محبو الشعب، الرومنطيقيون منهم والشعبويون، أطربهم دور الشعب في الثورة المصرية المنتصرة. كانت عودة إلى الأناشيد والأوصاف والمدائح، وكلها تؤكد على ما كان هؤلاء المحبّون متأكّدون منه منذ المهدْ: من أنهم «كانوا على حق» عندما امتنعوا عن النظر إلى أي عيب، أي شائبة، أصابا الشعب في العهد السابق على هذه الثورة. الشعب، في تلك الأزمان الغابرة القريبة، كان سلبياً، متوتراً، محتقناً، أنانياً، متلاعباً، خائفاً، غوغائي الهوى والذوق.
الشعب بصفاته السابقة هذه، قبل عهد الثورة الجديد، كان أضعف من النظام. صفاته السلبية تمكّنت منه عندما لم يعد أمامه إلا صيغة واحدة فرضها عليه النظام: استبداد وفساد ومزايدة دينية، حولت المصريين بأسرهم إلى شعب يتساءل بلا كلل عما حلّ عليه من مصائب، عن الجريمة التي اقترفوها، ليتشوّهوا على هذا النحو، ليصبحوا رافضين لهويتهم الوطنية حتى الإنكار.
«ماذا حصل للمصريين؟» كتاب لجلال أمين، كان أكثر الكتب تداولاً بين المصريين؛ وكنتَ لا تسمع مصرياً يشتكي من حال اليوم، إلا ويردفها بيمين معظّم بأن المصريين عمرهم ما كانوا على هذه الدرجة من السلبية والقنوط. ثم يسترسل بالتذكّر، كيف أن أخلاق الشعب كانت كذا، والمعاملات كذا، والمستوى، والذوق والثقافة والجمال والطيبة و»الجدْعنة» (الشهامة)… يبدو الآن وكأنه من قارة أخرى، من كوكب آخر. هو الشعب نفسه الذي ولد منه الموسيقيون والروائيون والشعراء والحقوقيون والأبطال القوميون… ها هو اليوم يبخل على نفسه بالجمال والخير والأمل.
أحسب أن العديد من الذين تظاهروا في أسابيع الثورة الثلاث، كانوا قبيل ذلك يائسين من وطنهم، يتوقعون أنه، لو بقي على هذه الحال، فلن يورثوا أولادهم الا الخراب؛ وبعضهم سعى إلى الجنسية الأجنبية عبر أولاده، ليفلتوا من تلك اللعنة التي تتمثل بكونهم مصريين.
النظام في ذاك العهد الفائت كان واضعاً بصماته بقوة على المجتمع، على الشعب، وكان الشعب يرد له الصورة، بما يضاهيها من بشاعة. فيما «المعارضة»، المحظورة منها والمقبولة، تتعايش مع هذه البشاعة، وتنصهر بأخلاقياتها. كأن الشعب و»معارضته» يحاكيان بذلك السلطة، بمزاجها وأطوارها.
هذا الشعب نفسه ذو الصفات السلبية التي لا تُحصى، بدا في أيام الثورة شعباً آخر. بين ليلة وضحاها، قفز من حالة العنف والتواكل والتفكّك إلى حالة نقيض. كتبت الروائية المصرية أهداف سويف: «كنا في حالة من الدهشة والجمال، الكل يشعر أنه واحد، خلية في جسم كبير، وكل خلية عرفت دورها من نفسها(…) كيان عضوي اكتشف نفسه وتحرّك». فكان «الإعجاز»، كما تستنتج: إعجاز إسقاط النظام، لأن الشعب صار مصدر السلطات.
ما سرّ هذا التحول؟ من شعب سلبي، يهرب قدره من بين يديه، إلى شعب ايجابي، يصنع هذا القدر؟ ما الذي أعاد عجن هذا الشعب لتنضح منه كل هذه الصفات، الايجابية والغيرية والكرم والتصميم والشجاعة، لا بل الحب وخفّة الظل؟ ومن دون طلقة رصاص واحدة؟ من دون اعتماد «حرب التحرير الشعبية»، أو «حرب العصابات«؟.
«ميدان التحرير هو المدرسة التي تعلّمنا فيها كيف نتضامن ونتحاور»، تتابع أهداف السويف. «المدرسة» التي عجنت هذا الشعب وحوّلته بسرعة قياسية إلى شعب آخر؛ تلك هي المنطقة التي سوف يطرح عليها المؤرخون السؤال لفهم ما حصل بالضبط.
