هذا العنوان قد يثير
الكثير من القرّاء، وخاصّة أنّه من الشائع الحديث عن حالات هي العكس من ذلك تمامًا. صحيح أنّ الجزية التي تُفرض على أهل الكتاب هي جزء من العقيدة الإسلامية منذ بداية الصراع الإسلامي مع سائر المعتقدات، وصحيح أنّ التاريخ العربي والإسلامي يكشف لنا مع الكثير من التوسُّع عن هذه المعاملات مع الأقوام في البلدان التي احتلّتها الجيوش الإسلامية الغازية. كما لا يزال هنالك وإلى يومنا هذا الكثير من الإسلاميين الّذين ما زالوا يتمسّكون بهذه الأيديولوجيّة الغابرة ويعبّرون عن تمسّكهم بهذه التوجهات علانية.
غير أنّنا في هذه المقالة الآن سنتعرّض إلى حالات لا تصل إلى مسامع القارئ العربي أحيانًا. إنّها حالات معكوسة بالضبط، حيث فرض فيها النصارى بالذّات هذه الجزية على المسلمين. وعلى ما يبدو فقد كان هؤلاء النصارى يعلمون الكثير عن معاملة المسلمين السيئة لأبناء عقيدتهم، ولذا فقد قرّر هؤلاء أن يعاملوا المسلمين بمثل ما كان المسلمون يعاملونهم عندما يحتلّون بلادهم.
نعود إلى التاريخ، وإلى القرن
العاشر على وجه التحديد، لكي نقرأ ما دوّنه لنا السلف من أحداث في هذه المنطقة، وعلى وجه التحديد في المناطق الحدودية، مناطق التماس الشمالية بين الإسلام والمسيحية، أي إلى ثغور الشام الممتدّة بين أنطاكية وحلب وبلاد الرّوم. سأتطرّق في هذه المقالة إلى ما حصل في مدينة واحدة من هذه الثغور، وأعني بها مدينة طرسوس، وهي المدينة التي تقع هذه الأيّام في جنوب تركيا.
في تلك الفترة من القرن العاشر كانت الحروب متواصلة بين المسلمين والروم في هذه الأصقاع، كما في غيرها من نقاط التماس بين المسلمين وسائر الأقوام. لقد كانت هذه المدينة قد احتُلّت من قبل ووقعت تحت الحكم الإسلامي، وكان ابن الزيّات واليًا عليها في عهد سيف الدولة. وكما تذكر الروايات فقد كان المسلمون فيها ”بأحسن حال“. غير أنّ أوضاع المسلمين قد تغيّرت بمرور الوقت، فقد انشغل هؤلاء ببعضهم البعض: ”هذا وسيف الدولة حيّ يرزق بميّافارقين والملوك كلّ واحد مشغول بمحاربة جاره من المسلمين“ (ياقوت الحموي، كتاب البلدان، ج 4، ص 28)
نقفور ملك الرّوم:
لقد استمرّ وضع الثغور على تلك الحال، بل ولانشغال المسلمين ببعضهم البعض فقد تركت تلك الثغور لتواجه مصيرها بنفسها: ”وتخلى ملوك الإسلام عن أهل الرباط بها“. (أبو الفدا: تاريخ حلب، ج 1 ص 24) وهكذا، وعندما ملك نقفور الفقاس (Nikephoros II Phokas) بين السنوات 963–969 للميلاد على أرض الرّوم فقد قرّر أن يسترجع تلك البلاد التي وقعت تحت الاحتلال الإسلامي: ”إلى أن كان سنة 354 هـ فان نقفور ملك الروم استولى على الثغور وفتح المصيصة… ثم رحل عنها ونزل على طرسوس… وكان بها من قبل سيف الدولة رجل يقال له ابن الزّيّات ورشيق النسيمي مولاه فسلّما إليه المدينة على الأمان والصلح…“ (ياقوت: بلدان)
كيف تمّ التسليم؟
لقد دخل نقفور مدينة طرسوس في سنة 965 للميلاد، وتقدّم كما تفيد الرواية التي دوّنها أبو الفدا، ثمّ: ”نصب رمحين، جعل على أحدهما مصحفًا، وعلى الآخر صليبًا، ثم قال لهم: من اختار بلاد الإسلام فليقف تحت المصحف؛ ومن اختار بلاد النصرانية فليقف تحت الصليب.“ (أبو الفدا، تاريخ حلب، ج 1 ص 24).
بل وأكثر من ذلك، فهنالك من يروي بتفصيل أكثر خطبة ملك الروم قبل جلاء المسلمين عنها: ”وحدث أبو القاسم التنوخي قال: أخبرني جماعة ممن جلا عن ذلك الثغر أن نقفور لما فتح طرسوس نصب في ظاهرها علمين ونادى مناديه: من أراد بلاد الملك الرحيم وأحبّ العدل والنّصفة والأمن على المال والأهل والنفس والولد وأمن السبل وصحة الأحكام والإحسان في المعاملة وحفظ الفروج وكذا وكذا، وعد أشياء جميلة، فليصر تحت هذا العلم ليقفل مع الملك إلى بلاد الروم، ومن أراد الزنا واللواط والجور في الأحكام والأعمال وأخذ الضرائب وتملّك الضياع عليه وغصب الأموال، وعد أشياء من هذا النوع غير جميلة، فليحصل تحت هذا العلم إلى بلاد الإسلام.“ (ياقوت، بلدان)
شروط ملك النصارى:
لقد وضع نقفور شروطًا على المسلمين لدى تسليم المدينة. إمّا الجلاء، أو بتعابير هذا العصر – ترانسفير، وإمّا البقاء بوصفهم أهل ذمّة يدفعون الجزية، وإمّا التنصّر: ”واشترط تخريب الجامع والمساجد، وأنه من أراد المقام في البلد على الذمّة وأداء الجزية فعل، وإن تنصّر فله الحباء والكرامة وتقرّ عليه نعمته.“ (ياقوت: بلدان).
وهكذا، تفرّق أهل طرسوس، ”وخرج أكثر الناس يقصدون بلاد الإسلام وتفرّقوا فيها“، غير أنّ البعض منهم قد تنصّر ”فأقرّت نعمهم عليهم وأقام نفر يسير على الجزية،“. ثمّ طفق نقفور في تخريب المساجد وإحراق المصاحف: ”وملك نقفور البلد فأحرق المصاحف وخرّب المساجد وأخذ من خزائن السلاح ما لم يسمع بمثله، مما كان جُمع من أيّام بني أميّة إلى هذه الغاية.“ (ياقوت: بلدان)
وتفيد الروايات أنّ عدد المسلمين الذين جلوا عن طرسوس بعد تسليمها لنقفور قد بلغ مائة ألف: ”فخرج المسلمون فحُرزوا بمائة ألف ما بين رجل وامرأة وصبي“ (أبو الفدا: تاريخ حلب)
تراجيديا إنسانية:
لدى قراءة الروايات يمكن الوقوف على تلك التراجيديا الإنسانية التي حصلت مع احتلال طرسوس: ”ودخل الروم إلى طرسوس فأخذ كلّ واحد من الروم دار رجل من المسلمين بما فيها ثم يتوكل ببابها ولا يطلق لصاحبها إلا حمل الخفّ فان رآه قد تجاوز منعه حتى إذا خرج منها صاحبها دخلها النصراني فاحتوى على ما فيها.“ (ياقوت، بلدان)
ليس هذا فحسب، بل إنّ التراجيديا تزداد بسبب ما يُستشفّ من الحال والأعوام التي سبقت. إذ تشي الرواية بما جرى للنساء النصرانيّات مع احتلال المسلمين للمدينة. وكما جرت العادة في تلك الأيّام فقد سُبيت النساء النصرانيّات وتملّكهنّ رجال من المسلمين، وأنجبن منهم أولادًا.
والآن، ومع استرجاع الرّوم لطرسوس ووضع شروط التّسليم، تشير الرواية إلى تفريق الأبناء عن الآباء. إذ أنّ أولئك النسوة من السّبايا شعرن بالحرية من جديد، وانحزن إلى أهلهنّ من بلاد الرّوم. وهكذا تستمرّ الرواية في سرد الأحداث التراجيدية: ”وتقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم لما رأين أهاليهنّ، وقالت: أنا الآن حرّة لا حاجة لي في صحبتك، فمنهنّ من رمت بولدها على أبيه، ومنهنّ من منعت الأب من ولده فنشأ نصرانيّا، فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم فيودع ولدَه ويبكي ويصرخ وينصرفُ على أقبح صورة حتى بكى الروم رقّةً لهم. (ياقوت، بلدان)
الوجهة – بيت المقدس:
نقفور، ملك النصارى، كان يفكّر في مواصلة القتال للعودة والسيطرة على بيت المقدس. هذا ما يُستشفّ من مجريات الأحداث التي حفظتها لنا الرواية: ”ودخل نقفور إلى طرسوس، وصعد منبرها، وقال لمن حوله: أين أنا؟ قالوا: على منبر طرسوس. فقال: لا، ولكني على منبر بيت المقدس. وهذه كانت تمنعكم عن ذلك.“ (أبو الفدا، تاريخ حلب).
وهكذا نرى أنّ هذا الشّرق مأزوم برجاله ومعتقداته وسلوكيّاته منذ قديم الزّمان. وما أحوال هذا الشرق في هذه الأيّام سوى تكرار ورجع صدى لذلك الماضي الغابر الذي لا يستطيع منه أهل هذه المعتقدات المشرقية فكاكًا.
إنّ من يرغب في دفع هذا الشرق قدمًا، لزام عليه أن يترك كلّ الماضي للمؤرّخين فحسب، لا أن يعيش الآن ليل نهار في هذا الماضي ومآسيه. إذ، لكثرة ما في هذا المشرق من ماضٍ ومن معتقدات ومآسٍ فمن الصعب على المرء أن يرى المستقبل.
والعقل ولي التوفيق!
*
موقع الكاتب: من جهة أخرى
إيلاف