يعيش اللبنانيون لحظة “جحيمية” يتفقون على القول أنها نتيجة لانهيار الدولة أو “تفكك أوصالها” (عنوان كتاب للنائب الدكتور فريد الخازن).. تغوّلت الجماعات الأولية (وهي هنا الطوائف) وحلت محل الدولة في كل شيء لأنها تملك بالضبط ما لا تملكه “الدولة الموقوفة” (عنوان كتاب للدكتور وضاح شرارة): شرعية دينية وتاريخية واجتماعية سياسية وحتى قانونية.. طوائفنا أقوى من الدولة..نعم ولا فخر..وما تسميّه القوى والحركات الإيديولوجية السياسية في لبنان “تاريخاً قومياً مشتركاً” ليس في الواقع سوى “ذاكرة جماعات طائفية” عملت الأصوليات المختلفة (من لبنانية فينيقية إلى قومية سورية أو بعثية عروبية، إلى إسلاموية لا تقوى عندها ولا ورع) على تظهيرها وتأطيرها لتكون ضمير “الأمة”، أي الضمير الإيديولوجي المنتفخ لكل جماعة/ امة… فالإيديولوجيات الأصولية الاطلاقية المختلفة قامت وتقوم على اعتبار أن جماعتها الخاصة (وهي تلبس لبوس الحزب في معظم الأحيان) هي “الأمة” ، وعلى أن هذه الأمة الافتراضية هي ثابت أزلي سرمدي وهي “الهوية – الجوهر” ، وبالتالي فان ذاكرتها هي التاريخ، وجماعتها هي شعب الله المختار المحقق للرسالة الخالدة والمجسّد للهوية والفاعل الصانع للتاريخ… ولقد أصبحت الهوية، أي حفظها والدفاع عنها، هي الطوطم الأكبر (وليس: الله اكبر) في التحشيد والتجييش لخوض الحروب والمعارك… هذه الهوية التي تتلبسها الجماعة وترفعها إلى مستوى المقدس- المطلق هي الأمة، أي الحزب (أو الطليعة- النخبة القومية)، أي القائد (الأمين العام أو الرئيس أو الزعيم لا فرق)، لا يأتيه الباطل لا من خلف ولا من قداّم… وبالتالي فان كل ما تأتيه الجماعة (أو بالأصح من ينطقون باسمها) هو حلال حتى ولو كان محرّما في كتب السماء وشرائعها.. وبالتالي فلم تعد الهوية مضموناً إنسانيا حركياً حراً منفتحاً متفاعلاً يُبنى باستمرار ويغتني باستمرار… بل هي صارت بعرفهم جوهراً مطلقاً أحاديا واحداً مؤدلجاً متحفّزاً متوتّراً إلغائياً إقصائياً إستئصالياً…
.. إن المشكلة تكمن بالتحديد في استراتيجيات بناء الهوية (وتدخل تحت هذا البند ما نسميه في لبنان الطائفية السياسية) وهي استراتيجيات سياسية تندرج في إطار الصراع للوصول إلى السلطة أو للدفاع عن سلطة قائمة أو لتوزيع جديد للسلطة… وتعطي الطوائف اللبنانية مثالا ساطعا على هذا الأمر: فلئن كانت نقطة انطلاق الطوائف في الأصل تجمعات عبادة دينية أو مذهبية خاصة (الشيعة ، الموارنة ، الدروز ، العلويون، على سبيل المثال لا الحصر..) فان عامل العبادة لم يعد هو الذي يحافظ على تماسك الطائفة ولا هو الذي يحيي نشاطها أو يحدد أهدافها. ولم يعد التعلق بمضمون العقيدة الدينية الأصلية الذي كان في أساس نشأتها هو ما يؤمن تماسك الطوائف اللبنانية ، بل انه ذلك الشعور فيما بين أبناء الطائفة الواحدة بارتباطهم الواحد بالآخر برباط الدين ، وهو ما ينمّي عندهم أيضا إحساسا بالفرادة والخصوصية..ويتعزز التماسك الطائفي هذا من جراء سيادة الزواج اللحمي فيما بين أبناء الطائفة الواحدة.. وهكذا فان الدين يؤدي هنا دورا شبيها لذلك الذي أسنده ابن خلدون إلى الأنساب القبلية: “النسب أمر وهمي لا حقيقة له: ونفعه إنما هو في هذه الوصلة والالتحام”.. أي أن المهم هو الثمرة أو النتيجة وهي الالتحام.. والعامل الرئيسي إذن في ديمومة وتماسك الطائفة كما القبيلة إنما هو الالتحام وليس العبادة أو النسب.. فالعقيدة الدينية تلعب في المحافظة على الطائفة الدور الذي يلعبه النسب (أو التوهم به حسب ابن خلدون) في المحافظة على القبائل… (انظر دراسة نواف سلام:مدخل إلى مفهوم الطائفة في لبنان – ضمن كتابه عن الحالة اللبنانية- بالفرنسية…).. وتسعى الطوائف إلى إثبات نفسها والى تأبيد دورها من خلال تواريخ أسطورية وقصص وأساطير تعطي لاستمراريتها معنى وتكسبها شرعية (راجع احمد بيضون:كتابه الصراع على تاريخ لبنان – بالفرنسية…).. فلم تعد الطوائف تستمد ديناميكيتها من تقوى إفرادها أو علم وفقه وورع مراجعها، أو انضباطها بموازين الشرع.. لا بل أن التركيز على التزام ممارسة بعض الشعائر والطقوس غالبا ما يكون القصد منه التأكيد على الهوية الطائفية الجماعية (شكل من أشكال النرجسية الجماعية نجدها بالملموس في احتفاليات عاشوراء وطقوس الزيارات الشيعية وغيرها إلى مقامات الأئمة والأولياء ، كما في الزيارات والمزارات العجائبية المارونية المتكاثرة) ، في حين أن الديناميكية الحقيقية للطوائف ترتكز على العصبية بمعناها الخلدوني والتي حللها محمد الطالبي باعتبارها (أي العصبية)” مزيجا نفسيا-سوسيولوجيا هو في الآن نفسه قوة تماسك الجماعة ، وشعورها بخصوصيتها ، ووعيها لطموحاتها الجماعية ، كما هي تعبير عن ذلك التوتر الذي يحركها ويدفعها تدريجا ومن دون أن يكون لها حرية الاختيار نحو السيطرة على السلطة”…إذن فان ما يحرك الطوائف ليس الدعوة الدينية (نشر إيمانها أو عقيدتها أو هداية الناس) وليس التدين والتقوى الفردية، وإنما هي العصبية التي غايتها السلطة… وبتعبير ابن خلدون نقول: ” اعلم أن الملك (أي السلطة) غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه”…فالطائفة اليوم هي “كيان سياسي-معنوي-حقوقي ذو سلطة سيادية على إقليم محدد وعلى شعب بعينه”..وهذا الكيان السيادي السلطوي يمتلك أيضاً ما تفتقر إليه دولتنا :”الحداثة” !! جماعاتنا الطائفية تقودها على المستويات العملية التنفيذية نخب شابة متعلمة متمرسة خبيرة في شؤون الحرب والسياسة والإعلام والتعبئة والتنظيم والمال الحلال والإدارة.. وهي تمتلك مؤسسات قوية فعالة تغطي مناحي الحياة اليومية كافة ومناشط الفرد والجماعة بكل تفاصيلها..وهي مؤسسات أثبتت أنها أنجح وأكفأ من كل مؤسسات الدولة البيروقراطية المترهلة والمفككة والشبحية في آن..وحداثتها لا تعود إلى حسن استخدام التكنولوجيا كالانترنت والفضائيات وإنما أساساً إلى حسن الإدارة الناجحة للموارد وكيفية تعبئتها وتنظيمها وإلى حسن الترتيب والتوزيع للفروض والواجبات والمسؤوليات وللتسلسل الهرمي بدءاً من الولي الفقيه وانتهاء بحاجب الخدمة عند باب المنار…فهذه الإدارة التعبوية هي أكثر ارتباطاً بالناس من جهة المذهب والدين والقربى العشائرية ووسائط التعبير والاتصال والتواصل والتوصيل من شعارات وملصقات وأناشيد ولطميات إلى مساجد وحسينيات وحج وزيارات ومناسبات شبه يومية… وهي أكثر تعبيراً عن مصالحها ومتطلباتها وفق المفهوم الماوي الشعبوي الذي ورثته والذي يفوق “المجتمع المدني” لجهة كونه حركة اجتماعية وحزباً سياسياً ومنظمة نقابية وائتلافاً عشائرياً الخ…..