نتابع عرض أهم أفكار “رينيه جيرار” في كتابه الجديد “اكتمال كلاوزفيتز”:
العقل والإيمان
نجح التنويريون في نصر عقلانية (raison) معينة، لكن كاثوليكية ما بعد الثورة الفرنسية تدافع عن عقلانية أخرى، وخطاب البابا بينديكت في جامعة راتيسبون (Ratisbonne) هو تتويج واضح لهذه الحركة. ولا تهدف النظرية المحاكاتية سوى إلى دفع تلك العقلانية قليلا.
لكن هل كان خطاب راتيسبون، الذي أثار ضجة كبيرة، زلة لسان منه؟
لقد قال البابا ما يجب عليه أن يقول، وفعلها بشجاعة. قال أنه إذا لم نأخذ الحذر فإن حرب العقل ضد الدين قد تلي حرب الدين ضد العقل. وقال أن فصل الإيمان عن العقل يختزل الإيمان في العقل العملي “ويجعلنا نتيه اليوم في قلب أمراض (pathologie) الدين والعقل التي تهددنا، والتي ستنفجر حتما هناك حيث انكمش العقل لدرجة أن إشكاليات الدين والأخلاق لم تعد تهمه”.
الحقيقة المسيحية تواجه اليوم “دينين” مرعبين يتحفزان الواحد في مواجهة الآخر: العقلانية والإيمانية (fidéisme = الاعتقاد بأن الحقيقة لا يمكن معرفتها بالعقل بل بالإيمان والرجوع إلى التقليد (؛ وهذا وضع يشبه ازدواجية الانهزامية والدعوة للحرب أثناء الحرب العالمية الثانية. هذا الإضعاف للعقلانية يأتي، طبقا لبنديكت، نتيجة اختزال ثلاثي للعقل المشترك وبالتالي للإنسان ذاته: اختزال العقل في صورته العملية المحضة، واختزاله في فكرة تجريبية رياضية للعلم؛ وإخفاء ما هو إغريقي (هلليني) في الأناجيل لصالح ما هو عبراني فقط. هذا النفي للهلليني يضعف العقل الغربي. هاهو بابا كاثوليكي ألماني يحذر أوروبا من فقدان ما هو إغريقي!!
فقط لاهوتٌ عقلانيٌ سيجعلنا قادرين على حوار ثقافات وأديان حقيقي نحتاجه بصورة عاجلة. وأعتقد شخصيا أن مثل هذا الحوار لا معنى له إلا إذا واجه بين المسيحية والديني العتيق (أركائيك) في مجمله. إنه ليس العقل الذي يجب أن يواجه الديني، بل شكل ما من الديني هو الذي يجب أن يواجه شكلا آخر. وأشارك البابا في أن أي حوار بين العقل والإيمان يجب أن يكون عقلانيا.
يحذرنا البابا ضد كون العقل الهيلليني في طريقه للاختفاء، وأن هذا الاختفاء سيترك الساحة مفتوحة للاعقلانية منفلتة. إنه يضع الإصبع على نقطة أساسية: احتقار الديني بواسطة العقلانية ليس فقط سيؤدي (لإعادة) تأسيس العقل في داخل الدين، بل سيمهد الطريق للديني المتزمت. نعرف الحرب التي قام بها العقل ضد الدين ورأينا أنه لم ينتصر وأن الإيمان مازال يقاوم. لكننا لا نعرف أن “أمراض الدين” باتت هناك، مثل ذاك الرد العنفي للإيمان الذي يتم التبشير به باستخدام السيف.
لو كان هناك شيء واحد لا تستطيع المسيحية انتهاكه فهو حرية رفض المسيحية. وقد تأكد هذا خصوصا بعد المجامع الحديثة.
لا نرى اليوم إمكانية وقف التصعيد نحو القصوي الذي يبدو حتميا. ولذا هناك رسالة أساسية يجري إعلانها: الحاجة العاجلة إلى التصالح. ولا يمكن سوى التحذير ضد أخطار عقلانيتنا ضيقة الأفق عن طريق التأكيد بأن صراع العقل ضد الإيمان يعرضنا إلى عودة مثيرة للقلق لصراع الإيمان ضد العقل.
“الإمبراطورية” تريد السلام على شروطها؛ أي التسلط. إنه السلام المبني على الاستبعاد والإقصاء. ولكننا نعرف، بفضل كلاوزفيتز، أن هذا موقف ضعف؛ إذن سيستمر الصراع وسيتضاعف العنف (لتعويض الضعف). إنها إمبراطورية العنف المطارَدة! وهي تصاب بالجنون أكثر، لأن الحق المسيحي يفرض نفسه بصورة تامة.
يمكن، بأثر رجعي، تفهم لماذا تصارع الأباطرة منذ شارلمان حتى أوثون الأول مع البابوية حول التسلط على أوروبا وكيف انتهي الصراع بإعطاء الباباوات الأهمية الروحية التي يعرفونها اليوم. الأمر كان مختلفا في الإمبراطورية البيزنطية حيث سيطر الزمني، لأسباب معقدة، على الروحي. الباباوات، بعكس بطاركة الشرق، قاوموا الإمبراطورية، وقاومت الإمبراطورية الباباوات!
دانتي شعر أن روما حققت نهاية التاريخ وأن الحروب لن تعود تحقق شيئا. فقد ظن، بسذاجة تشبه هيجل، أن الناس يجب أن يتقبلوا عدم التصارع وعدم التطلع للتسلط.
كان من الضروري مرور ألف عام من الاحتكاكات حتى تضعف الفكرة الإمبراطورية وتفرض عمومية (universalité) الحق المسيحي نفسها. التوسع الحالي للاتحاد الأوروبي، بعيدا عن كل الادعاءات الإمبراطورية، يفتح حقبة بغير مثيل حتى لو كانت تتصف بالهشاشة ـ التي هي قوتها في نفس الوقت! الفكرة التي تعبر عنها أوروبا وتمتد لباقي الدول هي وجود هوية، ذات طابع إلهي، لكل الناس.
حوار الأديان
الحوار مع الإسلام لا يمكن أن يحدث إلا على أسس لاهوتية وأنثروبولوجية في نفس الوقت. طريق الخروج من تبادلية العنف بين العالمين الإسلامي والمسيحي، اللذين يُقرِّب ويُبعد بينها كل شيء في نفس الوقت، هو بعدم التنازل عن نوع معين من العقلانية، كما قال البابا في راتيسبون: [الله لا يتلذذ بالدم، وعدم التصرف طبقا للعقل هو مناقض لطبيعة الله. الإيمان ثمرة النفس وليس الجسم. من يريد جلب شخص ما نحو إيمان ما يجب أن يكون قادرا على الكلام والتفكير بطريقة عادلة ولا يلجأ للعنف والتهديد. في سبيل إقناع نفس عاقلة، لا يحتاج أحد لاستخدام الذراع ولا أي وسيلة عنف أو تهديد بالموت…]
يشيد البابا بالسبعينيين السكندريين الذين ترجموا العهد القديم للإغريقية في القرنين الثالث والثاني ق. م. إذ سمحوا بهذا اللقاء بين الإيمان والعقل. ثم يؤكد على التشابه بين العقل الإنساني والإلهي: [الإله الحقيقي هو الإله الذي أظهر نفسه كـ “لوجوس” (الكلمة) والذي، كلوجوس، يعمل لأجلنا بحب].
يُرجع بنديكت المسيحية إلى الأصل الإغريقي واليهودي؛ العقلاني والتوحيدي. ويؤكد على ضرورة عاجلة لعلاج ثلاث لحظات هزت وأضعفت هذه الوحدة الأصلية: موجة الإصلاح الديني، حتى الفيلسوف كانت، التي حصرت الإيمان في العقل العملي؛ موجة اللاهوت الليبرالي في القرنين 19 و20 التي انحازت للنموذج التجريبي (الأمبيريقي)، جاعلة من يسوع “مجرد صاحب رسالة أخلاقية إنسانية”؛ والتوجه الحالي الذي يحاول “إخراج العهد الجديد من الجذور الإغريقية” ـ هذا بينما العهد الجديد في الواقع مكتوب باليونانية ويحتوي بداخله على التواصل مع الفكر الإغريقي، الذي كان قد نضج قبلها عبر تطور العهد القديم.
ومن هنا البعد الأوروبي بالأساس لخطاب البابا الذي رفض البعض استماعه: إذا تأملنا في هذا التلاقي (للإغريقي واليهودي) لن نندهش لأن المسيحية، بينما كان لها أصولها وتطوراتها الهامة في الشرق، وجدت شكلها الحاسم في أوروبا. ويمكن أن نقول العكس أيضا: هذا التلاقي، الذي يمكن أن نضيف إليه تراث روما، قد خلق أوروبا ويبقى الأساس لما نسميه حقا أوروبا. أي إن هذا التحول للإغريقي بواسطة المسيحي هو الذي أنتج أوروبا وحضارتها.
هكذا تتضح بداية خطاب بنديكت الذي أثار الضجيج، لأن الكثيرين أرادوا أن يروا فيه رفضا للإسلام. بينما هو يشير فيه إلى “الحوار حول المسيحية والإسلام وحول حقائقهما”، وهو ما سبق أن أشار إليه الإمبراطور والعالم البيزنطي مانويل الثاني ﭙاليولوج في سنة1391. يلفت البابا النظر إلى الأسلوب المباغت (الجاف) بصورة تدعو للدهشة الذي تحدث به الإمبراطور لمحاوره الفارسي قائلا له: [أظهِر لي ما جلبه محمد من جديد ولن تجد، فيما أمر به بنشر الإيمان الذي بشر به بالسيف، سوى الرديء واللاإنساني].
فلنؤكد على أمرين: أولا، أنه حوار، يؤكد البابا على ضرورته القصوى، بين مسيحي ومسلم. ثانيا، التنبيه إلى الطابع المباغت وغير المقبول لكلام الإمبراطور. فالحوار يجب أن يقوم على احترام الآخر، ولكنه يجب أيضا أن يكون حازما. البابا يعارض كل أشكال الإكراه في أمور الإيمان ويؤكد مع الإمبراطور على أن الله لا يتلذذ بالدم….
التصعيد العنفي الحديث
الإرهاب اليوم هو، في الأساس، استِعار للحرب الشاملة بالمعنى الهتلري أو الستاليني: أي حربٌ لا يوجد فيها جيش شرعي، بل فقط محاربون مستعدون لأي شيء.
كارل شميت عنده حق في التفكير بأن مجرد عدم الاختيار بين الحرب والسلام يؤدي إلى استشراء للمرض (métastase) بصورة لا يمكن الشفاء منها. لكنه يقلل من أهمية استغلال التكنولوجيا (والحداثة). لم ير أن الإرهاب “الديموقراطي” والانتحاري سيحول دون “احتواء” الحرب. العمليات الانتحارية هي ارتكاس وحشي نحو التضحيات البدائية: بدلا من قتل بعض (الضحايا) من أجل تخليص الآخرين، يقتل الإرهابيون أنفسهم لقتل الآخرين. هذا عالم مقلوب أكثر من أي شيء سابق، إذ دخلنا في عصر العداءات العامة التي لا يمكن التنبؤ بها.
يمكن القول أن هناك اليوم حروب أقل مما كانت عليه بالأمس، ذلك لأن مؤسسة الحرب قد “ماتت”، ولكنها استُبدل بها مظاهر العنف العام الذي لا يمكن توقعه. يجب فهم أن هذه اللاتوقعية للعنف أمر جديد، أدخلنا في عالم التبادلية المحضة الذي توقعه كلاوزفيتز. حيث نتجه نحو شكل راديكالي تماما للحرب.
هل يشمل تحليل نصوص كلاوزفيتز الإرهاب الإسلامي؟
أمكن لنا معرفة رؤيته حول “الديانة الحربية” التي سمحت بالحروب الأيديولوجية. لقد أصبح التصاعد العنفي للقصوي أمرا عالميا. نحن في وضع جديد تماما منذ 11 سبتمبر. حرب بوش “العادلة” تنعش حروب (الإسلام)، التي هي أشد قوة لأنها بالأساس دينية. لكن الإسلاميزم ليس سوى عرض لتصاعد العنف الكوكبي. هذا التديين المتبادل للحرب (الشيطان الأكبر ـ قوى الشر) هو مرحلة جديدة في التصعيد.
لم أقرأ ما كتبه محمد عطا، ابن البرجوازية المصرية. ما هي مشاكل ودوافع هؤلاء الناس؟ ماذا يعني الإسلام بالنسبة لهم؟ ماذا يعني قتل النفس من أجل هذه القضية؟
الإرهابيون لديهم كل الوقت، ومفهوم الوقت عندهم يختلف تماما عنه لدينا. هذه علامة واضحة على عودة العتيق (الأركائيك): عودة للقرون السابع إلى التاسع.
سوف نتعرض لما هو أسوأ في المستقبل: بعد 11 سبتمبر حدثت ومضة وعي، ثم خيم الصمت على ذاك الذي هدد شعورنا اليقيني بالأمن. فالعقلانية الغربية تتمسك دائما بالرغبة في عدم رؤية الكارثة. لكن لا يمكننا الرد على تحدي العنف بدون تغيير راديكالي في أساليب تفكيرنا. هذا الشكل للعنف جديد لدرجة أننا لا نعرف كيفية التعامل معه. إنه شكل لما لاحظه باسكال: حرب العنف ضد الحق.
يجب أن ندخل في أسلوب تفكير تصبح فيه ﭙواتييه والحروب الصليبية أقرب إلينا كثيرا من الثورة الفرنسية وعصر التصنيع.
تمثل وجهات نظر الدول الغربية بالنسبة للإسلاميين ديكورا بلا أهمية. إنهم يرون الغرب كعالم يجب أسلمته بأقصى سرعة. يقول محللون أن الإسلاميين أقلية معزولة وغريبة تمام عن واقع بلادهم. هم بالطبع كذلك من وجهة نظر الفعل؛ لكن ماذا عن الفكر؟ أليس هناك، رغم كل شيء، أمر هو بالأساس إسلامي؟ هذا سؤال يجب أن تكون هناك الشجاعة لقوله خصوصا وأن الإرهاب هو فعل وحشي يستخدم النصوص الدينية لصالحه. وليس من الواضح أن مثل هذه الكفاءة في اختراق الضمائر كان يمكن أن تنجح ما لم يكن الأمر موجودا على الدوام في الإسلام.. ولا يمكن إنكار أننا نعثر اليوم مرة أخرى على بعض أطروحات محمد.
لو كنا قلنا للناس في الثمانينيات أن الإسلام سيلعب الدور الذي أصبح يلعبه الآن لاتُهمنا بالجنون. لكن ما نراه في الإسلاميين هو أكثر بكثير من مجرد العودة إلى عصور الغزوات، إنه التصعيد الثوري بعد المشهد الشيوعي: فقد كانت اللينينية تحتوي على العديد من هذه العناصر الثورية، لكن كان ينقصها “الديني”.
أوروبا لم تكن سهلة التطويع أيام نابليون. لكن بعد الشيوعية أصبحت مجالا أسهل على الاختراق بكثير. كان الفتح العربي سريعا وصاعقا، بينما تمت فرملة عدوى الثورة الفرنسية بواسطة مبدأ القومية. الإسلام في انتشاره التاريخي الأول، غزا دينيا؛ وهذا ما صنع قوته. ومن هنا صلابة الغُرَس (implantations) التي زرعها.
التصعيد حتى القصوي يمكنه إذن استخدام كافة الوسائل: الثقافة، نظرية الدولة، الأيدولوجية، الدين. وما يحرك التاريخ ليس دائما ما يبدو أساسيا في أعين العقلاني الغربي. أعتقد أن المحاكاتية هي المحرك الحقيقي في الخليط غير المتوقع الحالي.
محاولة لفهم الإسلاميزم
يجب إذن أن نغير بصورة راديكالية أساليب تفكيرنا ومحاولة فهم هذه الأحداث بكل الوسائط التي يمكن أن توفرها الدراسات الإسلامية. الحقل هائل. شخصيا لدي انطباع بأن تلك الديانة استندت إلى تراث العهد القديم لخلق ديانة عتيقة (أركائيك) أكثر قوة من كل الديانات الأخرى. وهي تهدد بأن تصبح أداة لكارثة نهاية العالم (أبوكاليبتية)، أي الوجه الجديد للتصعيد نحو القصوي. كان العتيق (الأركائيك) قد اختفى، إذ حيثما دخلت المسيحية قضت على التضحوي، بينما يبدو الإسلام، من عدة نواحي، وكأنه يقع فيما قبل هذا الرفض للتضحوي (..) ولكنه أيضا يتصرف كديانة جديدة (أي غير أركائيك) وهو ما لا يمكن إنكاره.
مهمة مؤرخي الأديان والأنثروبولوجيين هي تبين كيف ولماذا جاءت. لأنه يوجد في هذه الديانة علاقة لا نفهمها مع العنف وهو، بالضبط، ما يثير القلق. بالنسبة لنا يستحيل فهم أن يكون الشخص مستعدا لدفع حياته ثمنا للاستمتاع برؤية شخص آخر يموت. لا نعرف إن كان هذا ينشأ عن سيكولوجية معينة. لا يمكننا إذن الكلام، بل ولا حتى التوثيق (التاريخي) لأن الإرهاب يشكل وضعا جديدا غير مألوف يستخدم النصوص الإسلامية، ولكنه في نفس الوقت ليس نتاجا للإسلاميات الكلاسيكية. الإرهاب الحالي جديدٌ، حتى لو كان إسلاميا. إنه جهد حديث لمجابهة الأداة الأقوى والأكثر تقدما للعالم الغربي: تكنولوجيته. ويقوم به بصورة لا نفهمها، وربما لا يفهمها حتى الإسلام التقليدي.
التفكير الدفاعي ضد هذه الظاهرة ليس بالضرورة رغبة في الفهم. بل غالبا ما تكون رغبة في عدم الفهم، أو في طمأنة النفس. كلاوزفيتز يمكن دمجه في تطور تاريخي معين ويعطي لنا أداة عقلية لفهم التصعيد العنفي. لكن أين نجد مثل هذه الأدوات بشأن الإسلاميزم؟ الاستياء والضيق في العالم الحديث لا يذهب إطلاقا لحد الانتحار؛ لا توجد لدينا إذن سلسلة التناظر التي تمكننا من الفهم.
الإرهاب (الإسلامي) هو عنف يشعر بالتفوق ويؤكد دائما أنه سينتصر. لكن لا يمكن القول بأن العمل الذي ينبغي القيام به لتحرير القرآن (…) سيكون له أي تأثير على ظاهرة الإرهاب في حد ذاتها، والتي هي في نفس الوقت مرتبطة به ومختلفة عنه. يمكن إذن القول، بصورة مؤقتة تماما، أن التصعيد للقصوي يستخدم الإسلام اليوم كما استخدم أمس النابليونية أو القومية الألمانية (بانجيرمانية). الإرهاب مخوف حقا بقدر معرفته الاستفادة من التكنولوجيات الأكثر فتكا، والقيام بذلك خارج المؤسسات العسكرية (التقليدية).
كنت قد استعرت من القرآن في كتابي عن “العنف والمقدس” فكرة أن الكبش الذي افتدى اسحق هو نفس الذي سبق أن أُرسل لهابيل لكي لا يقتل أخاه، رهانا على أن التضحوي يُفسَّر فيه أيضا بكونه وسيلة لمناهضة العنف. يمكن أن نستنتج أن القرآن قد فهم أشياء لم تفهمها العقليات العلمانية، وهي أن التضحية تمنع الانتقام. لكن هذه الإشكالية اختفت في الإسلام بنفس الطريقة التي اختفت بها في الغرب. المشكلة هي أن الإسلام أقرب إلينا اليوم من عالم هومير. وقد ساعدنا كلاوزفيتز في العثور عليه من جديد عبر ما أسميناه “الديانة الحربية”، حيث رأينا شيئا جديدا تماما، وفي نفس الوقت بدائيا تماما، يظهر. يجب إذن التفكير، بنفس الوقت، في الإسلاميزم والتصعيد العنفي نحو القصوي.
القرون الوسطى أنتجت الحروب الصليبية، التي سمحت بها البابوية. لكن تلك الحروب ليس لها الأهمية التي يتخيلها العالم الإسلامي. لقد كانت انتكاسة (محاكاتية) نحو العتيق (أركائيك) بدون أي نتائج تابعة على مجمل المسيحية. فالمسيح مات في كل مكان ولأجل كل الناس (إذ يفضح النظام التضحوي).
تصوير اليهود والمسيحيين في الإسلام على أنهم محرِّفين، يبقى مستعصيا على العلاج. إنه يسمح للمسلمين باستبعاد كل مناقشة جدية وكل منهج مقارن بين الديانات الثلاث. لماذا خضع الوحي المسيحي لقرون من النقد المعادي والشرس بينما لم يحدث هذا إطلاقا للإسلام؟ سيستفيد القرآن من دراسته كما حدث للنصوص اليهودية والمسيحية: قد يبين منهج مقارن إذا ما كان هناك وعي بقتل جماعي.
لكن هناك، من جهة أخرى، وعي مسيحي بهذا القتل. وقد فهم المسيحيون أن الصليب قد جعل القتل الجماعي بلا فائدة. ولهذا فبدلا من تقليل العنف، تسبب الصليب في مضاعفته. الإسلاميزم ربما فهم هذا مبكرا، بمعنى الجهاد.
لدينا انطباع بأن الإرهاب الحالي هو وريث النظم الشمولية (التوتاليتارية) وأن هناك أساليب تفكير مشتركة وعادات مأخوذة. لقد تتبعنا أحد خيوط الاستمرارية مع تشكيل النموذج (الحربي) النابليوني الذي استخدمه فيما بعد لينين ثم ماو تسي تونج، ويقال أنه انتقل لتنظيم القاعدة. عبقرية كلاوزفيتز هي في توقعه قانونا أصبح عاما.
لقد وصلتُ إلى نقطة أعترف عندها بالاعتقاد في وجود هذه الحرب الأساسية بين الحق والعنف. كان لديّ دائما أن العنف يشارك بقداسة (sacralité) متدهورة بصورة متزايدة، وذلك بفعل تدخل المسيح الذي جاء يضع نفسه في قلب النظام التضحوي. الشيطان هو الاسم الآخر للتصعيد للقصوي، والعنف الشيطاني هو رد فعل تلك القداسة التي هي محرك رئيسي للديني العتيق.
الله أظهر نفسه في المسيح. ويكشف التصعيد القصوي، بصورة عكسية، قوة هذا التدخل الإلهي؛ لكن الناس لا يريدون رؤيته. إنهم يسعون لانهيارهم الذاتي لأنهم قادرون على تخريب عالمهم. من جهة المسيحية، الأمر ليس مجرد إدانة أخلاقية، بل تقرير أنثروبولوجي لا مهرب منه. يجب إذن إيقاظ الوعي النائم لأن محاولات الطمأنة هي دائما مشاركة في تحقيق الأسوأ.
ومنذ الآن، لم يعد “كبش الفداء” هو الذي سيُحكم عليه بكونه مذنبا، بل الإنسانية ذاتها هي التي سيحكم عليها بواسطة التاريخ. إذن نحن ندخل في منظور آخروي (اسخاطولوجي)، وهو الوحيد اليوم الذي يمكنه تنوير رؤيتنا.
ضرورة المصالحة
آجلا أو عاجلا، إما أن يتخلى الناس عن العنف بدون اللجوء لتقديم تضحية، أو أنهم سيفجرون الكوكب.
تأجيل العنف لا يعني واقعيا التخلي عنه، بل زيادته فيما بعد. ويجب أن نفكر في المصالحة ليس كأمر تال للتصعيد القصوي، بل كنقيض له. إنها هناك، كإمكانية حقيقية، لكن أحدا لا يريد رؤيتها. الملكوت هنا، لكن عنف البشر يحجبه أكثر فأكثر. هذا هو تناقض عالمنا.
المسيح يضع الإنسانية أمام خيار رهيب: إما الاستمرار في رفض رؤية أن المبارزة (duel) تتسلط بصورة تحتية على مجمل النشاطات الإنسانية، أو الخروج من ذلك المنطق نحو آخر: الحب والتبادلية الإيجابية (réciprocité positive). يجب ملاحظة كم تتشابه التبادليتان: إذ تكادا تكونان من نفس النوع من حيث عدم التفريق أو التمييز (indifférenciation)، ومع ذلك فبين الواحدة والأخرى (القتل أو الحب بدون تمييز) يكمن خلاص العالم.
هذا هو التناقض الظاهري الذي علينا فهمه!
adel.guindy@gmil.com
* كاتب مصري – باريس
العلمانية اكلت ربها بصراحة يا استاذ عادل اكثر ما شدني بمقالك هو العنوان .. واما المحتوى فكثير منه لا يزيد عن كونه علفا فكريا ..واردت ان استغل العنوان .. لاكتب عن موضوع الساعة ..العلمانية والاسلام السياسي …فالاسلام السياسي براي التيار العلماني مذنب وللاسباب التالية : 1- عنده ثوابت مقدسة لايقبل ان تخضع للنقاش 2- يخلط بين المقدس والمسدس 3- يستخدم ديمقراطية الصندوق وسيلة للاستيلاء على السلطة ثم يذبح الديمقراطية التي اوصلته اليها 4- يرفض الاحتكام الى الانتخابات بعد الوصول الى السلطة اذا كانت ضده بدعوى عدم جواز ذلك 5- يقمع الحريات بدعوى التقيد بالحلال والحرام 6- يعامل المواطنين وفق درجات… قراءة المزيد ..