القينا في الجزء الأول من هذا المقال الضؤ على شخصية الرئيس الجديد لكوريا الجنوبية الذي انتخب مؤخرا، وقلنا أن التاريخ الآسيوي سوف يذكره في عداد الشخصيات العصامية التي وصلت إلى هرم القيادة في بلادها بالعزيمة والإصرار والكفاح ، والسؤال الذي لا بد من طرحه ونحن نتحدث عن هكذا شخصية، هو ما هي التحديات التي يواجهها اليوم كزعيم لكوريا الجنوبية؟ وهل ينجح الرجل في هذه التحديات بالطريقة التي نجح فيها أثناء قيادته لشركة هونداي العملاقة في زمن الطفرة الاقتصادية؟
رغم انه من المبكر الإجابة على هذا السؤال، على اعتبار أن فترة المائة يوم الأولى من عهد أي زعيم جديد هي التي تحدد ملامح عهده وطريقة إدارته للملفات الموضوعة أمامه، وهذه لم تبدأ بعد، لأن لي باك ينتظر مراسم التنصيب في 29 يناير الجاري، فانه بشي من التجاوز، واعتمادا على ما قيل أثناء حملة الرجل الانتخابية، يمكن القول أن أهم التحديات التي تواجههه هي:
أولا: الملف الاقتصادي
تشبه أوضاع كوريا الجنوبية الاقتصادية اليوم إلى حد ما الأوضاع التي واجهت الرئيس الأسبق “كيم داو جونغ” يوم استلامه السلطة في عام 1997 ، والتي دفعت الأخير إلى قرار مر هو استجداء نحو 58 بليون دولار من صندوق النقد الدولي للحيلولة دون انهيار اقتصاد بلاده. قبل هذه الأزمة التي عرفت بالأزمة النقدية الآسيوية، كان معدل النمو السنوي في كوريا الجنوبية هو 8 بالمئة، وهو المعدل الذي وعد الرئيس الجديد شعبه به كبديل للمعدل الراهن الذي يترواح ما بين 4 و5 بالمئة. ومن وعوده الأخرى رفع معدلات الدخل الفردية السنوية من رقمه الحالي وهو 20 ألف دولار إلى 40 ألف دولار، وبالتالي دفع البلاد إلى مرتبة سابع اكبر اقتصاد في العالم، ورغم الجدل المثار حول استنزاف الخزينة العامة للإنفاق على مشروع مكلف هو حفر قناة مائية ما بين العاصمة وميناء بوسان، والإنفاق على مشاريع إنشاءات وتنمية حضرية أخرى، فان الرجل مصمم على المضي قدما في تلك المشاريع مؤكدا على ضرورتها للانتعاش الاقتصادي وتغيير وجه البلاد من اجل التكيف مع تحديات العولمة والمنافسة الإقليمية الشرسة.
إلى ما سبق وعد الرئيس شعبه بتخفيف الضرائب ورفع القيود التي وضعها سلفه على ما يسمى “الجابول” – أي جماعات النفوذ القوية في قطاع الأعمال والتي سيطرت على هذا القطاع وتحكمت في أنشطته بالتعاون مع الحكومة تخطيطا وتنفيذا وكانت العمود الفقري لازدهار كوريا الجنوبية منذ الستينات – لجهة تملكها للمصارف أو تحديد نسبة مساهمتها، علما بأن الكثيرين من الكوريين طبقا لأحد استطلاعات الرأي رحبوا بفكرة عودة دور هذه الجماعات انطلاقا من مبدأ أن ما يعنيهم هو الاستقرار والازدهار الاقتصادي وليس الجدل العقيم حول الاحتكار والنفوذ ومن له السيطرة. ويعتقد المحللون أن بامكان الرئيس الجديد تنفيذ الكثير من وعوده تعويلا على ما يمتلكه من خبرة ورؤى عملية وانحياز لاقتصاد السوق ومعرفة بطبيعة عمل “الجابول” في تنفيذ المشاريع بدقة وانضباط.
