مع تأسيس المملكة العربية السعودية صار للسلفية الوهابية كيان شرعي تبث من خلاله أفكارها وتحقق انتشارها في العالم عبر الدعوة والتعليم والإعلام والروابط والمؤسسات الكثيرة التي أنشأتها… وقد ترافق مع صعود سطوة السلفية الوهابية عربياً وعالمياً اندلاع الصراع في مصر بين الاخوان المسلمين (أم الحركات الإسلامية الحديثة) والنظام (الملكي ثم الناصري).. ويُقال عادة ان الأصل في نمو التطرّف وفي التحوّل الكبير صوب موضوعات الجهاد والتكفير يعود إلى سيد قطب (1906 ـ 1966) ولكنني أميل إلى القول بأن المسألة أعقد من ذلك بكثير. صحيح ان سيد قطب دعا إلى ما يشبه قيادة إسلامية جديدة “تردّ الناس إلى حاكمية الله وربوبيته) بعد ان سادت “الجاهلية”، إلا انه كان في ذلك يستوحي مصدرين اثنين: الفكر الباكستاني للمرحوم أبو الأعلى المودودي، والفكر الغربي لتلك المرحلة بشقيه النازي ـ الفاشي والشيوعي (اللينيني)، في إعادة إنتاج المجتمعات على يد نخبة مختارة (طليعة ثورية أو صفوة نقية). والحال ان ما ساهم في تبلور اتجاهات التطرف والعنف عاملان أساسيان:
1 ـ القضية الفلسطينية، والصراع ضد المشروع الصهيوني ـ الامبريالي عموماً، وضدّ الاحتلال المباشر في فلسطين وقناة السويس خصوصاً، وحرب فلسطين 1948 تحديداً، ومشاركة الاخوان فيها.
2 ـ أزمة الهوية والعلاقة مع الآخر، المكتسح والمتقدم حضارياً، وقد بلغ الاستقطاب مداه بعد الحرب العالمية الثانية بين نموذجي الغرب الرأسمالي الليبرالي والاشتراكي الشيوعي.. في غياب الشخصية الإسلامية الحضارية وموقعها في التاريخ.
ويمكن ان نضيف إلى ذلك عامل ثالث كان له دور كبير على فكر سيد قطب وغيره ممن لحق مقولة “المفاصلة” مع “المجتمع الجاهلي”، هو التقسيم في الهند ومأساة ولادة دولة باكستان الإسلامية.
فمع تداعيات المشروع الصهيوني في فلسطين (منذ ثورة 1922 ثم ثورة 1929 فثورة 1936) وقضية الاحتلال البريطاني لمصر تشكل “النظام الخاص” أو “التنظيم العسكري السري” داخل الاخوان المسلمين لإعداد الشباب المسلم لمواجهة الصهيونية في فلسطين والانكليز في منطقة القناة.. وكما يحدث في كل الحالات المشابهة صار “النظام الخاص” هو التنظيم فوق التنظيم، وازدادت قوته مع تدفق الاخوان “العائدين” من حرب فلسطين، وتوثق الصلات مع ضباط في الجيش كانوا في الحرب على الجبهة أيضاً. وليس صدفة ان يكون معظم الضباط الاحرار (بمن فيهم عبد الناصر والسادات) قد انتمى في وقت ما إلى “النظام الخاص” للاخوان، وكان طبيعياً ان يلجأ هذا التشكيل العسكري السري إلى العنف كوسيلة سياسية نابعة من تكوينه ومن قواه وقوته، كغيره من مثل هكذا تشكيلات في العالم.. ويلفت الانتباه هنا موقف الشهيد حسن البنا في تعليقه على عمليات الاغتيال والتفجير التي قام بها النظام الخاص (في عامي 1948 و1949) حين قال كلمته الشهيرة: “ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين”.. وبعد اغتيال البنا (12 شباط 1949) عاش الاخوان فترة ارتباك وضياع قيادي استطاع الضباط الاحرار بفضلها إزاحتهم عن المسرح السياسي عبر حملة قمع واضطهاد رهيبة.. (اعتقالات 1954 الأولى ثم 1958، وصولاً إلى حملة 1964 ـ 1965 التي انتهت بإعدام سيد قطب ورفاقه في آب 1966).
في العام 1950 (أو 1951) أسس الفلسطيني تقي الدين النبهاني حزب التحرير الإسلامي على قاعدة ضرورة إسقاط الأنظمة عبر انقلابات تقوم بها طليعة عسكرية، تمهد لإعادة دولة الخلافة.. وبين عامي 1954 ـ 1958 تشكلت الطلائع الأولى لحركة فتح من رحم الاخوان المسلمين (أبو عمار وأبو جهاد وأبو اياد وأبو مازن وأبو يوسف النجار والعشرات غيرهم من المؤسسين كانوا كلهم من الاخوان، العاملين في التعليم أو الهندسة في دول الخليج).. وفي السجون المصرية (1954 ـ 1967) وبسبب التعذيب الرهيب (الذي صار مضرب الامثال في العالم) ووحشية القمع والإرهاب الذي مارسته السلطة ضد الاخوان وعائلاتهم، نمت وتطورت أفكار الرد على العنف بالعنف، وصولاً إلى استعادة فكر ابن تيمية حول الجهاد ضد الحكام الكفرة.. في نفس الفترة كان فكر المودودي حول الحاكمية الإلهية، وحول تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر وحرب، وحول الجهاد ضد من “لا يحكم بما أنزل الله” والذي حمل سمة قومية باكستانية خاصة بالتجربة ضد الهندوس وضد “الآخر” المختلف و”المعادي للإسلام”، كان هذا الفكر يُقرأ ويُدرس في حلقات السجون المصرية ويمتزج بمرارة المساجين وعذاباتهم.. وتجدر الإشارة هنا إلى دور تقسيم فلسطين وتقسيم باكستان في العام 1947، على يد الاستعمار البريطاني في شيوع نظرية المؤامرة البريطانية التي ظلت تحكم حزب التحرير (حتى اليوم) وكذلك حزب الدعوة الشيعي العراقي (تأسس هو أيضاً في فترة 1955 ـ 1958).
وفي الستينات كانت حرب اليمن التي خاضها النظام المصري ضد السعودية، وكان انهيار السلفية الإصلاحية المغاربية وسقوط البورقيبية والتجربة الثورية الجزائرية والملكية المغربية في العلمانية التغريبية الفاقعة تقليداً لشاه إيران ولأتاتورك تركيا… ثم كانت نكسة الخامس من حزيران 1967 والسقوط المدوي للناصرية وللأنظمة العربية.. ويبدو ان النواة الأولى لتنظيم الجهاد المصري تكوّنت في مطلع الستينات، وعلى قاعدة أفكار وفتاوى ابن تيمية، على يد نبيل البرعي.. ثم تطورت إلى لقاء فعلي عام 1966 (بعد اعدام سيد قطب) ضم العشرات ممن صاروا لاحقاً أبرز وجوه الجهاد (ومنهم ايمن الظواهري وحسن هلاوي وعلوي مصطفى واسماعيل الطنطاوي وغيرهم، وفيما كانت السلطة مشغولة بمطاردة وقمع التنظيم الام (الاخوان المسلمين) كان الشبان الخارجون من تجربة السجون يجمعون السلاح ويتدربون عليه، وخصوصاً بعد انهيار الجيش في حرب حزيران 1967. وقد نجح علوي مصطفى على سبيل المثال في تجنيد عشرات الضباط (مثل عصام القمري وعبد العزيز الجمل وسيد موسى ممن كان لهم أدوار مهمة لاحقاً) ثم كانت حرب تشرين/اكتوبر 1973، وقام هؤلاء الضباط والشبان بالقتال خصوصاً في ثغرة الدفرسوار التي قادها شارون بنفسه.. وبفضل قتالهم البطولي استطاعوا إحداث اختراق أكبر وأعمق داخل القوات المسلحة وفروعها الأمنية..
وفي مطلع السبعينات (1971) جاء صالح سرية الى مصر قادماً من الأردن عبر العراق.. وهو فلسطيني كان كادراً في حزب التحرير كما كان ضابطاً في منظمة التحرير الفلسطينية اضطر للهرب بعد أحداث أيلول المشهورة. واستقطب سرية العديد من الشباب المسلم وانضمت اليه احدى المجموعات التي كانت بقيادة حسن الهلاوي.. وفي العام 1974 حاولت سرية القيام بانقلاب عسكري عبر احتلال مقر الكلية الفنية العسكرية حيث كان السادات يعقد اجتماعاً مع كل قيادات الدولة. وفشلت المحاولة وأعدم سرية عام 1975. ثم استطاع الهلاوي الهرب من السجن وقيادة تنظيم جديد.. في حين كان يحيى هاشم (وهو رئيس نيابة عامة) يقود تنظيماً آخر أسسه بعد نكسة حزيران وحاول اطلاق سرية ورفاقه بالقوة.. فقتل هو والعشرات.. وفي نفس الفترة ظهرت مجموعة مصطفى شكري (جماعة المسلمين) التي عرفت باسم “التكفير والهجرة” داخل السجون المصرية، حيث ابتدأت بتكفير المجتمع والهجرة الى الكهوف والجبال.. وقامت عام 1977 بخطف وزير الأوقاف الشيخ الذهبي وقتله، ما أدى الى ملاحقتها والقضاء عليها واعدام مصطفى شكري.. وباعتقادي فان مرحلة 1971 ـ 1978 هذه، وجماعاتها الجهادية، لا تنفصل عن دور ما للمخابرات الليبية والعراقية والسورية (ناهيك عن الروسية) في زعزعة نظام السادات الذي ابتدأ عهده باطلاق سراح الاخوان المسلمين وبضرب مراكز القوى (السوفياتية) وبطرد السوفيات من مصر.. ولا يمكن رؤية أحداث 1971 ـ 1978 دون
فهم الاطار العام المتمثل بالسياسات السوفياتية والعراقية والليبية والسورية والعدنية والجزائرية (جبهة الصمود والتصدي) وتطورات الحرب الأهلية اللبنانية.. وكذلك بالنسبة للصراع السوري ـ المصري على الامساك بالورقة الفلسطينية وعلى قيادة العالم العربي، وتحديد خياراته.. وكذلك الصراع الأميركي ـ السوفياتي خصوصاً في ظل هجوم سوفياتي كبير تمثل بهزيمة اميركا في الهند الصينية وفي انغولا وغيرها من بلدان افريقيا وصولاً الى حرب لبنان حتى عام 1978 بقيت التنظميات الجهادية مجموعات متفرقة من الخلايا العنقودية، حتى ظهر محمد عبد السلام فرج (وكتابه الفريضة الغائبة) داعية الجهاد لاقامة الحكم الاسلامي، ومعه طارق الزمر وعبود الزمر ـ وفي نفس الفترة ظهر رافد فلسطيني آخر تمثل بالمدعو سالم الرحال، فلسطيني طالب في الأزهر، نجح في بناء تنظيم كبير باسم الجهاد، من أبرز قادته كمال السعيد حبيب ونبيل نعيم.. وكان سالم الرحال عضواً أيضاً في حزب التحرير وقبلها مناضلاً في حركة فتح.. وهو يقول إنه أسس تنظيمه عام 1970,. والرافد الآخر تمثل في ما عرف باسم “الجماعة الاسلامية” التي نشأت في جامعات الصعيد بقيادة كرم زهدي وناجح ابراهيم وعاصم عبد الماجد وعصام دربالة وفؤاد الدواليبي وصلاح هاشم واسامة حافظ الخ.. وخلال السبعينات، سيطرت الجماعة على جامعات الصعيد واتحاداتها الطلابية. وهم نشأوا أيضاً في أعقاب نكسة حزيران وكانوا يقيمون المعسكرات الطلابية الصيفية. وفي عام 1980 تقرر دمج تنظيم عبد السلام فرج وتنظيم سالم الرحال وتنظيم الجماعة في الصعيد تحت اسم تنظيم الجهاد وبإمرة الشيخ الضرير الدكتور عمر عبد الرحمن، وتشكلت قيادة موحدة أعدت لاغتيال السادات والسيطرة على السلطة عبر انتفاضة تبدأ في اسيوط.. وبعد اغتيال السادات (6/10/1981) وفشل انتفاضة اسيوط، دخل الجهاديون بالآلاف الى السجن، لتدب بينهم الخلافات ويعود كل تنظيم الى ما كان عليه قبل الاندماج.. وانفصل الجمع نهاية عام 1983,. وفي عام 1984 خرج عدد كبير من أعضاء التنظيم الجهادي من السجن فطرح تنظيم الجهاد ما سماه “المنهاج الحركي لجماعة الجهاد” وعرف ان عبود الزمر هو كاتبه بمشاركة فلسطيني آخر لعب دوراً مهماً في تاريخ هذه التنظيمات، هو عصام مطير.. وخرج أيمن الظواهري يحاول هو الآخر جمع شتات الجهاد.. في حين انجزت “الجماعة الاسلامية” وثيقتها الخاصة “منهاج العمل الاسلامي”.. وقد حدثت انتقالات عديدة بين هذه الجماعات أبرزها عودة عبود الزمر وطارق وقادة الجهاد للتواصل مع قادة الجماعة الاسلامية خصوصاً في عملية المراجعات والنقد الذاتي وتصحيح المفاهيم واعادة قراءة التجربة، في حين خرج الظواهري الى افغانستان ثم التحق ببن لادن..
فكر السلفية الجهادية المصرية
في “رسالة الإيمان” التي وضعها صالح سرية (1973) تقرير بأن “الله وحده هو المتصرف في شؤون الكون، وهو صاحب التشريع، وأن كل الأنظمة وكذلك كل البلاد الإسلامية التي اتخذت لنفسها مناهج ونظماً وتشريعات غير الكتاب والسنة هي نظم كافرة.. والمجتمعات كلها هي مجتمعات جاهلية”.. وفي كتاب “الفريضة الغائبة” تأكيد على الجهاد كوسيلة وحيدة لإقامة حكم الله في كل أرض وكل زمان.. واستخدام لنصوص ابن تيمية في جهاد أعداء المسلمين وفي تكفير “كل من لم يحكم بما أنزل الله”.. وفي كتاب أو “وثيقة الاحياء الإسلامي” الخاصة بجماعة الجهاد الإسلامي والتي وضعها كمال السعيد حبيب (أحد مساعدي سالم الرحال والقيادي في الجهاد لاحقاً) مبدأ “الالتزام بالطابع السلفي”.. الذي يعني “الالتزام مع السلف في أصولهم التي أخذوا عنها وهي القرآن والسنة والاجماع والقياس، والاتفاق معهم في الفهم دون الفهوم الفلسفية والصوفية”.. ونلحظ في هذا الكلام اقتراباً من الوهابية لجهة عداوة الفلسفة والصوفية، وابتعاداً عنها لجهة الإقرار بأصلي الإجماع والقياس.. ويقرر عبود الزمر أن جماعته “دعوة سلفية أصولية أساسها العودة الى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ومجالها اعتقاد صحابة رسول الله ومن تبعهم بإحسان دون زيادة أو نقصان، والعودة الى فهم السلف الصالح للكتاب والسنة ونبذ الابتداع في الدين اقتداء بالإمام أحمد ابن حنبل الذي يقول “لا تقل قولاً ليس فيه سلف”..
في كتابه الخطير: “بيان كفر الحكام الحاكمين بغير شريعة الإسلام ووجوب جهادهم” كما في كتابه “الحوار مع الطواغيت مقبرة الدعوة والدعاة” يكرر أيمن الظواهري مراراً القول “أما كونهم كفاراً مرتدين فلقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”، وذلك لأن ما يفعله هؤلاء الحكام هو نفسه صورة وسبب نزول الآية، وهي تعطيل حكم الشريعة الالهية واختراع حكم جديد، وجعله تشريعاً ملزماً للناس”..
وفي كتابه “الرد على الشيخ ناصر الدين الألباني” يكرر الظواهري ما سبق لعبدالسلام فرج أن أعلنه في “الفريضة الغائبة” من وجوب جهاد الأنظمة: “ومما سبق ترى أن كيفية مواجهة الحكام مقررة بالنص والإجماع وهو وجوب جهادهم.. وهو جهاد فرض عين على كل مسلم من أهل هذه البلاد المحكومة بغير شريعة الإسلام، وذلك لأن هؤلاء الحكام عدو كافر حل بعقر بلاد المسلمين وهذا من مواضع وجوب الجهاد العيني”..
تجدر الإشارة أخيراً الى أن “حركة الجهاد الإسلامي” في فلسطين قد وُلدت على ضفاف تجربة الجهاد المصري، خصوصاً وأن أبرز قادتها كانوا يدرسون في جامعات مصر ويشاركون في تحرير مجلة “المختار الإسلامي” التي كانت أول من احتفى بانتصار الخميني في إيران.. والجهاد الفلسطينية وُلدت في حدود عام 1978 ـ واشتهرت بعد عام 1982، في حين أن حماس لم تُولد إلا في آخر عام 1987. وفي حين تنتمي الجهاد الى تراث الجهادية المصرية، فإن حماس تنتمي الى تراث الاخوان المسلمين في مصر والأردن.. وتقر الحركتان بالسلفية كناظم عقدي لفكرهما وممارساتهما إلا أن سلفيتهما تختلف تماماً عن بقية السلفيات في كونها تستعيد سلفية الأفغاني التحررية الثورية من جهة (الصراع المركزي ضد العدو الأساسي) وسلفية حسن البنا وسيد قطب الاخوانية من جهة أخرى (شمولية الإسلام تتطلب التنظيم الطليعي).. جاء في ميثاق حركة حماس (المادة الخامسة) تأكيد على “البعد الزماني للحركة”.. من حيث “اتخاذها الإسلام منهج حياة لها يمتد الى مولد الرسالة الإسلامية، والسلف الصالح. فالله غايتها والرسول قدوتها والقرآن دستورها” (استعادة حرفية لصرخة حسن البنا الشهيرة). أما حركة الجهاد فتقول إنها “حركة أصولية ربانية تعتصم بالقرآن الكريم والسنة المطهّرة، كما أنها تحسن الاستفادة من التراث الهائل من اجتهادات الصالحين من سلف الأمة”.
(*) كاتب وأستاذ في العلوم الاجتماعية