لا تعلن هذا إلى العالم العربى ؟ فرد قائلا إنه لا يريد أن يفعل ذلك حتى لا يصدم الشعب العربى . وبهذا كان عبد الناصر يقول ويصيح بدعوى الحرب ، كذبا وزورا وبهتانا ، ليهيّج الشعب العربى بدعواه إلى حرب إسرائيل ، وهو يعرف أنه لن يستطيع أن يفعل ذلك ، ولا يريد أن يعلن الحقيقة أو يجهر بالصواب .

بعد تقديم هذا الموجز بما قلّ ودلّ عن وضع مصر ، ونظام الحكم فيها ، تكون الدراسة قد تهيأت لبيان واقعات (أو وقائع) حرب 5 يونيو 1967 ، بأسلوب منتظم ومتتال ، بلا رغى أو رغو ، وإنما بتسلسل صحيح من واقع الأحداث حدثا حدثاً .

(1) كان عبد الناصر يعلم عن العدوان الثلاثى ، الذى بدأ يوم 29 أكتوبر 1956 ، من تقرير أرسله إليه الملحق العسكرى فى باريس ، لكنه لم يعبأ به ، لأنه لم يكن يصدق إلا نفسه ولم يكن يؤمن إلا بما فى عقله وتصوراته . وفى خطبة له قال إنه كان يجلس فى بيته مع السفير الهندى فسمع صوت طائرة ، فصعد من ثم إلى سطح البيت ، ولما رأى الطائرة أدرك أنها بريطانية وأن بريطانيا قد دخلت الحرب . وإذا كان الملحق العسكرى المصرى بباريس قد عرف عن هذا العدوان الذى أعده المتآمرون فى ضاحية سيفر بشمال غرب باريس ، فإنه لا يمكن أن يكون قد غاب عن المخابرات الأمريكية . لكن سياسة الولايات المتحدة كانت تريد لهذا العدوان أن يقع حتى يكون فرصتها فى إزالة الوجود البريطانى والفرنسى من الشرق الأوسط وإحلال النفوذ الأمريكى محله ، كما كانت تريد أن تحقق إسرائيل مكاسبا لها بتقرير حق سفنها فى المرور عبر خليج العقبة ومضايق تيران ، ونزع سلاح صحراء سيناء ، ووضع قوات طوارىء دولية على الحدود المصرية ، لصد هجمات الفدائيين الفلسطينيين من مصر .

ضغط الرئيس دوايت أيزنهاور على بريطانيا لسحب قواتها من مدينة بورسعيد بعد أن تحقق للعدوان نصر عسكرى بالاستيلاء عليها ، وهدد بعدم إمداد بريطانيا بالنفط (البترول) اللازم لها ، وبضخ كل ما فى الخزانة الأمريكية من جنيهات إسترلينية فى السوق ، وهو ما كان لابد وأن يؤثر على سعر العملة البريطانية نزولا وبالتخفيض الشديد . ولأن رجال الحكم فى بلد كبريطانيا رجال دولة (statesmen) وليسوا رجال عصابات (gangsters) فقد ضحى إيدن بمنصبه واستقال حتى لا يضع بلده فى موضع صعب . وكان مؤدى ذلك أن تنسحب القوات البريطانية من بورسعيد ثم تتبعها القوات الفرنسية ، غير أن القوات الإسرائيلية لم تنسحب إلا فى مارس 1957 بعد أن أقر النظام المصرى بأن مضايق تيران وخليج العقبة ممرات مائية دولية ، وقررت مناقشات مندوبى الدول – وخاصة الغربية منها – كما قرر الرئيس أيزنهاور علنا أن إعادة إغلاق مضايق تيران سوف يعد عملا عدوانيا ، يضطر إسرائيل إلى حماية حقها فى المرور وفقا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة . وعندما سحبت إسرائيل قواتها بعد ذلك فى مارس 1957 أعلنت أن إغلاق هذه المضايق سوف يكون (a casus belli) أى عملاً من أعمال الحرب .

ولم يُعلن هذا الإتفاق السرى إلى الشعب المصرى والشعب العربى ، وإلا لكان النظام الإنقلابى المصرى قد سقط على الفور ، لكنه أخفى ذلك ، وصور الحال على أنه كان نصرا سياسيا (عسكرياً) إنتهى إلى هزيمة العدوان ودحره عن الأراضى المصرية . ولم يعلن ما قدمه مقابل الإنسحاب ، ولا أَعلنت الدول الغربية والعربية عن ذلك ، حتى إذا ما تهيأت إسرائيل للضربة التالية – بينما كان نظام الحكم المصرى يقامر ويغامر فى الكونغو واليمن ، ويتكلم دائما عن كفاح أنجولا وموزمبيق – فَتَحت الدعاية أبواقها فى بلدين عربيين (السعودية والأردن) تعاير عبد الناصر بالإتفاق السرى الذى أعلنته ، وبأنه فى الواقع كان مهزوما ساعد إسرائيل على أن تصبح قوة كبرى . وجرح ذلك كبرياء عبد الناصر الذى كان عميل المخابرات الأمريكية – مايز كوبلاند مؤلف كتاب لعبة الأمم (game of nations) – قد وصفه فقال إنه “محب للسلطة مولع بالرياسة ، وأنه إنفعالى سريع الرد على ما يعتقد أنه إساءة ، لا يفرق فى ذلك بين أمور الدولة وشئونه الخاصة” (والإهانة عند الأمريكيين ، والغربيين عموماً ، لا تكون إذا كانت قد انبنت على دواعى شخصية personal) ، وكان هذا الشعور بالإهانة هو الدافع الحقيقى فى كل ما فعل وصدر عنه .

(2) فى يوم 7 أبريل 1967 حدثت معركة عسكرية فوق هضبة الجولان ، التى كان السوريون يغيرون منها على القرى والمدن الإسرائيلية التى تقع أسفلها ، وأسفرت المعركة عن فقدان سوريا ست طائرات ميج 21 ، أمام طائرات إسرائيل الميراج التى حلّقت بعد ذلك فوق دمشق .

(ج) فى 11 مايو 1967 حذر ليفى أشكول رئيس وزراء إسرائيل من أن إسرائيل لن تتردد فى إستعمال طيرانها على نحو ما حدث يوم 7 أبريل للرد على ما يحدث من إرهاب على حدودها . وفى نفس اليوم قدم ممثل إسرائيل فى مجلس الأمن كتابا إلى رئيس المجلس يتضمن أن إسرائيل سوف تتصرف فى حدود الدفاع عن النفس إذا دعت الظروف إلى ذلك .

(د) فى 13 مايو 1967 قدم الرئيس السوفييتى نيقولاى بودجورنى إلى نائب الرئيس المصرى أنور السادات تقريراً من المخابرات السوفييتية يدعى خطأ أن القوات الإسرائيلية تحتشد على الحدود السورية . وأعلن حافظ الأسد وزير الدفاع السورى أن قواته هى على إستعداد ليس فقط للرد على أى عدوان ، بل للبدء فى أعمال التفجير (explode) للوجود الصهيونى على الأراضى العربية .

(هـ) أُرسل اللواء محمد فوزى رئيس أركان القوات المسلحة المصرى إلى سوريا ، فنفى السوريون وجود أى حشود إسرائيلية على حدود سوريا ، وشاهد هو من طائرة حلقت فوق الحدود أنه لا توجد أى حشود ، وعاد إلى مصر لينقل ذلك إلى عامر ومن ثم إلى عبد الناصر .

(و) فى يوم 14 مايو 1967 أصدر الرئيس المصرى جمال عبد الناصر أمراً – بإعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة – بحشد قوات عسكرية فى سيناء ، فأعيد الضباط عصرا إلى قواعدهم بينما كانوا يغادرون إلى منازلهم.

