حينما تذكر عبارة “عملاق الطيران الآسيوي”، فإن الإشارة هنا لا بد وأن تخص الناقلة الجوية الوطنية لليابان المعروفة إختصار بإسم “جال”، بإعتبارها الأوسع إنتشارا (220 محطة في 35 بلدا) والأكثر إمتلاكا للطائرات على مستوى آسيا (279 طائرة من مختلف الأحجام والأشكال)، والأحدث أسطولا (يضم إسطولها طائرات بوينغ 777 – 300 وبوينغ 777-200 الأحدث في العالم والتي إشتركت “جال” في تصميمها من ضمن 7 شركات طيران أخرى، إضافة إلى طائرات “إير باص أ-300- 600 آر” ذات الهيكل الواسع)، والأضخم من حيث عدد المسافرين على متنها (53 مليون راكب) و كمية المنقول من البضائع بواسطتها (1.2 مليون طن من البضائع وخلافها).
وعلى الرغم من ظهور شركات طيران عملاقة أخرى في آسيا (مثل الخطوط السنغافورية والتايلاندية وخطوط كاثي باسفيك الهونغكونغية) خلال العقود التالية لتأسيس “جال”، فإن الأخيرة بقيت دوما متميزة من حيث الأداء والكفاءة وخدمات الضيافة ودقة المواعيد وغير ذلك من الأمور التي توليها التقاليد والثقافة اليابانية إهتماما خاصا، بل بقي إسمها وشعارها القديم المكون من طائر الكركي ضمن إطار دائري أحمر، والذي جعلنا نسميها في سنوات طفولتنا بإسم “طائرة الوزة” محفورين في الذاكرة.
لا زلت أتذكر كيف أني فؤجئت في رحلتي الأولى على متنها، بمضيفة أنيقة تقترب مني وتطالبني بأدب أن أخلع ملابسي وحذائي وأرتدي بدلا منها هدية مقدمة من الشركة (بيجامة نوم و”روب دي شامبر” و خفا من الصوف)، إستعدادا للنوم في مقعدي الذي تحول بنقرة زر إلى سرير مريح. كان ذلك في حينه شيئا غريبا، لكنه لم يكن بمستغرب على اليابانيين الذين برعوا في ابتكار كل ما هو مثير و الإستفادة من كل ما هو جديد.
ويتذكر صديق لي كان يعمل في طهران كيف أن “جال” وحدها وفرت له فرصة الإنتقال مباشرة من العاصمة الإيرانية إلى القاهرة للمشاركة في جنازة الرئيس عبدالناصر ، حيث كانت الخلافات السياسية والأيديولوجية قد قطعت وقتذاك كافة الروابط ما بين العاصمتين الكبيرتين، وكانت “جال” وحدها هي همزة الوصل، لأنها كانت تطير من طوكيو وتهبط في طهران ثم تواصل سيرها نحو العاصمة المصرية مرتين في الأسبوع. هكذا كان العملاق الجوي الآسيوي يربط ما بين أقاصي العالم وتنتشر شبكاته وخطوطه في كل الإتجاهات.
لهذا كله، إستغرب الكثيرون وهم يسمعون مؤخرا خبرا عن إعلان إفلاس هذا الصرح العملاق تحت وطأة ديون بلغت أكثر من 25 مليار دولار، على الرغم من أن إنهيار وإفلاس شركات الطيران الكبرى ليس أمرا جديدا، بل دائم التكرار على نحو ما حدث سابقا لخطوط دلتا الجوية الأمريكية ولخطوط أليتاليا الإيطالية، ناهيك عن “بان أمريكان”!
صحيح أن خبر الإفلاس لا يعني خروج “جال” من عالم الطيران نهائيا، أو تجميد رحلاتها، أو تعثر نشاطها، أو تسريح كافة منسوبيها. وصحيح أن إعلان الإفلاس خطوة إجرائية تستهدف في المقام الأول إعادة الهيكلة بغية تصحيح الأوضاع التي أدت إلى الإفلاس. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هو كيف وقع عملاق الطيران الآسيوي في هذا المأزق الخطير؟ وكيف لم يستطع مديروه من تكييف أوضاعه مع المتغيرات وعوامل المنافسة الصعبة داخل منظومة الإقتصاد العالمي؟ وهل هذه هي بداية سقوط الكيانات اليابانية الكبرى التي ظلت طويلا محمية خوفا من إختراق الأجانب لها؟
للإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من الوقوف على تاريخ “جال” وما مرت به من تطورات منذ تأسيسها في الأول من أغسطس 1951 كشركة خاصة برأسمال قدره 100 مليون ين، وذلك بهدف إخراج البلاد من عزلتها وربطها جويا بالخارج في أعقاب إنتهاء الحرب الكونية الثانية.
كانت الرحلة الإفتتاحية للشركة بواسطة طائرة من نوع “دي سي 3” مستأجرة من الخطوط الجوية الفلبينية لتتلوها في 25 أكتوبر 1951 أول رحلة تجارية داخلية بواسطة طائرة من نوع “مارتن تو زيرو تو” و طاقم ضيافة معار من خطوط “نورث ويست” الأمريكية التي تعتبر اليوم أكبر ناقلة جوية أجنبية تسير رحلات من وإلى اليابان. حدث هذا قبل أن يمرر البرلمان الياباني في أغسطس 1953 تشريعا بإنشاء شركة طيران يابانية مملوكة للدولة تحت إسم “شركة الخطوط الجوية العالمية اليابانية أو “نيهون كوكو كابوشيكي غيشا هو”، على أن تستحوذ الأخيرة على كافة أصول وحقوق وإمتيازات الشركة القديمة.
في فبراير 1954 قامت الشركة الجديدة بتسيير أول رحلة دولية لها من طوكيو إلى سان فرانسيسكو عبر جزيرة “ويك” و”هونولولو”، مستخدمة طائرة من نوع “دي سي 6 بي” لم يكن على متنها سوى 18 راكبا.
بعد ذلك توسعت شبكة الشركة بامتلاكها في الخمسينات اسطولا متنوعا من طائرات مكدونالد دوغلاس. غير أن النقلة الكبرى للشركة جاءت في الستينات والسبعينات حينما إعتمدت حصريا في خدماتها الجوية على الطائرات النفاثة الضخمة من نوع “بوينغ”، وقامت بتسيير رحلات مباشرة إلى سياتل ونيويورك ولوس أنجيلوس وهاواي وهونغ كونغ ولندن وباريس وموسكو، حيث قيل وقتذاك أن نصف أرباح الشركة الصافية تأتي من رحلاتها عبر المحيط الأطلسي إنطلاقا من سواحل الولايات المتحدة الشرقية. أما في الثمانينات والتسعينات فقد شهدت الشركة توسعا أكبر في شبكتها الجوية بتسيير رحلات منتظمة للركاب والبضائع ما بين طوكيو وساوباولو وفانكوفر ومكسيكو سيتي عبر نيويورك. غير أن تلك الفترة شهدت أيضا صدور قانون في عام 1985 لخصصة الشركة وبالتالي إبطال مفعول القانونين رقم 45 و47 لعام 1972 اللذين اسبغا عليها صفة الناقلة الوطنية الحصرية لتسيير الرحلات الداخلية والخارجية. وهكذا لم يحل العام 1987 إلا والشركة قد تمت خصخصتها بالكامل لتنافس من غير دعم حكومي شركات طيران يابانية اخرى مثل ” أول نيبون إيرويز” و”جابان إير سيستم”. غير أن “جال” تمكنت في هذه الفترة الحرجة من الصمود، أولا بفضل ما جنته من أرباح خدمات الرحلات المستأجرة “تشارترد فلايت” أثناء حرب الخليج الثانية في عام 1990، وثانيا بفضل إتفاقيتها مع مؤسسة “ديزني” الأمريكية كي تكون الناقلة الرسمية لمدينة “ديزني لاند” للالعاب في طوكيو.
