لا أعرف كم من الأشخاص في العالم العربي وصلتهم حجارة تذكارية بالبريد من جدار برلين بعيد سقوطه. ولكنني كنتُ واحدا منهم. وقد نلت جائزتي تلك لسبب بدا آنذاك أقرب إلى زلة اللسان منه إلى معرفة ما تبطنُ الأيام.
I
في ربيع العام 1989 التقيت في قاعة الترانزيت في مطار ليوناردو دافنشي الإيطالي بطالبة ألمانية تدرس الحقوق في جامعة هامبورغ. كان كلانا ينتظر طائرة لن تأتي قبل سبع ساعات. وكما يفعل المسافرون في كل زمان ومكان تحايلنا على الوقت بالكلام في مواضيع مختلفة كانت السياسة من بينها. وكما يحدث لي، دائما، نال الشرق الأوسط نصيب الأسد.
بيد أن الحجر الصغير الذي وصلني بالبريد جاء بفضل كلام قليل عن النظام في ما كان في تلك الأيام ألمانيا الديمقراطية. لم تكن لدىّ معلومات كافية عن ذلك النظام، ولكنني أبديت تحفظات إزاء النظام السوفياتي، وتكلّمت عمّا أصابني من خيبة أمل بعد أكثر من زيارة لموسكو، مضيفا بأنني لا أتوّقع لنظام كهذا، ولا لأنظمة كالنظام القائم في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، البقاء لفترة طويلة من الوقت. ويبدو أن تلك العبارات وجدت صدى في نفس طالبة الحقوق في جامعة هامبورغ، التي أبدت تحفظات مشابهة إزاء الأنظمة الشمولية، وانتقدت نظام ألمانيا الديمقراطية بحماسة وانفعال، لا أدري هل نجما عن قناعات سياسية عميقة، أم استنفرتهما تجربة شخصية، وربما عائلية، مؤلمة.
وعندما أستعيد هذه الحادثة بعد عشرين عاما، أشعرُ بما شعرت به في صالة الترانزيت في ذلك اليوم البعيد. فالكلام عن نهاية وشيكة لما عُرف آنذاك بالمعسكر الاشتراكي كان نوعا من الإفراط في الخيال، ولم يكن ليخطر على البال، حتى في أكثر أحلام اليقظة جموحا، أن نشهد النهاية قبل نهاية ذلك العام. وأهم من هذا وذاك أن لا الخيال، ولا زلّة اللسان، أسهما في التخفيف من وقع الحدث. فلكل مفاجأة تاريخية من العيار الثقيل وقع الزلزال.
II
كانت أوروبا في أواخر الثمانينيات مركز الزلزال، لكن الموجات الارتدادية وصلت إلى أقاصي الكون، وسُمعت أصداؤها في العالم العربي، كما في كل مكان آخر بوتائر متفاوتة من الصخب والعنف.
وجد حلفاء الولايات المتحدة في العالم العربي أنفسهم بين ليلة وضحاها في صفوف المنتصرين، حتى وإن كانوا من الجالسين في المقاعد الخلفية، وكان إسهامهم في الحرب الباردة مقارنة باللاعبين الأساسيين متواضعا، وكانت مكاسبهم قليلة، بينما وجد حلفاء الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية أنفسهم في العراء، وفي الصفوف الأمامية للخاسرين.
واللافت للنظر أن الحسابات والمصالح الإستراتيجية، التي فرضت على العرب، منذ أوائل الخمسينيات بحكم الخيار أو الاضطرار، الانحياز إلى أو الانتقال من هذا المعسكر أو ذاك لم تملك ما يكفي من المبررات لإقناعهم بالتماهي مع القيم الثقافية والتقاليد السياسية السائدة في المعسكرين.
الأنظمة العربية الحليفة للمعسكر الغربي لم تكن ديمقراطية، ولم يتوّرع بعضها عن تصنيف الديمقراطية كبضاعة غربية لا تنسجم مع التقاليد المحلية. وعلى الجانب الآخر لم يكن حلفاء الاتحاد السوفياتي اشتراكيين على الطريقة السوفياتية، باستثناء النظام الماركسي في عدن.
ولهذه الحقيقة أهمية خاصة في تفسير كيفية وصول الموجات الارتدادية إلى العالم العربي. فالنخب العربية السائدة المتحالفة مع الغرب لم تر في انهيار النظام السوفياتي وملحقاته فوزا للقيم الثقافية والتقاليد السياسية لحلفائها، والنخب السائدة المتحالفة مع السوفيات لم تر في الحدث نفسه فشلا للنظام الشمولي، وحكم الحزب الواحد.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأحزاب الشيوعية ومنظمات اليسار الجديد العربية، فقد أصابها الزلزال بما يشبه السكتة الدماغية، فلم يعد في مقدورها الدفاع بقدر كبير من الثقة عن تفوّق النظام الاشتراكي، ولا التشكيك، بقدر كبير من الثقة أيضا، في قيم ثقافية وتقاليد سياسية برهن المعسكر الغربي بفضلها على نجاعة في السياسة والحكم.
III
بهذا المعنى، كانت للحرب الباردة لدى كثير من النخب السائدة في العالم العربي، بصرف النظر عن موقع ممثليها في الحكم أو المعارضة، مضامين سياسية آنية ونفعية، أي تفتقر إلى دلالات ثقافية وأيديولوجية عميقة، وأغلبها يكاد يكون محصورا في الصراع العربي والفلسطيني ـ الإسرائيلي.
ولعل في ذلك ما يفسر حضور جدار برلين في خطاب النخب العربية السائدة، باعتباره معلما سياسيا من معالم الحرب الباردة، وغيابه على الصعيد الإنساني العام كنقطة تماس بين عالمين ينتميان إلى ويدافعان عن قيم ثقافية وتقاليد سياسية متناقضة.
المدن الكبيرة والعريقة تشبه كيانات عضوية حيّة يؤدي تمزيقها إلى تعطيل الكثير من وظائفها الحيوية. أكتب هذا الكلام الآن من محل أقامتي في برلين حيث يمكنني قطع المسافة الوهمية في ثوان معدودات، فوق بقايا ما كان جدارا تحميه أبراج المراقبة وفوّهات البنادق، من اكتشاف ما يسم تقطيع أوصال مدينة حيّة من عبثية، وما يترتب على قاطنيها دفعه من أثمان باهظة مقابل صدفة العيش في مكان تحوّل إلى نقطة تماس. وفي جميع الأحوال فإن المسافة الوهمية توحي بمشاعر متناقضة أولها عدم إبداء الكثير من الثقة بالذكاء الإنساني، وثانيها الإحساس بأن الحرية تنتصر، ولو بعد حين.
وربما كانت تلك مشاعر ما لا يحصى من المواطنين العرب، الذين شاهدوا فشل الجدار في صد موجات فيضانية من البشر، تحت سمع وبصر جنود فقدوا زمام المبادرة، وأصبحوا حتى قبل العودة إلى بيوتهم، وخلع بزاتهم الرسمية، حرّاسا عاطلين عن العمل لنظام يحتمي بجدار. حدث ذلك بالصوت والصورة في زمن تحوّل فيه التلفزيون إلى وسيلة شعبية رخيصة، وفي متناول الجميع تقريبا، للاطلاع على ما يشهده العالم من أحداث.
ولم يفشل الحدث الألماني في تحفيز خيال المشاهدين في أماكن مختلفة من العالم العربي، خاصة وأن موجات فيضانية مشابهة ارتطمت بجدران واقعية ومجازية للأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية ونجحت في تقويض دعاماتها. كان ما يحدث بالصوت والصورة ربيعا جديدا للشعوب، ولم يصعب على كثيرين في الحكم والمعارضة، وفي أوساط مختلف الشرائح الاجتماعية، الوصول إلى قناعة مفادها أن الحرية تنتشر كالعدوى، وأن ربيع الشعوب يمكن أن يكون عربيا أيضا.
IV
بيد أن الحلم بربيع قادم للشعوب في العالم العربي لم يعمّر طويلا، إذ وقع في عقر دار العرب، ولم تكد تمر تسعة أشهر على سقوط جدار برلين، زلزال من نوع آخر، لم تكف موجاته الارتدادية عن الحراك على مدار عقدين لاحقين. المقصود، هنا، الغزو العراقي للكويت، الذي كان محاولة لتعديل الخرائط والحدود، وأعقبته محاولة مضادة من جانب الولايات المتحدة لتفصيل العالم على مقاس طموحات وأوهام أيديولوجية لجماعة من المحافظين الجدد.
رأى أحد المثقفين العرب في ذلك الحدث، بعيد وقوعه، تحريكا للتاريخ. وإذا كانت ثمة مداخل مختلفة لقراءة حدث بهذا الحجم، إلا أن التعامل معه كترجمة عجولة، وخاطئة، لما كان يجري في أوروبا من تحريك للتاريخ، لا يبدو فائضا عن الحاجة.
وقد ثبت أن حراك التاريخ، كما تجلى في الغزو العراقي للكويت، وما تلاه من حروب مباشرة وغير مباشرة ما تزال مستمرة حتى الآن، أعاق ربيع الشعوب، وخلق وقائع جديدة لعل أبرزها صعود سياسات الهوية، والتمركز على الذات، بطريقة غير مسبوقة في التاريخ العربي الحديث.
فقد أصبح بوسع النخب السائدة في العالم العربي تفادي إصلاحات داخلية بدعوى حماية النُظم القائمة من مخاطر داخلية وخارجية، حقيقية ومتوّهمة، ووقع “الشارع” في قبضة أيديولوجيات أصولية متطرفة معادية للغرب، وما اقترن به في السياق التاريخي لتطوّر الدولة الحديثة في العالم العربي من حداثة وتحديث.
