لم يكن اللقاء الذي عقده المرشد الأعلى للنظام الإيراني مع مجموعة مختارة من أهالي محافظة سيستان وبلوشستان، وخصوصاً من أهل السنّة عفوياً لجهة توقيته والأبعاد التي تضمنها.
وجاء اللقاء عشية الذكرى السنوية لحركة الاحتجاج الذي شهدتها إيران في سبتمبر (أيلول) الماضي على إثر جريمة قتل الفتاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق التابعة للسلطة، بخاصة أن هذه الحركة لم تقتصر على العاصمة طهران أو المدن الكبرى، بل توسعت لتشمل محافظات الأطراف التي تضم أبناء القوميات غير الفارسية من كردية وعربية وبلوشية وحتى أذرية التي بمجموعها تمثل التعددية والتنوع الذي تمثله شعوب الهضبة الإيرانية بمختلف قومياتها.
وبغض النظر عن الإجراءات التي قامت بها السلطة على مدى العام الماضي للاستيعاب أو السيطرة على تداعيات الحراك الشعبي، فإن خطاب المرشد بهذا التوقيت الذي يأتي استكمالاً لسلسلة خطابات ومواقف اتخذها خلال الأزمة وأثناءها، يهدف إلى إيصال رسالة واضحة لكل القوى الداخلية من مختلف المكونات القومية والمذهبية والسياسية، وأيضاً لكل القوى الخارجية التي لعبت دوراً في إذكاء ودعم هذا الحراك.
الرسالة التي تقف وراء اللقاء هي أن النظام ومنظومة السلطة لن تتهاون أو تقف متفرجة على ما قد يحصل، وأنها على استعداد للتصدي بكل ما لديها من قوة وإمكانات لمنع انهيار النظام أو استهدافه من قوى داخلية أو خارجية، وأن المنظومة وأجهزتها على استعداد للذهاب إلى أقصى وأقسى الخيارات في الدفاع عن مصالحها التي هي مصالح النظام، وتنوب عن الشعب الإيراني في تحديد مصالحه وأهدافه ومطالبه.
ولم يكن صعباً على المرشد الإيراني أن يرسم استراتيجية النظام ومؤسساته وأجهزته في التعامل مع أي تهديد قد تتعرض له المنظومة، واختار الذهاب إلى ترسيم عدو خارجي حمله مسؤولية المؤامرة التي تعرض لها النظام والأحداث التي حصلت العام الماضي المرافقة لحركة الاحتجاج التي شهدتها إيران بعد مقتل مهسا أميني، وذلك من خلال الحديث عن “غرفة عمليات” شكلتها الولايات المتحدة الأميركية مهمتها البحث عن نقاط الضعف في النظام وتحويلها إلى أهداف لزعزعة استقراره والقضاء عليه.
ولم تخرج نقاط الضعف التي تحدث عنها خامنئي عن الأزمات التي واجهتها منظومة السلطة خلال الحراك الشعبي والذي أخذ مستويات عدة من المطالب، فهو تحدث عن أن غرفة عمليات العدو الأميركي حددت أهدافها في الخلافات المذهبية والاختلافات القومية وقضايا المرأة ومسألة الجندرة، مما يعني أن توقف أعلى سلطة في هرمية النظام والقرار عند هذه النقاط أو الإشكالات تكشف عن أن منظومة السلطة تعرف المكامن التي تشكل بؤراً للخطر، وتحمل في داخلها إمكان الانفجار أو التفجر في أية لحظة.
تراكم الإهمال المتعمد أو المقصود للمعالجات، أو التخلي عن مهمة البحث عن حلول أو تطبيق الحلول التي تضمنها الدستور في التعامل مع هذه النقاط التي تضمن الحد الأدنى من الحقوق للشرائح الاجتماعية المعنية بهذه الإشكالات، تتحمل مسؤوليتها منظومة السلطة وأجهزتها التي ذهبت إلى خيار التعامل مع مطالبات هذه الفئات من منطلق أمني وعسكري، واتهام أي حراك بالمؤامرة التي تدار من الخارج لتوفير الغطاء للأعمال القمعية التي تمارسها، وبالتالي لم يكن أمامها عند انفجار الحراك العام الماضي، وكما في كل حراك سابق أيضاً، سوى الذهاب إلى خيار العنف والقمع في محاولة لإخفاء أو التغطية على الحقائق أو المطالب المحقة لهذه الشرائح.
والعلاجات الترقيعية التي اعتمدها النظام في التعامل مع مطالب هذه الفئات والشرائح الاجتماعية بمختلف مستوياتها وطبائعها لم تكن ولم تشكل حلولاً جذرية لأسباب الأزمات والحراكات والانتفاضات الدورية التي يشهدها الشارع الإيراني، سواء تلك التي لها طابع عام أو ذات الطابع الخاص المرتبط بالأبعاد القومية والمناطقية، والحقوق الطبيعية تشكل الحد الأدنى لأي مجتمع طبيعي في نظام يدعي العمل على بسط ونشر العدالة الإنسانية والاجتماعية والمعيشية وتكافؤ الفرض.
استحضار المرشد الأعلى التاريخ وتجاربه وعلاقاته في محافظة سيستان وبلوشستان، والتذكير بأن هذه المحافظة كانت المكان الذي نفي إليه أيام النظام الملكي السابق وأنه تعرض للاعتقال خلال نشاطاته بين أهل السنّة، لم يكن ليحصل ما لم تكن دوائر السلطة والقرار قد أحست بحجم التحديات والأخطار التي تحدق بالنظام في ظل استمرار سياسة الإهمال وعدم الوقوف على مطالب هذه الجماعات، خصوصاً في ظل ما يتعرضون له من أزمات اقتصادية ومعيشية وشح في المياه وجفاف دفع كثيراً منهم إلى الخروج للشوارع معترضين ومطالبين بالتغيير.
تلك التظاهرات تحولت إلى تحد حقيقي تزامناً مع الحراك الذي انطلق بعد مقتل أميني ورفع شعار “المرأة، الحياة، الحرية”، عندما خاضت هذه المنطقة أعنف مواجهات مع قوات الشرطة وحرس الثورة الإسلامية، وأدت إلى سقوط نحو 100 قتيل في يوم واحد، مما دفع أحد زعمائها الدينيين وهو مولوي عبدالحميد إلى كسر حاجز الصمت ومراعاة المرشد والنظام وأجهزته، عندما هاجم النظام الإسلامي وأجهزته على خلفية تراكم القمع الديني والمدني والحرمان من أبسط الحقوق المدنية والتنموية وغياب الحريات، مما جعله عرضة لحملة تسقيط وتشويه ممنهجة ومحاصرة من قبل النظام بموافقة المرشد، بحسب وثائق ومحاضر جلسات سرية جرت في مكتب المرشد تم تسريبها خلال الاحتجاجات.