والإفراط في استخدام الموروث الديني والعقائدي لا يعني إغراقاً في الماضوية والطوطمية الغابرة بقدر ما يعكس دوراً حداثوياً يعيد تأسيس اللحمة الاجتماعية في زمن العولمة المتوحشة المفككة والمدمرة للخصوصيات المحلية وللأشياء الحميمية ..فالتكوينات الطائفية هي الأكثر التصاقاً بتجمعات الشباب في مجتمعات تنهشها البطالة والهامشية في أحياء عشوائية تغلي فيها مراجل الغضب والتمرد والعنف..التكوينات الطائفية هي التي تبني اليوم ثقافة اجتماعية جديدة (بغض النظر عن رأينا فيها) تلبي احتياجات وتحديات زمن العولمة الذي حوّل ويحوّل المجتمعات الطرفية إلى عوالم هامشية والى قبائل وعصبيات متناحرة ..التكوينات الطائفية هي التي تلبي اليوم رغبات تلك الآلاف المؤلفة من النازحين والمهجرين من ريف يتحول إلى صحراء قاحلة،نحو مدينة يتكدسون فيها في بيوت وأكواخ من الصفيح والباطون البارد الفارغ في شوارع بهيمية لا روح فيها ولا حياة..التكوينات الطائفية هي التي تتعامل مع هذا الكم من الشباب العاطل المهمش التائه في صحراء المدن الكبيرة الفاقد ذكورته وأنوثته وكرامته وشرفه وحياته..يلبي له مشكلات حيرته الجنسية والثقافية والفكرية والغيبية وأماكن لهوه وحله وترحاله واستقراره النفسي والروحي والمادي والمعنوي :من شلة الأصحاب وفريق الكرة إلى المسجد إلى زواج المتعة إلى الانترنت إلى البطولة والأسطورة والغيب والحلم الوردي بجنة موعودة على أنقاض البؤس والفساد والذل.. وانتظاراً لما يأتي أو لا يأتي.. والتكوينات الطائفية هي التي تؤمن لهذا الشباب روح الفتوة والقوة وشعور الكرامة والعزة بعد سنوات الذل والمهانة بين أنياب الظلم والعدوان الإسرائيلي الأميركي أو على أعتاب الزعامات والإدارات البيروقراطية التي لا تنجز معاملة ولا تحفظ كرامة…الجماعة الطائفية هي القوة والقدرة والتمكن في مقابل العجز والفشل..هي المأوى والملجأ مؤطرة في جيش ينتظر الفرج..والشباب هنا هم ورثة نظام الفتيان والقبضايات والشطار والعيارين في المدن الإسلامية القديمة وفي التجربة الفارسية تحديداً والصوفية أيضاً في ارتباطها بشخصية الإمام علي فتى الفتيان وسيفه ذو الفقار… من فتيان علي في النبعة-برج حمود إلى تعبئة حزب الله وحرسه وبسيجه في الاوزاعي أو حي السلم.. ومن الزقرت والشمرت في النجف الأشرف مطلع القرن العشرين إلى حركة أمل في حي المصبغة أو حي اللجا أو خندق الغميق في يومنا هذا…
والجماعة الطائفية تعطي أبناءها هوية وانتماء أقوى وأعمق من هوية الوطن والدولة..من خلال شبكة الأمن والأمان التي تحصنهما بها..في ظل انهيار وموت دولة الرعاية.. فحين تغيب الدولة عن رعاية أمن الناس وأمانهم واستقرارهم وشغلهم ومعيشتهم وطرقاتهم وشوارعهم ومسكنهم وشبابهم وشيخوختهم …وحين تصير الدولة عنواناً للنهب والتشليح المالي دون العطاء والخدمة،دولة فرض لا رعاية، دولة قهر لا قانون وحماية،دولة مواطنها طافر وقاطع طريق ومطارد..ستنهض بكل تأكيد قوة الجماعة الطائفية كهوية جامعة مانعة وكانتماء يحمي ويصون..
والهوية تنبني انطلاقا من اّلية مزدوجة من التمايز والتماهي مع المحيط . والمحيط هنا هو عامل فاعل أولي في إدامة هوية خاصة (أي انه لا وجود للطائفة إلا داخل منظومة طائفية أي داخل حقل صراع على السلطة).. الهوية هي إذن وبشكل ما نتاج المجتمع والتراث الثقافي.. بعض العناصر قد تلعب دورا أكثر تعبوية واستثارة للهوية: الدين خصوصا..غير أن التركيز على العنصر الديني في بناء وتعبئة واستثارة الهوية لا يكون من باب الإيمان أو التقوى (لاحظ سنيّة المقاومة العراقية ، أو شيعية حركة أمل وحزب الله على سبيل المثال) بل من باب استراتيجيات الهوية واثبات الذات..وهنا يبرز شيوع التفسير النصي الحرفي للدين (السلفية الجهادية المعاصرة لأمثال الزرقاوي وجماعات القاعدة في المشرق والمغرب) أو انفلات المظاهر الشعائرية والطقوس الخارجية كمعبر للتمايز على حساب الجوهر الروحي للدين (احتفاليات عاشوراء كمثال وكل الرمزية الدينية التي يضفيها حزب الله-كما غيره- على أعماله ومؤسساته)..فالجماعة – الطائفة تتشكل من خلال استحضار شعائري- طقسي لذاكرة تاريخية محملة بالخصوصية التي تؤسطر الذات (في المكان والزمان) إلى حد القداسة (من قداسة جبل عامل وأهله إلى أرز لبنان ووادي قاديشا إلى الفلوجة ورمزيتها).. والأساطير المؤسسة للجماعات – الطوائف هي بحسب ميرتشيا إلياد حقائق حية وقصص حقيقية ثمينة وجوهرية نظرا لقدسيتها ومثاليتها النموذجية ومعناها الرمزي.فهي تشكّلّل أنموذجا للسلوك البشري وبذا تعطي معنى وقيمة للوجود.. أما مالينوفسكي فهو يصف الأسطورة ليس كتفسير أو كتعبير عن حشرية علمية بل كسرد – روائي يعيد إحياء واقعة أولية ، ويجيب في الآن نفسه على احتياجات دينية عميقة و على تطلعات أخلاقية ، وقيود وضوابط اجتماعية ، لا بل وحتى على متطلبات عملية (انظر استخدام عاشوراء في اتجاهين : لشحذ المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي أو لتأكيد التمايز الشيعي وترميز معنى غلبته).. وتبدو الطقوس الخاصة بجماعة ما وكأنها نظام اتصال وتواصل له نفس وظائف اللغة.. وبحسب رادكليف براون وكليفورد غيرتز وتيرنر وغيرهم من الانتروبولوجيين (خصوصا أولئك المتأثرين بمدرسة دوركهايم السوسيولوجية) فان للطقس وظيفة الدمج وبناء الهوية .. فهو يعزز الروابط ، ويؤطر ويقود المشاعر ، ويعطي قوة لمبادئ وأفكار ثقافة الجماعة ، وهو يحدد الأدوار الاجتماعية ، ويهيكل ويحفّز السلوكيات ، ويساهم في تركيز سلطة ما (انظر سلطة مجالس العزاء مثلا والتي يحتلها رجل الدين الشيعي عموما)..وللطقس وظيفة إعلامية تربوية إذ هو يجدد ويحيي العقيدة (إحياء أمر أهل البيت كواجب في إقامة طقوس عاشوراء) ويقونن المبادئ العامة لتكوين السلوك الفردي والجماعي ، ويبلور الشخصية الجماعية ، وأساسا يبلور الذاكرة الجماعية.. وفي عاشوراء كمثال فان الطقوس الاحتفالية (التمثيلية خصوصا) نقلت الواقعة الكربلائية من مجال التاريخ إلى مجال الذاكرة الجماعية.. حقا إن الذاكرة الجماعية تستوحي حدثا وقع في التاريخ إلا أنها تبسّط وتختزل هذا التاريخ ، وتقوم بتنقيته ، عبر الاسطرة والتحوير والتلفيق ، مستخدمة في ذلك لغة رمزية خاصة(راجع دراسة الشهيد مرتضى مطهري عن الملحمة الحسينية والتي طبعها حزب الله ثم عاقب احد كوادره لأنه أعاد تلخيص مضمونها في مقال صحفي… وانظر أيضا الدراسة المهمة للشهيد علي شريعتي:التشيع العلوي والتشيع الصفوي)….إن الرموز التي تستخدمها الذاكرة الجماعية محمّلة بالمعاني والدلالات.. والذكريات التي تستعيدها تلك الرموز هي في الغالب مشاعر جماعية عميقة وعنيفة… فهي لذلك مصدر للاتحاد النفسي – البيولوجي الذي يلحم الجماعة..
إن التذكر أمر يختلف عن التأريخ.. فهو ليس فقط عملية بيولوجية- نفسية وإنما هو أساسا عملية إيديولوجية- اجتماعية تخضع لمؤثرات البيئة والمكان والزمان، وقبل ذلك كله للإطار الثقافي – الإيديولوجي الناظم والمحدد، وأيضا وأساسا للمصالح المباشرة ، الفردية أو العائلية أو العشائرية أو الجماعية.. وهذه المصالح (الأهواء بلغة القراّن) تعمينا عن الحق والعدل إذ هي تؤطر رؤيتنا الذاتية كما الجمعية ، وتحدد تاليا ذاكرتنا الفردية والجماعية… ولعل هذا هو ما دفع علماء الاجتماع إلى القول بان الذاكرة هي بناء اجتماعي معد للاستخدام عند الطوارئ… إن اعتبار الذاكرة “حقيقة موضوعية مطلقة ومجردّة”، والمماهاة بينها وبين “التاريخ”، قد حوّل التاريخ إلى ذاكرة إيديولوجية مضخمّة انقسامية فارزة ومولّدة للحروب الأهلية… كما أن الاستخدام البراغماتي للذاكرة كخزان للمعلومات والمعطيات التاريخية يمكن تفريغه عند الطلب (عبر تذكّر أحداث معينة تستدعي التعبئة والتحشيد للمواجهة أو الحرب) ومن خلال الشعائر والطقوس والشعارات والإعلام والألوان والأعياد والمناسبات الخاصة ، قد جعل من كل جماعة عبارة عن: دولة|امة ، لها تاريخها الخاص وذاكرتها الجماعية ووجدانها وضميرها ، وقضاياها وهمومها وأولويتها الخاصة…ولذا فانه ينبغي التوقف عن اعتبار ذاكرتنا الخاصة (ذاكرة جماعتنا) هي “التاريخ”، أو هي ذاكرة الوطن أو الأمة… واذا لم نميّز بين الاثنين فسيضيع الفارق بين الواقع والخيال ، وبين الحقيقة والوهم، وبين التاريخ والايديولوجيا.. ولعل كارل ماركس كان على حق حين قال إن الايديولوجيا تتحول قوة مادية لا تقهر حين تمتلكها الجماهير… فما تمتلكه الجماهير بالضبط هو الايديولوجيا أي الوعي الزائف اللاعلمي (وليس المعرفة الصادقة والعلم الأمين للواقع).. فتتحول الايديولوجيا الجماهيرية إلى سلاح جبار ذي حدّين بفعل الاسطرة والقداسة .. إنها الايديولوجيا وقد تحولت دينا أو مذهبا أي عقيدة وتاريخا… وبما أن الأحداث الواقعية (أو التاريخ الفعلي) هي غير فهمنا وعيشنا وتفسيرنا لها ، وخصوصا في المجتمعات المنقسمة (لبنان ويوغوسلافيا على سبيل المثال) فانه من الشرعي والمنطقي في مجتمعات كهذه حدوث اختلاف وتباين في الرأي والنظر إلى الأحداث والوقائع وحول فهمها وتفسير خلفياتها ، وحول وجود “حقيقة أخلاقية موضوعية مطلقة و مجردّة”…وتزداد المشكلة تعقيدا بسبب ما درج عليه العالم من كتابة المنتصر للتاريخ وفق هواه وعلى حساب المغلوب أو المهزوم الأمر الذي ولّد ويولّد جراحا أعمق وشرارات لحروب أشرس..
حدث هذا الأمر مع الألمان مثلا في المرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وهو أنتج النازية… ويحدث ذلك اليوم في المجتمعات المنقسمة أو المتعددة الهوية والانتماء ، بعد انفجار الإيديولوجيات الاطلاقية وانهيار النظم الشمولية الأحادية ، القامعة أو الضابطة …ولعلنا نتذكر على الدوام عجزنا الطبيعي والمشروع عن إنتاج كتاب تاريخ موحد كما يطالب الأصوليون من كل حدب وصوب… ذلك أن فهمهم لكتابة التاريخ هو بالضبط الفهم الإيديولوجي الشمولي أي أن التاريخ هو ذاكرة جماعتهم، وهو مشروعهم الإيديولوجي في التأريخ لفكرتهم ولشعاراتهم، كما ولرؤيتهم للأحداث، وللماضي والحاضر والمستقبل… فلا يعود التاريخ حينذاك تاريخا اجتماعيا اقتصاديا سياسيا ثقافيا لبشر حقيقيين ولعلاقات بين هؤلاء البشر، وإنما يصبح تأريخا إيديولوجيا لفكرة ولمشروع وذاكرة مضخمّة لجماعة… إنها مرة أخرى الايديولوجيا أو الوعي الزائف أو التاريخ الموهوم والمستوهم والمفروض قسرا باعتباره واحدا موحدا (بالفتح) وموحدا (بالكسر)… الم يقل ماركس إن الايديولوجيا السائدة هي إيديولوجية الطبقة السائدة؟؟ إذن فالذاكرة والتاريخ المطلوب سيادتهما هما تاريخ الفئة المنتصرة أو الغالبة وذاكرتها، مما عنى و يعني إلقاء البذور لحروب أهلية مستديمة…. إن الادلوجة التاريخية ، القومجية الاقصائية الاستئصالية ، حين ترفض الاعتراف بأي ذاكرة جماعية أو هوية ثقافية أو حضور وجودي لأي آخر مختلف ، فإنما تحيله إلى تراث بائد والى متحف متنقل والى فولكلور ساذج لا يستقيم معناه ومبناه إلا من خلال الرضوخ للكل الأعلى (الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة)..
إن نفي الذاكرات الخاصة والثقافات المتعددة واللغات واللهجات والانتماءات والهويات لصالح فرض تاريخ إيديولوجي (أو ادلوجة تاريخية) لم يؤد إلى توحيد الأمة وبعثها وانتصارها بقدر ما أدى إلى استنفار العصبيات واستفزاز الهويات وتبلور المشاريع الانفصالية على قاعدة الظلم والغبن والإجحاف وبالاستفادة من العوامل الدولية الخارجية المساعدة… فلم يكن الأصل هو اندراج المشاريع الفئوية الخاصة ضمن إطار التدخل الخارجي بقدر ما انه كان نتيجة لأصل أولي هو الايديولوجيا القومجية الاستبدادية التي أحرقت الحرث والنسل والتي لم تعدو كونها في الحقيقة سوى الوجه الآخر للقومية البورجوازية الأوروبية الاستعمارية والغطاء المحلي لأبشع أنواع الطائفية والمذهبية والعشائرية والجهوية..الم تكن تلك هي البداية مع القومية التركية الطورانية ثم مع الحركة الصهيونية؟؟ الم يكن لنا في أمثلة أحزابنا وأنظمتنا ، خير شاهد على واقع الحال؟؟ فبعد قرن من “النهضة العربية – السورية” ، تكشّف الواقع عن تفتت وتجزئة وعن تفجّر للعنف وللمشاريع الخاصة وعن سيطرة للعلاقات العشائرية والمتخلفة أين منها دعوات العلمانية والتقدمية التحررية والحداثة والنهضة؟ ولقد كانت المحاولات المستمرة لكتابة تاريخ موحد للبنان على غرار التاريخ الموحد للبعث السوري أو العراقي أو للقذافية الليبية أو للادلوجة القومية السورية ، هي المعادل الفعلي للفاشية الاستبدادية الالغائية التي تعمل على فرض تاريخها ولغتها ..وما ينبغي إعادة التأكيد عليه هنا هو انه ليس من المعيب ولا ضير في امتلاك ذاكرة خاصة بجماعة ما ، أو محددات ومكونات هوية وانتماء لجماعة ما ، إنما العيب والضير هما في عدم القدرة على توليف تلك الانتماءات والهويات في مشروع حضاري إنساني تقدمي يحفظ الوطن والأمة.. فليس تاريخ لبنان استرجاعا للأساطير الفينيقية، ولا هو تأكيد على اصطناعية الكيان على حساب الفكرة القومية، انه تصالح على واقع وطني مستجد يبدأ مع لحظة التسوية التاريخية التي أوجدت الكيان… إن القبول بهذا التاريخ الرسمي للوطن وللأمة والشعب لا يعني بأي حال من الأحوال شطب التواريخ الخاصة والذاكرات المختلفة لا بل والمتغايرة للجماعات المكونة للاجتماع اللبناني ، وإنما إدراجها في منهج نظر واقعي للأحداث وللروايات المختلفة يرى إلى الاختلاف والتعدد كثروة إنسانية حضارية،والى البشر كفاعلين اجتماعيين ، والى التاريخ كسيرورة اجتماعية اقتصادية ثقافية…
…فمن المستحيل اتفاق اللبنانيين على تفسير واحد للأحداث التاريخية القديمة والحديثة على السواء ، والتي تكون هي المرتكز التأسيسي لشرعية أي جماعة أو فئة.. ومن المستحيل تماما تكوين ذاكرة واحدة لهذه التواريخ.. ولذا كان من السهل علينا القول إن الحروب الأهلية المتنقلة بين الإخوة-الأعداء والتي استمرت حتى 1991 كانت من نتاج المؤامرات الخارجية (دون أن نسأل عن سبب قابليتنا للوقوع في حبال الأجنبي والتي أسماها مالك بن نبي: القابلية للاستعمار، وأسماها علي شريعتي: القابلية للاستحمار). فنحن لم نستطع تفسير كيف يمكن أن نتفق على صراع البشيرين مثلا، أو على الإمارة المعنية (هل كانت نواة الكيان اللبناني أم أنها كانت مؤامرة استعمارية ضد الدولة العثمانية؟) أو حول إعدامات 6 أيار (شهداء أم عملاء؟) أو حول اغتيال رياض الصلح وإعدام انطون سعادة (من هو البطل ومن هو العميل؟) أو حول بشير الجميل (هل كان رئيسا للجمهورية أم لا؟ وهل قاتله بطل أم مجرم؟) ناهيك عن حروب المخيمات والتحرير والإلغاء وزواريب بيروت وطرابلس والضاحية وإقليم التفاح؟. ولا يجدي نفعا هنا تأكيدنا على رؤيتنا أو نظرتنا أو فهمنا لهذه الأحداث إذ أن ذلك يبقى من قبيل تفسير الماء بالماء طالما أنها لا تحرك أو تستثير نفس المعاني والمشاعر ولا تحمل نفس القيم والدلالات لدى طرفي الصراع..وقد يقول قائل هنا انه لا يمكن المساواة بين الحق والباطل أو بين الوطني والخائن، ولكن من الذي يحدد الفيصل بين الحق والباطل والفارق بين الوطني والخائن وما هي المعايير الناظمة والضابطة والمكونة لرؤيتنا الوطنية أو القومية؟؟ هل هي قرارات وبيانات حزبنا أو ذاكرة جماعتنا؟؟
لقد سبق لنا ذكر قول بورديو: “إن كيفية تسمية الأشياء تعني إيجادها بطريقة مختلفة” (ومرة أخرى التذكير بالمقولة القرآنية الرائعة: إن هي إلا أسماء سميتموها..)… إن الصراع حول التاريخ والذاكرة وحول المعنى والدلالة ليس بالأمر البسيط أو المستسهل : انه اخطر ما يواجهنا في عملية انجاز المصالحة وطي صفحة الحرب الأهلية وبناء الدولة.. فلو فرضنا أن ما نعتقد به هو الحق وهو الوطنية، فإننا لا نحل مشكلة أننا نريد (اختيارا أم اضطرارا) العيش مع الآخر، الذي نختلف معه، كشركاء في وطن واحد وفي ظل دولة واحدة نريدها عادلة ومتوازنة… فكيف سنتعايش مع هذا الآخر الذي يرى الأحداث التاريخية التي عاشها من منظار مختلف؟ وكيف سنتصالح مع ذاكرته او كيف سنجعله يتصالح هو الآخر مع ذاكرتنا؟؟
وأولى القضايا التي تواجه اللبنانيين (والمسلمين منهم بالأخص) هي فهمنا المحدد لمعنى العفو والمصالحة ولمعنى طي صفحة الماضي..وبالتالي فهل نستطيع التعامل مع ذاكرة الآخر باحترام ومحبة؟؟ لقد تصالح المسلمون مع الفكرة اللبنانية ومع صيغة الكيان-الوطن النهائي واقروا ذلك في وثيقة الطائف والدستور(وهذا عهد مسوؤل)… غير أنهم لم يتصالحوا بعد مع الذاكرة الكيانية-المسيحية اللبنانية (وما زالوا يرونها انعزالية ومعادية للأشقاء العرب).. وتصالح المسيحيون مع فكرة العروبة الحضارية (في عودة إلى دورهم التاريخي في سياق النهضة المبكرة) غير أنهم لم يتصالحوا بعد مع الذاكرة التاريخية للهموم والقضايا العربية التي ما زالت تحرك عواطف ومشاعر المسلمين… وليست هكذا مصالحات ضرورية لقيام واستمرار الكيان السياسي للدولة والوطن فقط إنما هي أكثر من ضرورة لتنقية الذاكرة ولإعادة تأهيل كل طائفة وكل جماعة ، وذلك من خلال احترام الذاكرة الخاصة بكل فئة ومحبة تلك الفئة من خلال العفو والمصالحة مع الحاضر والبناء عليه للمستقبل…… حينذاك نخرج من جحيم الذات إلى نعيم الآخر والآخرة………………..
عن العيش المشترك: في جحيم الآخر
بري وشلته يريد تدمير لبنان لجعلها مضغة بيد ملالي ايران المتشددين وتهجير الشعب اللبناني الحر .علمنا تاريخ المنطقة التي تتفسخ نتيجة المكابرة والاستمرار في التخلف والفقر والذل بانها كلها شعارات وزعيق وكلها مسرحيات وصفقات مدمرة لشعوب المنطقة ولا يمكن ان تسمح الانظمة الشمولية او الحزب القائد المخابراتي بنظام ديمقراطي يحترم الانسان في العالم العربي لانهم يعتبرونهم قوم (انهم قوم يتطهرون) فالقضية حياة او موت سريع للانظمة الديكتاتورية الشمولية لان الامة اصلا ستموت اذا لم تطبق العدل واحترام الانسان.