عندما صار التشيع مذهبا قوميا إيرانيا، اصطبغ من جراء ذلك بصبغة الغرور القومي وأمسى عقيدة سلطانية خامدة، لا تختلف عن أي عقيدة أخرى من عقائد السلاطين.
عندما طالعتني هذه الجملة في الشرق الأوسط: “وإلى الآن، لم يجرؤ شيعي مثقف أو عادي أن يقول لستالين ‘حزب الله’ أن الشيعة هم أيضا عرب. وليست لهم مطامع في سوريا. ولا يقبلون بالمجازر التي يرتكبها مرتزقته في سوريا” للصحفي غسان الإمام في مقالته في 22 سبتمبر، أصبت بالذهول. ذلك أن أكثر من تجرأ وانتقد حروب حزب الله سواء في لبنان أو في سوريا، هم من الكتاب ورجال الدين اللبنانيين الشيعة. وهي ليست المرة الأولى التي يذكر فيها كاتب في صحف خليجية هذا الموقف المجحف. هذه المقالة (إضافة إلى جميع ما سبقها) مهداة لكل من يكرر، دون وجه حق، بأن “شيعة لبنان العرب” لا يتجرؤون على نقد حزب الله ومرجعياته.
كان الخلفاء الأوائل الذين يجمعون صفتيْ الرئيس الديني والسياسي معا بتسمية واحدة: أمير المؤمنين، يُختارون من بين صحابة النبي. لكن الاعتراضات السياسية بدأت منذ تلك الفترة. باختصار، الشيعة بمجملهم اعتقدوا أن الخلافة كان يجب أن تؤول إلى علي معتبرين أن الخلفاء يجب أن يُختاروا من عائلة النبي. وبالعكس، كان جزء آخر من المسلمين يعتقد أن الخلفاء يجب تعيينهم.
عندما آلت السلطة إلى الأمويين، بعد اغتيال علي وتخلي الحسن ومقتل الحسين في كربلاء الذي سيجعله رمزا ويصبح شعارا في الإسلام، قوامه الصراع من أجل الخير والحق والاستشهاد الضروري لكل من يقاتل من أجل العدالة، ابتعد الشيعة عن السلطة وبدأت الشيعية تتخذ سماتها الأساسية كحركة سياسية دينية، وستصبح ملجأ للمستائين في الامبراطورية الجديدة، وللذين لا يتحملون، لأسباب عرقية، هيمنة العرب، أو لا يطيقون الهيمنة الأموية. فهذه الامبراطورية العربية القائمة على التوسع كانت تترك في الواقع فئات عريضة ممن تحكمهم في حالات من عدم الاندماج في مجتمعاتها. وبخلاف التاريخ المسيحي، لم تتعلق الانفصالات الأولى في العالم الإسلامي بالمسائل اللاهوتية والعقائدية، بل حول القضايا السياسية، بشكل أساسي. لكن الشيعة وتفرعاتهم، لجأوا بعد فترة، إلى تطوير اجتهاداتهم اللاهوتية، المستوحاة غالبا من الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، لكي يحددوا خلافاتهم مع السنة ويشرّعوا خصوماتهم ومنافساتهم الداخلية.
يورد فرنسوا تويال أن الشيعة ظلوا خارج الحكم حتى القرن الحادي عشر الميلادي حيث آل الحكم إليهم. وخلال قرن حكمت سلالات شيعية مختلف المناطق في العالم العربي، تاركة السنة في موقف الدفاع عن النفس. فالفاطميون هم شيعة إسماعيليون حكموا مصر، بينما البويهيون الإثنا عشريون رسخوا أقدامهم في العراق، دون أن ننسى القرامطة، وهم إسماعيليون، الذين كانوا يسيطرون على الخليج انطلاقا من البحرين.
هذه السلالات كانت تشجع إسلامها الشيعي الخاص لكنها لم تلجأ إلى قهر السنة بإجبارهم على اعتناق المذهب الشيعي. في المقابل وإن تأخرت ردة الفعل السنية، فقد انتهت باستبعاد هذه السلالات وإلغائها، مفتتحة بذلك عهدا جديدا من تاريخ الشيعة: عهد القمع والاستبعاد. هنا أخذ الشيعة يستعيدون وضعهم الأول كأقلية اجتماعية، مع صفة خاصة تميزهم: الانكفاء في مناطق جغرافية معينة كالمناطق الجبلية، في محاولة لاتقاء ردة الفعل السنية، وهذا ما يفسر اليوم وجود جبل الدروز وجبال العلويين والجبال الزيدية في اليمن ومناطق الأكراد الشيعة وشيعة جبل عامل إلخ…
الانغلاق والتمركز يبدوان أكيدين إذا ما نظرنا إلى خارطة عامة للوجود الإسلامي؛ فباستثناء إيران، يقطن الشيعة المناطق الجبلية النائية حيث يمكنهم أن يعيشوا إيمانهم المعتبر “كهرطوقي” بعيدا عن متناول السلطات القائمة في السهول. وعندما احتل الأتراك العثمانيون بلاد الإسلام، جعلوا أنفسهم أبطال المذهب السني، وبالغوا في الحذر من الشيعة وفي استضعافهم.
