في يوم من شهر تموز/ يوليو من العام الماضي قدمت إلى دمشق من بلدة “الدريكيش” التي لجأت إليها بعد أن هجرنا منزلنا في اللاذقية تحت ضغط التشبيح السلطوي المنظم في شهر نيسان / أبريل من العام الماضي، وذلك بسبب مشاركتي في مظاهرات اللاذقية. كان أحد الأصدقاء المعارضين قد أقنعني بضرورة القدوم والتنسيق معاً للعمل على إيجاد هيكل معارض يمكنه التحدث باسم الثورة ومساعدتها للوصول إلى أهدافها في إسقاط النظام الاستبدادي وبناء سوريا التي نحلم بها جميعا: حرة وديمقراطية ولجميع أبنائها.
ولأنني لست سياسياً بالأساس، ولا أنتمي إلى أي حزب، وعارضت النظام لأسباب أخلاقية بالدرجة الأولى، فقد صدَّقت ببساطة أن المعارضين جميعهم يعملون على توحيد المعارضة من منطلق وطني صرف، ولا يمكن أن تقف في وجههم عثرة في إنجاز هذه المهمة النبيلة وبأسرع وقت ممكن! ورأيت المحاولات المتعددة التي جرت من أجل هذا الهدف، وكيف كانت المسائل الشخصية تطغى أو تعطِّل، وما يتحقق اليوم يتم الالتفاف عليه في اليوم الثاني لأسباب ليس لها علاقة بالمهمة النبيلة.
في هذه الأثناء كثَّفت من زياراتي إلى مجالس عزاء الشهداء التي كانت تقام في الضواحي الثائرة لمدينة دمشق من أجل التعرف على الواقع. كان كل شيء مفعماً بالآمال رغم الظروف الصعبة. المشكلة بالنسبة لي أن الآخرين كانوا يقدموني دوماً بصفتي الطائفية، وكان ذلك يزعجني كثيراً، فكيف يمكن لمن عاش حياته وتربى على أن يكون وطنياً وكونياً، أن يقبل تحجيمه إلى مُنتج لثقافة محلية؟ ومع ذلك تقبَّلت ذلك طالما أنه يطمئن أخوتي في الوطن.
كان الخطباء المحليون، ومعظمهم من الأوساط الدينية، يتكلمون بلغة وطنية جامعة هي نوع من الإسلام الليبرالي الذي أنعشته الثورة، وكنت أعود بمعنويات مرتفعة من هذه المجالس. قال لي مرة أحد الشيوخ في “دوما” أن وجودي بينهم لا يساعد “طائفتي” فقط، إنما يساعدهم في السيطرة على جزء من الشارع تسوده مشاعر طائفية ضد العلويين. في هذه الأثناء كان القمع الدموي قد بدأ يفعل فعله في إذكاء الاحتقان والتمهيد لموجة التسلح التي بدأت تسير سيراً حثيثاً بعد شهر رمضان.
وكان الشارع، وخلال زيارات وفود المعارضة، يستجير بنا كمعارضين من أجل تمثيله وإيصال صوته إلى العالم، ولكن الآمال التي علقها هذا الشارع على المعارضة كانت أكبر من أن تستطيع تحقيقها لأسباب ذاتية وموضوعية؛ فحتى ذلك الحين كانت المعارضة التقليدية المحطمة والمبعثرة بسبب القمع المديد تحاول فهم الحدث، والقيام بدور ما لم تعتد عليه، وفي ظروف مختلفة كلياً.
وفي أواخر شهر أيلول، وأثناء زيارته للمنزل الذي أسكنه، أخبرني أحد السياسيين الذين لهم علاقة وثيقة بالحراك في ريف دمشق بأن الأمر قد حُسم في ما يتعلق بالتسلُّح، وأن المراهنة على حدوث انشقاقات في الجيش قد انتهت؛ لأن معظم قياداته من الطائفة العلوية. لم أجب ولا بكلمة واحدة، فقد كان حديثه قاطعاً، وبدا كأنه إنذار أكثر من كونه نقاشاً!
شعرت بأن الثورة، أياً كانت المبررات، ستدخل مرحلةً جديدة أخطر من كل التوقعات، وأذكر أنني لم أنم تلك الليلة على الإطلاق، وتساءلت كيف ستكون النتائج المستقبلية لتسليح فوضوي دون أدنى تنظيم؟ وبدا منذ ذلك الحين أن ثمة من يحاول ركوب الثورة واحتكارها تحت ستار العسكرة والشحن الطائفي للشارع، مدعوماً بالبث الانتقائي لبعض القنوات الفضائية. وصار ما يفعله النظام تحت الطاولة يفعله بعض أعدائه فوقها!
وفي هذه الأثناء كان قد اعتقل الكثير من قادة ومنسقي الانتفاضة السلميين، وترك غيابهم فجوة سيتم ملؤها بعناصر أقل ثقافة لم تتأخر في تلقُّف موجة التسلح القادمة بهدف معلن هو الدفاع عن النفس وحماية التظاهرات، فأصبح القادة
على الأرض هم، بصورة ما، “زكرتاوية” الحارات الشعبية.
وعلى الصعيد السياسي، وعلاوة على المحاولات التي كانت تجري في الداخل بصمت، جرت عدة محاولات في الخارج لتشكيل مجالس تمثيلية. ثم ظهرت إلى الوجود هيئة التنسيق الوطنية من قوى وأحزاب تقليدية وتشكيلات جديدة في الداخل بصورة خاصة، وكان من الصعب توقع تطورات نوعية في عمل تلك الأحزاب التي أكل عليها الدهر وشرب، واتهمها آخرون بمحاباة النظام وغير ذلك. وبقيت هيئة التنسيق تعمل في إطار السياسات الوطنية معتمدة على خبرة سياسية مديدة، ولكن دون تأييد كبير من الشارع.
وفي أولى المحاولات الخارجية لتوحيد المعارضة، اجتمعت أطراف منها في الدوحة، وانتهى الاجتماع بصورة غرائبية، بحيث انتقلت القوى الإسلامية من طاولة الحوار إلى تركيا وأعلنت عن تشكيل المجلس الوطني، وبعيدا عن الاتهامات من هذا الطرف أو ذاك، فإنني أعتبر هذه اللحظة من المفارقات المهمة التي تدل على بداية الصراع الخارجي على سوريا وتدخُّل الدول في شؤونها، حيث تبيَّن منذ ذلك الحين أن تركيا هي من جاءت بالإسلاميين من الدوحة إلى تركيا لتبني هيكل المعارضة حول محورهم، فتم تفصيل القياسات هناك لدخول بقية أطراف المعارضة على أن لا يتأثر بذلك بُناة الهيكل. بمعنى آخر لم يكن المجلس إقصائياً ظاهرياً، ولكنه كان إقصائياً لأنه يدعو للالتحاق به والعمل ضمن شروطه، وكان يريد حلفاء أشبه بالجبهة الوطنية التقدمية عند النظام، ولكن ليس كأحزاب، بل كممثلين لطوائف! وجيء بالدكتور برهان غليون رئيساً كـ”واجهة” مُتَّفق عليها من الجميع.
بنى مؤسسو المجلس جل آمالهم على التدخل الخارجي أيا كان، واقتدوا بالنموذج الليبي، ووعدوا بما ليسوا قادرين على الإتيان به في لحظة كان الشارع فيها يحتاج إلى من يمثله، فأيد الشارع المجلس الوطني لأنه البديل الوحيد المطروح. ونظراً للضغوط الدولية على المجلس لتمثيل الشعب السوري، فقد صار يتوسع تدريجيا ليضم أطرافاً من قوى سياسية أخرى وأقليات، ولكنها لم تغير من معادلة تكوين المجلس كثيراً.
يعترف المجلس بأنه يعمل بنسبة 90% علاقات خارجية و 10% في الداخل السوري، وانطلاقا من مبدأ أن السياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية فإن المجلس يضع نفسه في موقع الريبة باعتباره منفذاً لسياسات خارجية أكثر من كونه ممثلاً حقيقيا للشعب أو الثورة.
وبينما بدا وكأن الجيش الحر يتكون من المنشقين عن الجيش فقط، فقد كان هؤلاء يُستخدمون، في الواقع، كغطاءٍ لموجة تسلح عارمة ضاع فيها المنشقون عن الجيش، والذين رفضوا بنبالة إطلاق النار على المتظاهرين، ليصبحوا مجرد قلَّة في عشرات المجموعات التي تطلق على نفسها تسميات إسلامية أكثر منها وطنية، وترافق ذلك بتوجه لتسمية أيام الجُمَع على المنوال نفسه، وتراجعت الشعارات الوطنية التي رفعتها الثورة في الأشهر الأولى إلى المرتبة الثانية، وعلق الناشطون وسلميتهم بين النيران.
وهكذا، وفي غياب القيادات، وبسبب الممارسات الارتجالية، كان من المستحيل تقريباً إقناع الذين يتعرضون للقمع الدموي باستمرار سلمية الثورة، واتسع الهدف المعلن المتمثل بالدفاع عن النفس وحماية التظاهرات إلى الهجوم على مراكز الأمن والجيش، وصولا إلى تخوين الجيش النظامي برمته، والهجوم العشوائي عليه في معظم الحالات، وهذا ما ساهم في تماسك هذا الجيش والحد من الانشقاقات في صفوفه.
وهنا حصل النظام على ما يريده؛ فالشارع يُشحن طائفياً، و”العصابات المسلحة” التي حاول خلقها منذ البداية صارت موجودة بنظره وتدعى “الجيش الحر”، فأسرع بقبول المراقبين العرب ليبرهن للعالم أن ما يقوله موجود على أرض الواقع! وتكررت سلسلة الادعاءات والتبجحات من “الجيش الحر” حول السيطرة على بعض المدن والبلدات، فانتظر النظام خروج المراقبين ليشن حملة شعواء بالأسلحة الثقيلة، ويهجِّر سكانها بالجملة.
ترافقت العسكرة بشحن طائفي وممارسات تشبيحية تحاكي ما يفعله النظام، وقد سكتنا عنها طويلاً، باعتبارها ممارسات غير ممنهجة، حتى لا نسيء لسمعة ثورة حلمنا بها طويلاً، وكان هذا السكوت خطأً بكل تأكيد. وأدت تلك الممارسات لتخندق الكثيرين خلف النظام وجيشه مثلما يحدث في أي صراع مسلح، لا لحبهم بالنظام، بل لغموض القادم والتوجه الإسلاموي الذي يشكل رهاباً للبعض بحق أو بدون حق. كما صار “الجيش الحر” أيضاً “أيقونةً” في المناطق الثائرة لأنه يحمي المتظاهرين والأحياء المنتفضة، وصار نقده من المحرمات، مع أننا لم، وربما لن، نعرف حقيقة الرأي في تلك المناطق حيث سيطر عليها هذا الجيش، ولا حجم الاختراقات التي قام بها النظام داخل مجموعاته وكتائبه.
لم تراجع المعارضة المتمثلة بالمجلس الوطني أو “الجيش الحر”، حتى تاريخه، أخطاءها، ولم تستفد من الدروس الماضية، ولكنها اعترفت بأن النظام أخذها إلى حيث يريد! ومع ذلك فإن قبول المجلس الوطني، علاوة على باقي أطياف المعارضة، بمبادرة السيد كوفي عنان يشير إلى بعض اليأس الذي بلغه المجلس من تعليق الأوهام على الخارج، وربما يكون ذلك مقدمةً للتنسيق مع أطياف المعارضة الأخرى. وبالنتيجة، فقد مضت أكثر من ستة أشهر دون أن تتقدم الثورة عملياً على طريق تحقق أهدافها المتمثلة ببناء سورية الديمقراطية، وتخندق أنصار النظام وأعداؤه في جبهتين يشكل الجيشين النظامي والحر واجهتهما.
ومنذ شهرين تم الإعلان عن محاولة جديدة للخروج من حالة الاستقطاب في المعارضة بين هيئة التنسيق الوطنية والمجلس الوطني السوري، والعمل على تقريب وجهات النظر للوصول إلى موقف واحد تحتاجه المرحلة القادمة، وخاصة في الجوانب التفاوضية، فأعلن في القاهرة عن تشكيل المنبر الديمقراطي السوري الذي يطمح أن يكون جسراً تلتقي عليه المعارضة تمهيداً لعقد مؤتمر وطني داخل سوريا وبضمانات دولية وعربية. وإن نجاح تجربة المنبر الديمقراطي مرهون بتحويل ثقل الفعل السياسي إلى الداخل، ليعمل الخارج بدلالة الداخل كما جاء في البيان الختامي للمنبر.
الكل يعرف أننا في أزمة وطنية كبيرة، ولن تعود الأمور إلى الوراء، ونجاحنا في التقدم يتوقف إجراء مراجعة شاملة للمرحلة السابقة، واستعادة الزخم السلمي الوطني للثورة السورية، ومواجهة كل أشكال الممارسات الطائفية، على محدوديتها، لأنها تساهم في تخويف الصامتين وتسيء للثورة بصورة كبيرة. وقد يساعد توقف العنف ووجود المراقبين الدوليين والضغوط الدولية على تحققها، وحتى لا نخسر، ولو إلى حين، الحلم الذي تخضَّب بدماء السوريين.
mshahhoud@yahoo.com
دمشق
عن المعارضة والثورة مرة أخرى
والله يا سيد منير أنت تضع يدك على الجرح ولكن لا حياة لمن تنادي. ان ما يحصل في سوريا الآن أصبح عبارة عن تكسير رؤوس والبلد هوآخر هم الطرفين(معارضة ونظام)والطرفين أكذب من بعض وهالناس رايحة بين الرجلين.