كان ما سبق مجرد إنذار مبكر لما سوف تواجههه الشركة مستقبلا! ففي سنوات التسعينات ووجهت “جال” بمصاعب مالية من جراء الكساد في الولايات المتحدة و بريطانيا وضعف القدرات الشرائية للسواد الأعظم من اليابانيين، والذي أثر كثيرا على حركة سفرهم إلى الخارج للسياحة. وهي لئن تمكنت مرة أخرى من الصمود بفضل تقليص النفقات و تقديم عروض مغرية للسفر على رحلاتها و الرحلات الإقتصادية السريعة للشركات الرافدة لها، فإنها عادت لتواجهة مشاكل إدارية وتخبطات مالية مع بداية الألفية الجديدة كنتيجة لإندماجها مع “جابان إير سيستم” وتكوينهما شركة قابضة جديدة تحت إسم “جابان إيرلاينز سيستم”.
ومما زاد الأمور تعقيدا وقتذاك قرار “جال” في عام 2005 الانضمام لما عرف بإسم “التحاف من أجل عالم واحد” والذي رأى اليابانيون فيه فرصة لتطوير ناقلتهم الوطنية الكبرى وتقديم خدمات أفضل لعملائها، ثم قرارها في عام 2008 بضم أحد أهم شركاتها الرديفة (جابان إيشيا إيرويز) إلى “جابان إير سيستم”، علما بأن “جابان إيشيا إير” كانت قد تأسست في عام 1975 لتستخدم حصريا في نقل الركاب ما بين اليابان وتايوان، بعد رفض حكومة بكين السماح لشركة “جال” بالهبوط في مطاراتها قبل أن تقطع كافة روابطها مع التايوانيين. فكانت تلك حيلة بارعة من “جال” إستفادت منها كثيرا، خصوصا وأن تايبيه هي الوجهة المفضلة لعشرات الآلاف من اليابانيين في عطلات نهاية الأسبوع.
مما سبق عرضه، يتبين أن إشهار إفلاس “جال” كأول واقعة فشل كبرى في اليابان خارج نطاق القطاع المصرفي، تضافرت فيه عوامل عدة. فإضافة إلى إشتداد المنافسة العالمية في سوق الطيران، وتراجع حركة السفر بسبب الأزمة الإقتصادية العالمية وإنفلونزا الخنازير، كانت هناك عوامل أخرى مثل التوسع الكبير في تحديث الأسطول الجوي و إفتتاح محطات جديدة كثيرة، والدمج غير المدروس، وسؤ الإدارة، وتزايد الديون، وإنقطاع الدعم الحكومي، وإرتفاع أسعار الوقود، والإستثمار في الفنادق والمنتجعات الأجنبية.
ولأن “جال” تعتبر من وجهة نظر الحكومة اليابانية إحدى روافد التنمية المستقبلية في البلاد، فإن طوكيو بدت شديدة الإهتمام بمأزقها، وبادرت فورا إلى التأكيد على أنها لن تتخلى عنها وستساندها بقوة “من خلال حزم إنقاذ حكومية سخية” حتى تخرج من عثرتها، مستبعدة سماحها لشركات طيران أجنبية بالاستحواذ عليها، الأمر الذي وضع حدا لتكهنات إنتشرت حول قرب استحواذ شركتي طيران “دلتا” و “أمريكان إير لاينز” الأمريكيتين على حصة معتبرة في “جال” وبالتالي تعزيز أقدامهما داخل اليابان و الشرق الأقصى.
ويرى المراقبون أن إختيار “كازو إيناموري” مؤسس شركة “كيوسيرا” للإلكترونيات وأحد أبرز خبراء الإدارة اليابانيين لشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة “جال” بدلا من الرئيس المستقيل “هاروكا نيشيماتسو”، معطوفا على تقديم بنك مملوك للدولة لمبلغ 145 مليار ين لشركة “جال” كتمويل طواريء، وقيام مؤسسة مدعومة من الدولة تدعى ” مؤسسة مبادرة التحول التجاري” بإبداء إستعدادها للقيام بعملية إعادة هيكلة شاملة للشركة الجوية، هي في الواقع شواهد تبشر بالخير، وإن إستدعت العملية الأخيرة إجراءات مؤلمة مثل تسريح ثلث أجمالي العاملين في “جال” و إغلاق خمس المحطات الخارجية.
elmadani@batelco.com.bh
باحث و محاضر أكاديمي متخصص في الشئون الآسيوية من البحرين