التحول الوحيد المهم في المشهد الشيعي، كان في إعلان السلالة الصفوية المذهب الشيعي الإثني عشري ديانة وطنية في بلاد الفرس في القرن السادس عشر. ستكون لهذا الاهتداء الصفوي إلى المذهب الشيعي آثار مهمة، إذ صار الفصل بين الإيرانية والشيعية أمرا عسيرا. فحتى القرن العشرين، وفيما عدا المجال السياسي الفارسي، الذي يشكل مساحة جغرافية محدودة، سينتصر الإسلام السني في كل مكان جاعلا من الشيعة فئة مهمشة اجتماعيا وسياسيا، مع استثناء وحيد: سيطرة الشيعة على إيران في الحقبة المعاصرة. من هنا شكل وضع الشيعة في إيران استثناء.
سلالة الصفويين، المتحدرين من تجمعات الصوفيين الأتراك في آسيا الوسطى؛ ومنذ تسلم الشاه إسماعيل مقاليد الحكم، فرضت المذهب الشيعي الاثني عشري كديانة للإمبراطورية، وجعلته إلزاميا في العام 1501.
افتراضات متعددة حاولت شرح هذه الظاهرة الفريدة. فالبعض يرى أن الصفويين، وقد كانوا قديما من البدو الشيعة الذين اضطهدتهم الإمبراطورية العثمانية، حاولوا أن يوجدوا سلطة موازية للسنة المسيطرين على العالم الإسلامي في تلك المرحلة؛ بينما يرى البعض الآخر أن هؤلاء الحكام الجدد أرادوا تقوية سلطتهم وزيادة تماسكها بواسطة الشيعية. ومهما يكن من أمر ظل الفرس يحملون راية التسنن في الإسلام حتى ظهر الصفويون وقد استخدموا شتى الوسائل لإكراه الفرس على دخول مذهب التشيع. ولجأوا إلى الاضطهاد والقتل والتعذيب في هذا السبيل. المفارقة أن شعارهم في ذلك كان: “يا عليّ” رمز العدالة.
ولإنجاز المهمة جرى استقدام “مبشّرين” من المناطق الشيعية التقليدية (جبل عامل في لبنان، العراق، البحرين)… لكن فرضه بالقوة على المجتمع الفارسي في تلك الفترة كان بداية تحول دمج الشيعة الإثني عشرية بالإيرانية، أي الهوية الألفية لدولة متعددة الأعراق. لكن هذا الدمج لم يصبح واقعا إلا في فترة متأخرة. يشهد على ذلك الوضع المتقلقل للشيعة في القرن الثامن عشر، عندما حاول الشاه نادر أن يعيد إرساء المذهب السني في إيران إثر التهديدات التي جابهه بها الأفغان، لكن مقاومة رجال الدين الشيعة أحبطت هذه المحاولة.
هكذا استتب التماثل بين التشيع والإيرانية مع السلالة القاجارية في أواخر القرن الثامن عشر، ليدوم حتى عام 1924. هنا يمكن الحديث عن اهتداء ثان إلى الشيعية: الأول كان عن طريق السلطة السياسية، أما الثاني فكان من فعل رجال الدين. صار بالإمكان رؤية رجال الدين يؤدون دورا مهما على المسرح السياسي.
وكما يرى علي الوردي، عندما صار التشيع مذهبا قوميا إيرانيا، اصطبغ من جراء ذلك بصبغة الغرور القومي وأمسى عقيدة سلطانية خامدة، لا تختلف عن أي عقيدة أخرى من عقائد السلاطين. الدور الذي لعبه الصفويون في تاريخ التشيع هو أنهم قاموا بتخدير مذهب التشيّع وترويضه. فأزالوا عنه النزعة الثورية التي كانت لاصقة به في العهود السابقة، وجعلوه مذهبا رسميا لا يختلف عن غيره من المذاهب الدينية الأخرى.
وبهذا دخل التشيع في طاحونة السلاطين فاختفت منه تلك الروح الوثابة التي بعثها فيه علي وأولاده على توالي الأجيال.
كان علي بن أبي طالب أنشودة الثورة في تاريخ الإسلام كله، لكنه أصبح على يد الصفويين ألعوبة تمثّل في المسارح. من هنا كانت معارضة رجال الدين العرب من أمثال الشيخ شمس الدين والسيد فضل الله لتقليد الطقوس الفارسية التي تمثل كل عام في عاشوراء والدم المراق خلالها، كما لولاية الفقيه التي ابتدعها الخميني.
كاتبة لبنانية