والمفارقة الأولى في هذا الشأن، أن النخب العربية الحليفة للغرب، التي وجدت نفسها في مقاعد المنتصرين بعد انتهاء الحرب الباردة ـ وهي نخب محافظة، تتبنى أفكارا تقليدية ـ وظّفت مكانتها السياسية الجديدة، ومواردها المالية الهائلة، في تعزيز سياسات الهوية، والتمركز شبه المرضي على الذات.
وفي هذا السياق حدث، ويحدث، ما يشبه مكر التاريخ، فسياسات الهوية، والتمركز على الذات، بقدر ما تسهم في تعزيز النفوذ الأيديولوجي للنخب المتحالفة سياسيا مع الغرب في العالم العربي، تسهم أيضا في تعميق الفجوة بين “الشارع” العربي وحلفائها الغربيين.
أما المفارقة الثانية فترتبط بحقيقة أن سياسات الهوية، والتمركز على الذات، وما يمثلها من أحزاب وتيارات أصولية، ليست ضد فكرة النظام الشمولي من حيث الجوهر، بل ضد ما ترى فيه نموذجا غربيا في الحكم. وبالتالي فإن أفكارا من نوع المواطنة، والمساواة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، غالبا ما تُعامل من طرفها كبضاعة مستوردة لا تنسجم بالضرورة مع الثقافة والتقاليد المحلية.
V
كان تحريك التاريخ على الطريقة العراقية قراءة خاطئة لعلاقات القوّة في عالم ما بعد الحرب الباردة. وقد أسهم ما نجم عنها من نتائج كارثية في إقناع الفلسطينيين ـ الذين وجدوا أنفسهم في المقاعد الأمامية للخاسرين بعد انهيار الكتلة الاشتراكية ـ بضرورة التأقلم مع عالم قيد التشكيل. وهذا ما تجلى لاحقا في محاولة البحث عن حل للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي عن طريق مفاوضات مباشرة مع إسرائيل.
والمفارقة أن تلك المحاولة التي كانت في أحد جوانبها استجابة صحيحة للموجات الارتدادية التي ضربت العالم العربي بعد انهيار جدار برلين، تبدو في الوقت الحاضر وكأنها فقدت الكثير من قوّة الدفع الذاتية، والقدرة على الإنجاز، في مواجهة جدار جديد من الخرسانة المسلحة، والأسلاك الشائكة، وأبراج المراقبة، وفوّهات البنادق.
وإذا كان ثمة ما يُستخلص من تجربة ظهور وانهيار جدار برلين، فإن انهيار الجدار أصبح ممكنا لأن القاطنين على جانبيه رفضوا وجوده، وأسهموا في انهياره بطرق يصعب حصرها. ولعل في حقيقة كهذه بعض العزاء والأمل لفلسطينيين وإسرائيليين ما زال رهانهم قائما على ضرورة، وإمكانية، التوصل إلى حلول عن طريق المفاوضات.
كان مقدرا لمحاولة تحريك التاريخ من جانب الفلسطينيين التعجيل بقدوم ربيع شعوب مُنتظر. ولكن مصادفة وقوعها في ظل عالم قيد التشكيل ـ يتسم بالفوضى، وانهيار التوازنات، ويراوح ما بين إحساس بنهاية التاريخ ونبوءة سوداء بصراع الحضارات ـ لم تمنحها ما تستحق من فرص النجاح.
وفي هذا الصدد فإن أصعب ما يجابه المسألة الفلسطينية في الوقت الحاضر، إضافة إلى الجدار الواقعي على الأرض، يتمثل في محاولة الاستيلاء عليها من جانب أصوليات قومية ودينية متطرفة، وعابرة للحدود، تقتات على سياسات الهوية والتمركز على الذات، فمن شأن محاولة كهذه إذا نجحت أن تبني جدار إضافيا، بالمعنى المجازي للكلمة، يعترض طريقها إلى أمد غير معلوم.
VI
من وقت إلى آخر يلوح في العالم العربي ما يشبه ربيعا للشعوب لكنه سرعان ما يتلاشى بطريقة مخيبّة للآمال. ومع ذلك فإن حجرا صغيرا وصلني بالبريد ذات يوم، من جدار سقط في مكان بعيد، يظل شاهدا على حقيقة أن الواقع لا يكف عن توليد مفاجآت مدهشة، طالما ظل تحريك التاريخ هاجسا من هواجس الناس. مَنْ كان يصدق أن الجدار الذي توّقع بُناته أن يبقى لمائة عام سيسقط غير مأسوف عليه بعد أقل من ثلاثين عاما، وأن بعض شظاياه ستتناثر في أماكن مختلفة من العالم عن طريق سعاة البريد؟
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
معهد غوته ومجلة فكر وفن