ثانيا: تأكيد نزاهته وبراءته من بعض التهم
في عام 1999 أطلق لي باك عدة شركات للخدمات المالية الالكترونية، من بينها شركة جمعته مع “كيم كيونغ جوون”، رجل الأعمال الأمريكي من اصل كوري المسجون حاليا في سيئول تمهيدا لمحاكمته بتهمة سرقة عشرات الملايين من الدولارات من الكوريين وتحويلها إلى مصارف سويسرية، لكن هذه الشركة الأخيرة أفلست خلال عام واحد، الأمر الذي خسر معه أكثر من 5500 مواطن كل مدخراتهم واستثماراتهم. وهذا بدوره تسبب في تلطيخ السجل النظيف للرئيس الجديد واتهامات له بالتحايل والسرقة. غير أن المدعي العام المركزي برأه من هذه التهم في الثالث من ديسمبر المنصرم، لتعود الاتهامات لتلاحقة في خضم الحملات الانتخابية وليستغل منافسوه الأمر في التشهير به. بل وصل الأمر إلى حد تمرير الجمعية الوطنية لمشروع قرار حول تعيين مدع قضائي خاص للنظر مجددا في تلك القضية التي لا تزال ساخنة وتدور حولها قصص كثيرة وحملات صحفية يقودها اقرب المتنافسين إلى الرئيس المنتخب في سباق الرئاسة الأخير، ألا وهو وزير الوحدة ” تشونغ دونغ يونغ” في حكومة الرئيس المغادر/ مرشح الحزب الديمقراطي المتحد الجديد والذي حصل على نسبة 25 بالمئة من أصوات المقترعين،
ثالثا: العلاقات مع بيونغيانغ وملف كوريا الشمالية النووي
سوف يكون من الصعب على الرئيس المنتخب التراجع عن سياسات التقارب التي اتبعها سلفه إزاء نظام بيونغيانغ، لكنه ربما عمد إلى تأخير تنفيذ تعهدات بلاده إزاء الأخيرة كوسيلة للضغط، أو ربما تجنب تقديم تعهدات جديدة بالمعونات الاقتصادية والإنسانية إلى أن يثبت الشماليون فعلا التزاماتهم بتفكيك المنشآت النووية القابعة على مقربة من الخط الحدودي الفاصل ما بين الشمال والجنوب في مجمع يونغبيون النووي أو على الأقل إثبات جديتهم وتركهم ألاعيبهم الصبيانية وتكتيكاتهم الخبيثة، وذلك طبقا لوعوده أثناء حملاته الانتخابية والتي قال فيها انه سيعيد النظر في سياسة شروق الشمس التي أطلقها الرئيس الأسبق “كيم داي جونغ” أثناء القمة التاريخية التي جمعته مع نظيره الشمالي “كيم جونغ ايل” في يونيو 2000 بحجة أن سيئول قدمت الكثير لبيونغيانغ مقابل الحصول على القليل جدا أو لا شيء على الإطلاق وذلك بفضل السياسات المائعة للرئيس المنتهية فترة رئاسته. ورغم هذا فان المراقبين يؤكدون أن الرئيس المنتخب سوف لن يتخذ عمليا أية خطوة تصعيدية مثل التراجع عما اتفق عليه لجهة إنشاء منطقة اقتصادية مشتركة، أو تشييد مرافئ حديثة لكوريا الشمالية على السواحل الشرقية والغربية لشبه الجزيرة الكورية، أو تسيير خطوط السكك الحديدية بين شطري كوريا أثناء اولمبياد بكين 2008 ، بل ربما عمد مثلما تسرب إلى وضع خطة شاملة لدمج الشمال في عملية تطبيع وسلام محكمة من خلال إنشاء كيان مؤسساتي يضطلع بوضع تصورات منهجية متفق عليها عبر التفاوض للشئون الاقتصادية والثقافية والمالية والرعائية والقانونية والتنموية بين شطري كوريا، وربما هذا وما سبقه هو ما دفع حكام بيونغيانغ إلى تغيير مواقفهم المعلنة من حزب الرئيس المنتخب، بمعنى الانتقال من سياسة الانتقادات والاتهامات الحادة له والقول بأن انتخاب لي باك هو بمثابة إعلان حرب وتخريب لكل ما تم بناؤه على صعيد تعزيز الثقة إلى سياسة الصمت المطبق والاكتفاء بالتفرج
رابعا: الملف الكوري الشمالي لحقوق الإنسان
ينظر الكوريون الجنوبيون إلى هذا الموضوع بأهمية شديدة كون أي انفراج في هذا الملف، معناه الإفراج أو معرفة مصير العديد من مواطنيهم الذين اختطفهم نظام بيونغيانغ وسجنهم في معتقلاته الرهيبة مع آخرين من أيام الحرب الكورية. غير انه رغم تلك الأهمية فان الرئيس المنتخب لم يتحدث عن هذا الملف كثيرا أثناء حملاته الانتخابية ليستدرك لاحقا ويقول انه لو كانت لديه أدنى ثقة بأن الحديث عن الملف سوف يؤدي إلى نتائج عملية لما تأخر، مضيفا بأنه كرئيس جديد لكوريا الجنوبية لن يترك أية مناسبة تمر دون إثارة هذا الملف، وسوف يناقض ما فعله سلفيه “كيم داو جونغ” و”روه مو هيون” من صمت وتخاذل وسياسات مداهنة تجاه بيونغيانغ. وقد رأى البعض في تلك التصريحات تهديدا بإثارة الموضوع في جولات المحادثات السداسية القادمة حول تجميد برامج كوريا الشمالية النووية أو اتخاذ مواقف صلبة عند عرض الأمر على الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكانت الأخيرة قد دأبت على مناقشة هذا الموضوع مع تعمد سيئول الامتناع عن التصويت أملا في الحصول عل مقابل أو منعا للتصعيد مع الشماليين.
elmadani@batelco.com.bh
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية- البحرين
عن بائع الآيسكريم وجامع القمامة الذي صار زعيما لكوريا الجنوبية – الجزء 2انقلاب محاور الأرض في ألف سنة؟ خالص جلبي لو أتيح لزائر سماوي أن يمر على الأرض قبل ألف سنة، من غير أن يعرف أي لغة أو ثقافة أو دين، وتفقد الأرض والناس والوقت والعمل، فسوف يتشكل في ذهنه انطباع واضح من جراء تكرار المناظر، أن هذا العالم ليس عالماً واحدا بل عالمان، وأن هناك خطين واضحين يفصلان الناس في الكرة الأرضية، تماماً مثل خطوط الطول والعرض وخط الاستواء ومداري الجدي والسرطان، ولكنهما ليسا خطين جغرافيين بل خطان حضاريان متميزان، أو لنقل محورين للشمال والجنوب: يمتد الخط أو المحور… قراءة المزيد ..