(ز) فى يوم 15 مايو 1967 تلقى الجنرال إندار ريكى طلباً شفهياً بسحب قوات الطوارىء من حدود غزة . وفى يوم 16 مايو الساعة 10 مساء تلقى كتابا من اللواء محمد فوزى رئيس أركان حرب الجيش المصرى مفاده أنه أعطى أوامره للقوات المسلحة المصرية بأن تستعد لأعمال حربية ضد إسرائيل فى حال إعتدائها على أى بلد عربى . وبناء على ذلك احتشدت القوات المصرية فى سيناء ، ولصالح وسلامة قوات الطوارىء التابعة للأمم المتحدة فإنه يطلب أن يصدر الجنرال ريكى أوامره بسحب هذه القوات على الفور . فقال الجنرال ريكى إنه سوف يخطر الأمين العام للأمم المتحدة يوثانت فى إنتظار تعليمات منه .

وفى 18 مايو أخطر وزير الخارجية المصرى محمود رياض الدول التى تشارك بوحدات منها فى قوات الطوارىء بأن مهمة هذه القوات فى مصر وقطاع غزة قد انتهت . وقامت الهند ويوغسلافيا – ورؤسائهما أصدقاء لعبد الناصر من محور عدم الإنحياز الدولى – بسحب قواتها دون إنتظار أوامر الأمين العام للأمم المتحدة (مجاملة لعبد الناصر لا شك) . فاقترح يوثانت أن تنتقل قوات الطوارىء إلى أرض إسرائيل فرفضت إسرائيل ذلك .

(ح) أبلغ الدكتور محمد القونى مندوب مصر إلى الأمم المتحدة أمينها العام يوثانت بأن الحكومة المصرية قررت إنهاء عمل قوات الطوارىء ، فصدر أمر إلى قائد هذه القوات الجنرال ريكى فى 19 مايو 1967 بسحب قوات الطوارىء ، ومن ثم شرعت القوات المسلحة المصرية تحتشد فى سيناء ، ومنها الفرقة المدرعة الرابعة ، وقوات الإحتياط وهم يلبسون الجلابيب وليس الزى العسكرى .

(ط) لأن عبد الناصر لم يكن يقصد حرباً يعرف أن جيشه غير مستعد لها ، خاصة مع وجود قوات كثيرة منه فى اليمن ، فإنه كان يقامر بإتخاذ إجراءات عسكرية وحشود للجيش بسحب قوات طوارىء ليصل إلى تفاهم سياسى يعيد النظر فى قراره عام 1957 بقبول مرور السفن الإسرائيلية فى مضايق تيران وخليج العقبة ، ونزع سلاح شبه جزيرة سيناء ، ووضع قوات الطوارىء على أرضه ، وفى سبيل تحقيق أهداف المقامرة والمغامرة دعا يوثانت الأمين العام للأمم المتحدة للحضور إلى مصر وقَبِل الرجل الدعوة ، وحضر فى مساء يوم 22 مايو ليلتقى بعبد الناصر يوم 23 مايو .

(ى) يوم 22 مايو وبينما كان يوثانت فى طائرته بالجو أصدر عبد الناصر قراراً بإغلاق مضايق تيران وخليج العقبة فى وجه السفن التى تحمل علما إسرائيليا أو تحمل موادّ استراتيجية لإسرائيل . ولمدة عامين من قبل صدور هذا القرار لم تكن قد مرت فى هذه المضايق إلا سفينتان تحملان العلم الإسرائيلى ، لكن عددا كبيراً – بطبيعة الحال – مما لا يرفع علما إسرائيليا مرّ وهو يستهدف ميناء إيلات الإسرائيلى (الذى أقيم فى جزء منه على قرية أم الرشراش المصرية) ويحمل بضائع لها ، قد تكون بضائع إستراتيجية ، وطلبت إسرائيل من الولايات المتحدة وبريطانيا فتح هذه المضايق أمام سفنها لأنها (أى الولايات المتحدة وبريطانيا) كانتا قررت ذلك عام 1957 .

(ك) فى يوم 22 مايو بعد الظهر وفى قاعدة أبى صوير اجتمع عبد الناصر وعامر بالعسكريين فى القاعدة وقال لهم عبد الناصر – كما ذكر المؤرخ العسكرى اللواء جمال حماد فى حديث متلفز مساء يوم 26 يناير 2009 – إن إسرائيل لن تحارب .

1.. لأنها أعلنت أنها سوف تحارب إذا دخلت قوات الفدائيين الفلسطينيين من مصر ، لكنها لم تحارب .

2.. وأعلنت أنها سوف تحارب إذا دخلت قوات مصرية مسلحة أراضى شبه جزيرة سيناء ، لكنها لم تحارب .

3.. وأعلنت أنها سوف تحارب إذا ما سحبت مصر قوات الطوارىء الدولية ، لكنها لم تحارب .

4.. وأعلنت أنها سوف تحارب إذا ما أغلقت مصر مضايق تيران وخليج العقبة ، لكنها لن تحارب .
وهاج بعض الضباط وقالوا : هل نحن نلعب مقامرة ؟ ولعلهم فى ذلك كانوا يقصدون الإلماح إلى طبيعة عبد الناصر أو يُشيرون من طرف خفى إلى ما لابد أن يكون قد وصل إلى أسماعهم عن أن عبد الناصر كان يمارس ألعاب الورق أى المقامرة بالفعل ، لكن عامر هدّأ منهم وقال لهم “عيب يا أولاد” . ولما تساءل بعض الضباط عن العمل إذا ما تدخل الأسطول السادس الأمريكى فى الحرب فرد عبد الناصر قائلاً : الإتحاد السوفييتى معنا .

فعبد الناصر إذن ، خلافا لما ادعاه هيكل ، هو الذى أعلن إلى الضباط أنه لن تحدث حرب ، وحدد فى ذلك أسبابا ، لم يقبلها الضباط وعلت أصوات بعضهم بأن هذه مقامرة .

وفى مذكراته كتب أبا إيبان – فيما بعد – أن عبد الناصر كان يريد الوصول إلى مكاسب سياسية دون حرب . وهو أمر قاله آخرون منهم مراسل النيويورك تايمز جيمس رستون ، ونشر فى هذه الجريدة يوم 4 يونيو 1967.

(ل) يوم 26 مايو 1967 التقى عبد الناصر وفدا من أعضاء نقابة التجاريين العرب فأعلن أمامهم ما مؤداه أنه إذا كانت إسرائيل تعتزم القيام بعدوان على سوريا أو مصر فإن المعركة ضد إسرائيل سوف تكون عامة وليست محصورة عند الحدود المصرية أو السورية وأن المعركة سوف تكون معركة عامة هدفها تدمير إسرائيل .

(م) أعدّ المشير عامر خطة للإستيلاء على ميناء إيلات الذى قام فى جزء منه على قرية أم الرشراش المصرية ، تنفذ يوم 27 مايو 1967 . وفى يوم 26 مايو وبمجرد وصول وزير خارجية إسرائيل آبا ايبان إلى مطار واشنطون تسلم برقية من حكومته بأن إسرائيل علمت بوجود خطة مصرية سورية لإزالة إسرائيل خلال الـ 48 ساعة القادمة . فقابل وزير خارجية الولايات المتحدة دين راسك ووزير الدفاع روبرت مكنمارا ثم قابل أخيرا الرئيس الأمريكى ليندون جونسون . فقال الأمريكيون إن مخابراتهم لا تؤيد هذه الإدعاء ، وأن القوات المصرية فى سيناء ذات طابع دفاعى .

وقد ألغى جمال عبد الناصر خطة عامر .

(ن) عندما جلس الرئيس جونسون مع معاونيه قال لهم : وماذا لو كانت مخابراتهم (أى المخابرات الإسرائيلية أدق من مخابراتنا : المخابرات الأمريكية C.I.A) فلجأ إلى الخط الأحمر واتصل بنظيره الروسى الكسى كوسيجين ، وأفهمه أنه علم أن وكلاءه أو عملاءه (proxies) فى الشرق الأوسط ، المصريون خططوا لمهاجمة إسرائيل خلال 48 ساعة القادمة ، فإذا لم يكن الإتحاد السوفييتى يرغب فى مواجهة عالمية (Global) فعليه أن يمنعوهم من هذا العدوان على إسرائيل .

(ق) الساعة 2.30 صباح (فجر) يوم 27 مايو أيقظ السفير الروسى ديمترى يوجيديف عبد الناصر من نومه وقال له : لا نريد أن تكون مصر ملومة لبدء الحرب فى الشرق الأوسط . فإذا قمتم بهذا الهجوم لا يمكننا مساعدتكم .

(ر) فى يوم 28 مايو 1967 عقد عبد الناصر مؤتمراً صحفياً ، وكان إلى يمينه وزير الخارجية محمود رياض وإلى يساره وزير الإعلام محمد فايق . وفى هذا المؤتمر قال عبد الناصر إنه يرحب بالحرب ، وكان مفهوم المؤتمر أنه يعلن الحرب على إسرائيل أو أنه سيرد على أى عدوان لها بما يدمرها .

(ش) فى يوم 30 مايو 1967 – وتحت الضغوط الشعبية العارمة – ركب الملك حسين طائرته واتجه إلى مصر حيث وقّع مع عبد الناصر إتفاقية دفاع مشترك . بعدها قال عبد الناصر لمن حوله : لقد أَخَذت الأردن دون أن أطلق رصاصة واحدة .

(ت) فى 1 يونيو 1967 عُين موشى ديان وزيرا للدفاع ، فعرض عليه رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلى إسحاق رابين خطة عسكرية ، وعرض عليه اللواء يوشاهو جافنسين قائد القوات الجنوبية خطة أخرى ، فوافق كل من موشى ديان وإسحاق رابين على هذه الخطة (أى إن رابين لم يتمسك بخطته ويعتبرها مسألة كرامة) .
(س) فى يوم 2 يونيو 1967 إجتمع عبد الناصر فى قاعدة عسكرية قرب بلبيس بالطيارين وقائدهم الفريق محمد صدقى محمود . وإذ كان قد بدأ يستشعر إمكان قيام إسرائيل ببدء الحرب – ربما من تعيين موشى ديان وزير دفاع إسرائيل فى اليوم السابق أو ربما من الطلب الروسى منه ولهجته – قال لهم إن إسرائيل ربما تقوم بضربة ، لكن مصر سوف تتحمل وتمتص الضربة الأولى ثم ترد عليها بضربة ثانية . ولما قال الفريق صدقى إن مصر لا تستطيع أبداً أن تتحمل ضربة أولى من إسرائيل ثم ترد عليها بعد ذلك ، قال عبد الناصر (ربما بإنفعال أو بصيغة الأمر العسكرى) : أنا أعطيت كلمة بذلك ، وإنتهى الأمر (وهو فى هذا يقصد الأمر الذى أصدره إليه الإتحاد السوفييتى ونقله إليه سفيره بصيغة دبلوماسية ، كما سلف) .

(ع) فى 23 مايو 1967 كانت الحكومة الإسرائيلية قد إتخذت قرارا باللجوء إلى إجراءات عسكرية لفتح مضايق تيران أمام سفنها للمرور فيها ، لكن لرغبة مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية يوجين روستو فى إعطاء فرصة للجهود الدبلوماسية قبلت إسرائيل تأخير هذا العمل العسكرى مدة من عشرة أيام إلى أسبوعين . وعندما حضر يوثانت إلى مصر عَرض عرْض تأجيل أى إجراء عسكرى لفترة عشرة أيام ، فقبلت مصر لكن إسرائيل رفضت لما تبين لها من أن عبد الناصر يعمل على حشد القوات العربية ، وإلى تعطيل إسرائيل عن إتخاذ إجراء عسكرى يستفيد هو منه ، ولا تتحمله إسرائيل التى كانت غير قادرة على إبقاء جنودها دون عمل ، ولهم أعمال مدنية تركوها .

(ف) ربما يكون عبد الناصر قد علم من مصادر غير موثوقة عنده بأن إسرائيل سوف تحارب يوم 5 يونيو 1967 لكنه أخذ المعلومة التى وصلت إليه بإستخفاف – كما حدث عام 1956 . وقد ذكرها للقادة العسكريين وأولهم المشير عامر ، لكنه لم يطلب منهم إتخاذ إجراءات محددة ، ولم يراقب هو ما اتخذوه ، بل إمعانا فى عدم اعتداده بالمعلومة التى وصلته ، فقد توجه إلى بيته ليمارس أعماله العادية والعائلية ، وينام دون يقظة أو تنبه لما سوف يحدث .

(ص) فى يوم 4 يونيو 1967 حضر إلى مصر رئيس الوزراء العراقى ووقّع مع مصر معاهدة للدفاع المشترك . وفى اليوم التالى كان مع نائب رئيس الجمهورية المصرية حسين الشافعى فى طائرة فوق صحراء سيناء ، وكان المشير مع حاشيته فى طائرة فوق صحراء سيناء كذلك .

(أأ) فى الساعة 7.30 صباح 5 يونيو 1967 دوت صفارات الإنذار فى إسرائيل ، وقامت طائراتها بشن هجوم مفاجىء وسريع على المطارات المصرية ، مستغلة فى ذلك عيبا فى الرادارات الروسية بعدم إمكان رصد الطائرات التى تطير على إرتفاعات منخفضة ، وشلّت كل مرافق الدفاع الجوى الأرضى – المضاد للطيران المعادى – بسبب وجود الطائرتين المنوه عنهما فى أجواء سيناء ، فاستطاعت تحطيم 450 طائرة مصرية وهى على مدارجها .

(ب ب) فى خطاب التنحى المشهور يوم 9 يونيو 1967 – والذى كان يتضمن تزييفا للحقيقة بإستعمال لفظ النكسة (set back) بدلا من هزيمة ، كما كان فى الحقيقة يتمحض عن رغبة من عبد الناصر تدعو الشعب إلى الوقوف بجواره – فى هذا الخطاب ، قال إننا كنا ننتظر العدو من الشرق فجاءنا من الغرب . أى إنه حتى ذلك اليوم – وبعد أربعة أيام من 5 يونيو 1967 – لم يكن رئيس الجمهورية والقائد الاعلى للقوات المسلحة وكاتب الخطاب يعلمان حقيقة ما حدث ، وأن الطيران الإسرائيلى جاء من الشرق ، لا من الغرب ، وأنه إستغل عيبا فى شبكات الرادار الروسية ، فتدرب طائروه طويلا على الطيران المنخفض .

(ج ج) بعد أن عرف الشعب أن ما حدث يوم 5 يونيو 1967 كان هزيمة فادحة وليس مجرد نكسة ، وبعد موت عامر بما قيل أنه إنتحار (وهو فى الحقيقة إعدام له ، لأنه أثناء غضبه وخصامه مع عبد الناصر قال فى قريته أسطال قولا كان إذاعة لسر بينه وبين عبد الناصر ، ما كان ينبغى أن يُذاع أبداً) ، بعد ذلك رأى نظام الحكم أن يُوجِد كبش فداء يتحمل الهزيمة ، ومن ثم فقد قدم قادة عسكريين منهم قائد الطيران محمد صدقى محمود وقائد اللواء المدرع الرابع صدقى الغول إلى مجلس عسكرى قضى عليهم فى فبراير 1968 بالسجن . وسارت بعد الحكم مظاهرات عارمة للطلبة وغيرهم ، فى القاهرة والأسكندرية والمنصورة وغيرها ، وهى تهتف “ولا صدقى ولا الغول .. إنت لوحدك المسئول” أى إن هذه المظاهرات كانت تُعلن مسئولية جمال عبد الناصر وحده عن الهزيمة .

هذا عن رأى مظاهرات الطلبة وغيرهم فى حينه ، فماذا عن رأى الشعب الذى مازالت حُجب التزييف وأستار التحريف تمنع عنه الحقائق .

ذلك ما سوف يقول فيه التاريخ قولا حاسماً !

saidalashmawy@hotmail.com

* القاهرة

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading