حكم البابا
ما سأكتبه هنا، على شكل أسئلة أجيب عنها، سيناريو تحليلي يستند في كثير من تفاصيله على معلومات مسربة من جهات عديدة، وعلى معطيات موجودة على أرض الواقع. وسأكون شاكراً لله لو كذّبتني الأيام والشهور القادمة، لأنه فيما لو حدث ما سأكتبه فسنكون قد ضحّينا بعشرات ألوف الشهداء والجرحى والمعتقلين والمهجرين مقابل ثمن رخيص هو رحيل بشار الأسد وبقاء نظامه.
أولاً: لماذا اعتبر ائتلاف المعارضة أوسع ائتلاف لقوى الثورة والمعارضة السورية؟
هناك كذبة اتفق عليها الاعلام والوسط السياسي والديبلوماسي وروجوها مع اطلاق “الائتلاف” تقوم على أن هذا الائتلاف يضم أكبر تشكيل للمعارضة السورية. ولو دققنا في الأسماء التي يضمها الائتلاف لاكتشفنا أنه أقل تمثيلاً من المجلس الوطني السوري، ولا يضم سوى اسم الأستاذ ميشيل كيلو (الذي لم يعلن صراحة حتى اليوم عن انضمامه رسمياً للائتلاف وغاب عن اجتماعه بالدوحة رغم أنه كان مدعواً) والسيدة سهير الأتاسي وهي ناشطة سياسية شاركت في تأسيس اتحاد تنسيقيات الثورة السورية، وفيما بعد الهيئة العامة للثورة، فيما أغلب الآخرين هم إما أعضاء حاليين في المجلس الوطني، أو سابقين خرجوا أو أخرجوا من المجلس لأسباب سأذكرها فيما لو استدعى المقام شرحها أو كان لها تأثير في مجرى الأحداث. أما ممثلي المحافظات السورية فقد اختيروا على عجل لاكمال الصورة، واستبدل اسم باسم في آخر لحظة لتعذر وصول الشخص، ومن بين هؤلاء من لم يزر المحافظة التي يمثلها منذ أكثر من عقد. ولدى المجلس الوطني تمثيل من الداخل لا بأس به إذا ما قورنَ بممثلي الداخل في الائتلاف، ويغيب عن الائتلاف أي تمثيل حقيقي ومباشر لاعلان دمشق وحزب الشعب، الذي عومل كجزء من المجلس في شخصي ممثلي هاتين الجهتين عبر الأستاذين جورج صبرا وسمير نشار. في حين أن جماعة الاخوان المسلمين مُثّلت عبر شخصيات ضمن المجلس، وأيضاً عبر ما سمي بالشخصيات الوطنية. كما يضم الائتلاف بعض الحركات الهامشية التي ليس لها قاعدة شعبية ولا تملك وزناً كبيراً لا في الثورة ولا في المعارضة (كحركة “معاً” و”تيار مواطنة” وغيرها). ولو قارنّا بين “المجلس الوطني” و”الائتلاف” لاكتشفنا بدون كبير عناء أن المجلس يضم جهات أوسع في المعارضة من الائتلاف رغم هشاشة تمثيل الكثير منها في المجلس والهيئة، وإذاً، فكلمة مثل أن الائتلاف هو الأكثر تمثيلاً لقوى الثورة والمعارضة هو من قبيل البروباغاندا الاعلامية ليس أكثر. وما دام الأمر كذلك سيسأل سائل: ماهي الفوارق اذاً بين “الائتلاف” و”المجلس”؟ وهو ما سأجيب عليه في الفقرة التالية.
ثانياً: ما هي الفوارق بين الائتلاف والمجلس؟
من حيث الشكل والنشأة لا توجد فوارق كثيرة. فالاثنان رُتبا على عجل في محاولة لتشكيل عنوان سياسي للثورة والمعارضة السورية، واعتمدا اسلوب المحاصصة، وكثير من شخصياتهما تكررت في المجلس والائتلاف، كما أن نشأتهما واحدة من حيث رعاية دول غربية أو اقليمية لهما. فالمجلس أنشئ بوصاية تركية فرنسية وتبنته قطر بعد ذلك، من دون أن تغيب الرعاية الأمريكية. أما الائتلاف فأنشئ برعاية أمريكية فرنسية ثم لحقت بهما، أو أُجبرت، دولة قطر على تبنيه والتخلي عن المجلس، ولأن المجلس على مدار أكثر من عام لم يستطع أن يتحول إلى مرجعية سياسية للمعارضة والثورة السورية لظروف خاصة تتعلق بصراعاته الداخلية، وأخرى خاصة بالوضع العالمي الذي لم يقرر وضع ثقله في الموضوع السوري خلال الفترة الماضية، فأعطى الرئيس السوري بشار الأسد مهلاً عديدة، ولم ير في المعارضة المنشغلة بصراعاتها بديلاً للأسد. لذلك تم انهاء “المجلس” بالطريقة المهينة التي صرحت بها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاي كلينتون على الملأ وحولته إلى طرف تابع في “الائتلاف”، وأنشئ “الائتلاف” على عجل من بقايا المجلس مع الخارجين منه والحانقين عليه، ولكن هذه المرة ليُدار من فوق ومن الخارج، بعد أن أثبتت المعارضة السورية أنها غير جديرة بإدارة نفسها، وليكون جاهزاً للتحرك فوراً، مع تغيّر الظروف الدولية واستمرار القتل في سورية، وهو ما سأناقشه في الفقرة القادمة.
ثالثاُ: ماهي المتغيرات في الظروف الدولية التي استدعت انشاء “الائتلاف”؟
بعد ما يقرب من عامين على انطلاقة الثورة السورية، وعدم استطاعة بشار الأسد قمعها أو انهائها، واستمرار سقوط الضحايا وتكاثر المجازر وزيادة عدد المهجرين مما شكّل ارهاقاً للدول المجاورة، ومع استمرار التعنت الروسي لصالح النظام السوري ووقوفه إلى جانبه ضد أي قرار يدينه أو يقدم حلاً من أي نوع في مجلس الأمن، ووقوف ايران بكل قوتها في معركة حياة أو موت بجانب الأسد، ومع كل الدلائل الميدانية التي تشير إلى تقدّم الثوار على الأرض، وظهور حركات جهادية على الساحة السورية من شأنها أن تخيف الغرب، وبعد شهور من مسح المخابرات الأمريكية وغيرها من أجهزة المخابرات الدولية والاقليمية للوضع الميداني في سورية، وبعد الانتخابات الأمريكية واستقرار رئيسها، ولأن الغرب ليس مستعداً للتدخل العسكري خوفاً من اشتعال المنطقة بكاملها، ولأن النظام لا يزال قوياً ومدعوماً بالمواقف السياسية والسلاح من روسيا والصين، وبالسلاح والخبرات من ايران، وبالخبرات والرجال من حزب الله، كان لا بد من خلق جسم سياسي معارض يستطيع الغرب ضبطه منعاً للفوضى، وتهيئة للدخول في حل سياسي، وهو الحل الذي أصبح الغرب والشرق متفقين عليه. واختلافهما الوحيد هو على تفاصيله، مع شعارات براقة وفارغة بدعم الثورة تسليحاً واغاثة. وهذا الحل السياسي يقوم على مبدأ رحيل الأسد والابقاء على رجالات نظامه في الأمن والجيش، مع تنويه بأن يكون هؤلاء الرجال غير متورطين بدم الشعب السوري، وهي خطة ايرانية روسية فرضها الواقع الميداني عليهم، وتهدف إلى حفظ مصالح هاتين الدولتين، وحماية الأقلية العلوية الممسكة بالحكم في سورية من مجزرة تخشاها في حال سقط النظام، وتطعيم السلطة القادمة في سورية بشخصيات معارضة. وبذلك تحقق الثورة أهدافها نظرياً، ويتم الحفاظ على النظام ومصالح داعميه عملياً. ولكن هل يقبل بشار الأسد بالتنحي، وكيف سيقبل ائتلاف المعارضة بنصف حل؟ وما هو موقف قطر والسعودية الداعمتين للثورة السورية من هذا الحل؟
وهو ماسأجيب عليه في السطر التالي.
رابعاً: هل يقبل بشار الأسد بالتنحي، وكيف سيقبل ائتلاف المعارضة بنصف حل؟ وهل يقبل العرب (قطر والسعودية تحديداً) ببقاء النظام ورحيل رأسه؟
من الطبيعي أن ترفض المعارضة السورية الموجودة في الائتلاف مثل هذا الحل فيما لو طرح عليها مباشرة وفجأة. ولكن أداء هذه الشخصيات المعارضة خلال عمر الثورة وتذبذبها بين المواقف ودخولها في صراعات على مناصب وهمية، ومن خلال علاقاتها التاريخية بالسفارات الغربية، أعطى انطباعاً لهؤلاء بأنها قد تقدم على تنازلات وعلى فترات فيما لو لُوِّح لها بمكاسب شخصية (تأملوا موقف المجلس الوطني وشخصياته التي هاجمت مبادرة رياض سيف، ثم وفي خلال يومين اعتبرت يوم توقيعها يوماً مشهوداً في تاريخ سورية على سبيل المثال)، وهنا، خاصة إذا تم الايحاء للنظام السوري بتشديد القصف والقتل، ومع تعالي الصراخ الداخلي بايقاف القتل بأي ثمن، والتقتير على مقاتلي المعارضة السورية بالذخيرة والسلاح، يصبح الحل السياسي جاهزاً ومطلباً للجميع. والحجة موجودة بأن من سيبقون من رجالات النظام هم ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء، وهي أكبر كذبة في التاريخ، لأن كل رجالات النظام في الجيش والأمن أيديهم ملوثة بدماء السوريين. ومن هنا نستطيع أن نفهم استبعاد المعارض رياض الترك (الذي يتمثل عادةً عبر اعلان دمشق وحزب الشعب) عن “الائتلاف”، لأنه قد يكون الوحيد بين المعارضين السوريين الذي لا يقبل بحل أقل من رحيل بشار الأسد ورجالاته جميعاً، لأنه يعتبر معركته مع النظام ليست سياسية فقط بل وشخصية أيضاً. وإذا أضفنا لهذه الأمور جميعاً مونة الأمريكان والغرب على رجالات الائتلاف باعتبارهم طرفاً رئيساً في تشكيله ودعمه والاعتراف به، سنجد أننا أمام فريق معارض يقبل بهكذا حل.
أما بالنسبة لاقناع بشار الأسد بالتنحي فهي مسألة مستحيلة لمن يعرف طبيعة النظام السوري، الذي يعتبر آل الأسد حافظ ومن بعده بشار رمزاً لايمس، كما في كل ديكتاتوريات العالم، فما بالك إذا كان النظام مركّباً بشكل طائفي، وطائفته تضع ثقلها بين يدي الرئيس الأسد، وليس لديها أي رمز خارجه، فضلاً عن الطبيعة الشخصية الرعناء لبشار الأسد الذي سيرفض بشدة فكرة التنحي. ولكن هذه المعضلة المستحيلة لها حل عند أجهزة المخابرات الغربية، التي قد تساعد على تنفيذ عمليات مزلزلة تفتّ في عضد النظام شبيهة بعملية تفجير مكتب الأمن القومي، وعندها يمكن أن يقبل بشار الأسد تحت ضغط حلفائه الروسي والايراني بالتنحي، فإن رفض فاغتياله لن يكون صعباً على أجهزة المخابرات. وبغيابه، بأي من الطريقتين، سيفتح الطريق أمام الحل السياسي. وفي حال قتله سيعتبر السوريين أنهم حققوا هدف ثورتهم، ومن فرط فرحهم لن يفكروا كثيراً بأن نظامه لا زال كما هو، خاصة فيما لو تم تقديم عدد من أكباش الفداء من بين أشهر رجالات النظام للمحاكمة.
في موقف دولة قطر من قبول الحل السياسي في سورية لا توجد مشكلة كبيرة، فمن قَبِلَ بسرعة البرق التخلي عن المجلس الوطني وتبني الائتلاف، سيَقبَل إن لم يكن قد قَبِل بالحل السياسي المطروح للأزمة الثورة. خاصة وأن قطر تلعب سياسياً لمجرد اللعب وحب الظهور في أي مسرح، وللحصول على سمعة واسم بأنها لاعب ومحرك للأحداث في كل بقعة يتاح لها اللعب فيها من بقاع العالم، وليست لها أهداف اقتصادية أو استثمارية في سورية، فهي لا تستثمر في بلدها حتى تستثمر في غيره. وفي كل الأحوال، في حال نجح الحل السياسي في سورية ستحقق نصراً معنوياً هو كلُّ همّها، لأنه لا توجد لديها مشكلة حقيقة مع النظام السوري، وهي تصادق وتعادي كنوع من اللهو والجكر والتناحر السياسي.
على عكس قطر نجد أن السعودية التي أبدت تحفظاً على الائتلاف، وكانت ردة فعلها باردة، ستجد صعوبة في الدخول في هذا الحل السياسي، خاصة وأنها تعتبر أن لها ثأراً شخصياً مع النظام السوري ورئيسه، الذين قتلوا لها رجلها في لبنان رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وفشّلوا لها كل مشاريعها السياسية لصالح مشاريع ايران عدوتها اللدودة. ولكن، هل تهم كثيراً موافقة السعودية، خاصة وأنها دولة ذات ردود فعل باردة وبطيئة وتتميز سياستها بالكتمان؟ لا أظن، فبالامكان تجاوزها وستكون ردة فعلها لامبالية أو ممتعضة في أسوأ الأحوال.
خامساً: لماذ اختير الشيخ معاذ الخطيب رئيساً للائتلاف ولم يُختر معارض من المعروفين غيره؟
بكل بساطة لأن الوجوه الأخرى في المعارضة السورية مستهلكة، وبدّلت وغيّرت في مواقفها خلال عمر الثورة السورية فتحولت إلى صور محروقة. فمن الطبيعي أن يُؤتى بوجه جديد من بيت دمشقي اسلامي ظهر خلال الثورة ليكون واجهة ويستثمر، كما استثمر مؤتمر المعارضة في القاهرة قبل فترة خالد أبو صلاح باظهاره بينهم، وكما استثمر الدكتور برهان غليون في بداية انشاء المجلس الوطني، فيكون أكثر قبولاً من جماهير الثورة السورية ذات الطابع الاسلامي. وما يصح على الشيخ معاذ الخطيب يصح على السيدة سهير الأتاسي، فضلاً عن أن الوجوه المعارضة التقليدية التي تختفي خلفه في الائتلاف بانتظار مكاسب تنفيذية أهم في النظام الذي ستتشارك فيه مع رجالات من النظام (ممن لم تتلوث أيديهم بالدم) ويالها من نكتة سمجة.
hakambaba@gmail.com