حتى الآن، نستشعر القليل من الأشياء، نحدس ملامحها العامة.
مثلاً: كيف نفهم غياب التحرّش بالمتظاهرات أو المشاجرات، في هذا الجمع الذي يغري بهما، فيما المعروف أن التحرّش كان يتكرر في مجالات وظروف أقل إغراء؟ ربما الجواب في الاتجاه الذي صوّبت نحوه الطاقات البشرية، وطبيعة هذه الطاقات: في العهد الماضي، كان التوتر والعنف محرّك الطاقات، وهذه الطاقات، وكلها فردية، كانت تتوجه نحو بعضها، لا نحو شيء مشترك، أو أعلى، أو مرغوب. أما في الميدان، فبدا وكأن طاقة ايجابية جبارة محمولة على أمل مشترك، مفتوحة على الاحتمالات، خارجة على الأنانيات، انتزعت المبادرة من السلطة القائمة، تأطّرت تلقائياً نحو هدفها… فولد شعب آخر عرف كيف يتوحّد ويتجمع وينظّم نفسه بنفسه على امتداد ثلاثة أسابيع.
مثلٌ آخر: يقول الناشطون الشباب الذين قادوا الحركة إنهم، طبعاً، لم يكونوا يتوقعون كل هذا النصر الباهر. ولكنهم يقولون، عندما يدخلون في تفاصيل بعض لحظات هذه الثورة، بأنهم، في البداية، لم يكن غرضهم من التظاهرات سوى إقالة وزير الداخلية، حبيب العدلي، الذي أمعن في البطش والاذلال والاعتقالات التعسفية والقتل المجاني. ويضيفون بأنهم عدلوا خطتهم عندما وصلتهم أخبار تنحّي الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي وخروجه من البلاد. هنا طاقة أخرى، مدّت حركة الثورة بسقف أعلى مما وضعته في البدء، فكانت منعطفاً في مسارها، لحظة فارقة منحت الشعب فيها مبادرة تاريخية، فتلقّفها بلهفة من اشتاق إلى نفسه.
هل يكفي أن نقول بأن الشعب كان وصل إلى نهاية صبره، وأن شعارات الشباب طالته في الصميم، وأن الاهتراء بلغ ذروته… حتى نفهم تماماً التحول شبه الكيميائي لهذا الشعب من الحالة السابقة، السلبية، إلى الثانية، الايجابية؟
ضرورية هي تلك الأسباب، ولكنها غير كافية. نحتاج إلى سبر أغوار الأيام الـ18 التي تحول فيها الشعب المصري إلى شعب آخر: الأيام والدقائق، شدة كثافتها، وسرعة وتيرتها، والمفاجأة التي شكلتها لدى أكثرهم تفاؤلاً. فمن فرادة هذه الثورة أن ما حققته فاق توقّعات أصحابها.
لكن المهم أن الثورة المصرية بيّنت كم أن الشعب ذاته يمكن أن يكون بخلاف ما اعتاد أن يكون، عندما يُفسح له التاريخ الفرصة ليبادر بنفسه، ويقرر بنفسه. فما بالك وأن هذا الشعب ذو مخزون ألفي من السرديات والتجذّر ومعرفة استثنائية بأصول شظف العيش ومترتباته؟ مخزون كان مرمياً في اللاوعي الجمعي، مهملاً، ميؤوساً من انبعاثه… فجرته هذه الثورة، فكان الشغف الشعبي بها، مثل شفاء من هزيمة حزيران 1967، ولاّدة الإحباطات اللامتناهية.
على المنوال نفسه، علينا ربما أن نتوقف عن رثاء حالنا، نحن اللبنانيين، من كوننا، آخر المرشحين لإصلاح أوضاعنا؛ أن نتوقف تحديداً عن البكاء على أنفسنا، من أننا لا نجتمع إلا كطوائف: «لعنة على هذا الشعب الطائفي، الذي لا يمكن له أن يكون موحداً مثل الشعب المصري…« إلخ. قد تكون أهم دروس ميدان التحرير لنا، أن الشعب ليس كياناً جامداً ثابتاً، كتلة صلبة من الاسمنت؛ وأنه هو نفسه هذا الشعب «التعبان» الذي لا يعبّأ ولا يتظاهر إلا طائفياً… لو توفّرت له الفرصة التاريخية غير الملغومة، فسيكون شعباً آخر، موحّداً ضد نظام قسّمه، وحوّله شعوباً وطوائف.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
نوافذ “المستقبل”