بائِسٌ ورديءٌ هذا العقل، هذا الذي لا يذهبُ بعيداً، ولا يأتي من بعيد..
لا يَبني ولا يهدم..
لا يموتُ لكي يَحيا، ولا يخطيءُ أو يجرّب أو يغامر..
ولا يأتي من السؤال، ولا يذهبُ إلى السؤال، ولا ينتقلُ بِالسؤال إلى السؤال..
لا يغضبُ أو يحتجُّ أو يرفض أو يشمئِز..
لا يفهمُ أو يستفهِم، ولا يتمرّدُ أو يقارع، ولا ينطقُ أو يستنطق..
لا يُغيّر ولا يتغيّر..
لا يُفكّر ولا يتفكّر..
لا ينيرُ ولا يتنوّر..
هذا العقل فارغٌ، ويتكوّمُ فراغاً في فراغ الفراغ..
يتأخّرُ دائماً ولا يتقدّم، يتراجعُ ولا يُقدِم، يخافُ ويتخوّف..
مهزومٌ أبداً في معركة الأسئلة، ولكنّهُ ينتصرُ صخباً في ضجيج الأجوبة. مهزوزٌ في مخاض الشّك، ولكنّهُ شجاعٌ في ميراث اليقين..
هامدٌ في تقلّبات القلق، ولكنّهُ هادرٌ في سكون الاطمئنان..
يتلاشى في هجير الفكرة، ولكنّهُ يتسيّدُ دائماً مسرح اللاشيء..
يتحاشى المختلف ويستعذِبُ السائد..
يُعادي التفرّد ويذوبُ في المجموع..
يُحارب الجديد ويُقيمُ في القديم..
تُرهقهُ المعاني الجديدة، فيتكوّمُ سريعاً في القوالب المعتادة..
ينزعجُ من الحركة، ويهوى السكون..
تُتعِبهُ التفاصيل، فيتشبّثُ بالعموميّات المائِعة..
لا يُطيقُ النقد والانتقاد، ولا يروق له التحديق والتأمّل والاكتشاف..
هذا العقل يخلو من حياة الحرّية وحرّية الحياة، فتتوالدُ فيه القيود، وتتكالبُ عليه الأغلال، ويطمرهُ الحُطام، وتسحقهُ الأثقال..
لا يتخفّف من الموروث، ولا يغادرُ العتمة، ولا يسكنُ خارج الكهوف..
يُبهرهُ الضّوء، ولكنّه لا يتحسّس منابت النور..
تُسعِفهُ الاحتمالات، ولكنّهُ يلوذُ متحصّناً بِاليقينيّات..
تتجاذبهُ الأسئلة، ولكنّهُ ينصاعُ تلقائيّاً للأجوبة..
يُحرّرهُ الجديد، ولكنّهُ يقتعِد القديم والأقدم، والسابق والأسبق..
ليسَ شغوفاً بِمعرفة المعرفة، ويأتي خالياً دائماً من شهوة الخلق والإبداع والتّجديد، لأنّه متخمٌ بِتراكمات اليقين والتقليد والتلقين..
هذا العقلُ لا يقرأ، وحتّى لو قرأ، فأنّه لا يقرأُ إلاّ ما اعتادَ تلقيناً أنْ يقرأ. وكيف يقرأ إذا كانَ لا يريدُ أنْ يقرأ، ولماذا يقرأ إذا كانَ لا يريدُ أنْ يفهم.؟ وكيف يقرأ إذا كان لا يملكُ في رصيد القراءة شيئاً من شروط القراءة. وهل يستطيعُ أنْ يفهم إذا كانَ من الأساس لا يريدُ أن يقرأ، وهل يستطيعُ أنْ يقرأ في شيءٍ غير تاريخهِ أو قبوره أو كُتبه أو نصوصه. إنّه يقرأُ فقط ما يتوفّر لديه من ميراث الوحيّ والتلقين، لأنّه لا يملكُ من مزايا الرؤية والقراءة، ما يجعلهُ شاخصاً ومتفحّصاً ومتفلسفاً ومحدّقاً ومنتقياً ومُحاوِراً ولمّاحاً وملتقطاً وناقداً ومتفكّراً وسائِلاً ومتسائلاً..
أيّها العقل البائِس، لماذا أنتَ موجودٌ، ولماذا وُجدّتَ أصلاً، ولماذا لا تستطيع أنْ تكونَ في وجودكَ، وجوداً مفكّراً ومتفكّراً، ناطقاً ومستنطقاً، عارفاً ومستعرفاً، فاهماً ومستفهِماً، متجلّياً ومستجلياً..
ولماذا جِئتَ أصلاً؟ وأنتَ لا تستطيع أنْ تكونَ شاهداً أو رافضاً أو ناقماً أو مُبصراً أو فاضحاً أو مضيئاً أو قادحاً. أليسَ العقلُ في مجيئِه يجيءُ عقلاً، فكيف لكَ أنْ تجيء، وأنتَ غير قادرٍ على أنْ تكونَ مخلصاً لِمجيئك، ووفيّاً لوجودك، ومُقدّراً لِقدرتك..
أيّها العقل البائس، لماذا تكتبْ وأنتَ لا تقرأ.؟ فمَن يكتبُ يقرأ. ولهذا فالعقل الخلاّق والمثمر والمتوهّج، لا يكتبُ لأنّهُ يقرأ، إنّما يكتبُ لأنّه يجدُ في القراءة شروط الكتابة، ويرى فيها حضوره المفكّر والمتسائل والمتجلّي والناقد. إنّهُ لا يكتبُ لأنّهُ يقرأ، بل يكتبُ لأنّه محتاجٌ أنْ يقرأ، وفي القراءة يتجلّى ذاتاً كاتبة، ذاتاً لا تكتبُ ما تقرأ، بل تقرأُ ما يجب أنْ يُكتَب، وتكتبُ ما يستوجبُ حضور ذاتها القارِئة..
ما أتعسكَ أيّها العقل البائس، إنّكَ لا ترى حقيقتك، ولا تستطيع أنْ تراها، لأنّك تراها كما أردتَّ أنْ تكون، خرساء وعرجاء وصمّاء، وتعجزُ دائما عن رؤيتها على حقيقتها، لأنّ في حقيقتها حقيقتكَ العاجزة والمتجمّدة والبليدة. ولذلك كلّ ما تفعلهُ وتُجيده هو أنْ تحبَّ حقيقتك، وتحبُّ وجودك في حقيقتكَ هذه، تحبّها سادرةً في سكونها وتراجعاتها وعتمتها وتقيّحاتها وبلادتها..
كم في هذا العقل من غباء الغباء، يجدُ في حقيقتهِ هذه، حقيقة كلّ الأشياء، ومن ثمَّ يخرجُ بها على الناس صارخاً وشاتماً ولاعناً ومُستبشعاً، ومتباهياً ومتنرجساً بحقيقتهِ التي يراها كلّ المنطق وكلّ الجمال وكلّ الاكتمال..
ما أفجعَ أنْ تقبل وجودكَ في حقيقتكَ هذه أيّها العقل البائس، وأنتَ لا تملكُ منطقاً لوجودكَ في حقيقتك، ولا رُشداً. وحقيقتكَ لا تملكُ من شروط وجودها، منطقاً أو فِكراً أو معرفةً أو صياغة أو معنىً أو تقويماً أو فهماً.
فلا تملكُ غير صناعة وهْمك ويقينك، ورعاية تراثك ونصوصك وماضيك وتراجعاتك. إنّك تُجيد صناعة خوفكَ، تصنعهُ بكلّ الثّقة والإطمئنان والاستمراريّة، لأنّه يُرسّخُ فيك يقينك. يقينكَ الذي يساوي خوفكَ، وخوفكَ الذي يساوي يقينك. إنّك تصنعُ خوفك بِنفس المقدار الذي تصنعُ فيه يقينكَ..
إنّك أيّها العقل البائس، لا تملكُ خِفّة التحليق، لأنّك مُلتصِقٌ بالتراب. ولا تملكُ مهارة التجاوز، لأنّك تهوى الاقتعاد. ولا تملكُ رشاقة التّخطّي، لأنّكَ مُثقلٌ بالخوف والتردّدِ والانهزام. ولا تملكُ ميزة الخَلق، لأنّكَ تفتقد الدهشة والمغامرة والمجازفة..
إنّكَ لا تستطيع أنْ ترى النجومَ من فوقكَ لامعةً أو مشعّة أو فارعة، لأنّكَ تستعذِبُ الدروب المعتمة والخانقة. ولا تستطيع أنْ تُحدّق في أعالي الضوء، لأنّكَ تمتليء بالظلام والخوف والارتجاف. ولا تملكُ أبصاراً شاخصة ترنو إلى الشّمس، لأنّكَ مُصابٌ بعاهة العَمى والتشويش. ولا تستطيع أنْ تسمو ذكاءً أو حواراً أو نقداً، لأنّكَ لا تملكُ أيٍّ من مستويات المعرفة الخلاّقة، أو أيٍّ من مستويات الأفكار الشجاعة العظيمة..
حتّى أوهامكَ أيّها العقل البائس، لم تستطع أنْ تجعلها ذكيّة أو خلاّقة أو مبدعة أو خصبة، لأنّكَ تفتقرُ إلى موهبة الخيال , وصفاء الإحساس، واشتهاء الدهشة، وابداع الخَلق، وفنون التكذيب..
ما أتعسكَ في أوهامكَ، تراها كلّ الحقيقة، وكلّ الوجود، وتبادلها متعة الخمول والتجمّد والانطفاء والتغييب والتقيّد. إنّها تَحيا فيكَ تعاليماً وطقوساً، واعتقادات ومعتقدات وصلوات وابتهالات وتضرّعات، تخلو من الذكاء والإبداع والخَلق والفنّ والالهام والتمرّد والحرّية والتجاوز..
إنّك في وجودكَ تُمارس وجودكَ مشترطاً عليه، كلّ قيودكَ واعتلالاتكَ وإكراهاتكَ ومنقولاتكَ وحمولاتكَ النصيّة والتراثيّة والجمْعيّة. ما أفظعكَ وأنتَ تمارس وجودكَ هذا، متخوّفاً وخائفاً ومرتجفاً، متعبّداً ومتملّقاً ومادحاً ومُستفرِغاً. جاهِلاً جهلكَ، ومتجاهلاً جهالاتك..
ما أعجزكَ في الاختيار، وكمْ أنتَ عاجزٌ عن الاختيار. لا تستطيع إلاّ أنْ تختار قيودك، وتختار عبوديّتكَ في قيودك، فكمْ تُرهبكَ حرّية الاختيار، وكم تخشاها وتتحاشاها، وكم تراها أكبر من استيعابك وقدرتك وذاتك. وكيف لكَ أنْ تختار، وأنتَ مُقيّدٌ في اختيار محدّدٍ مسبقاً، ولا تعرفُ أنّ عليكَ أنْ تكونَ حرّاً في خياراتك واختياراتك. إنّكَ تعجزُ عن الاختيار، لأنّكَ لا تعرفُ أنّ لكَ حقٌّ في الاختيار، وكيف لك أنْ تعرف أنّ لكَ حقٌّ في الاختيار، وأنتَ لا تملكه، ولستَ مستعدّاً له، وليسَ متوفّراً في رصيد حرّيتكَ ورؤيتك وتجربتك ..
Tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي