في عملية مشبوهة، لا يزال الكثير من خيوطها غامضة، قام نظام بيونغيانغ الستاليني الحديدي مؤخرا بمحاولة فاشلة لخرق القرار الدولي رقم 1874 الذي تم تبنيه في الثاني عشر من يونيو 2009 ردا على التجربة النووية الكورية الشمالية في 25 مايو من العام نفسه، والذي نص على توسيع الحظر المفروض على هذا البلد المشاغب ليشمل تفتيش ناقلاته البحرية والجوية كوسيلة لمنعه من تصدير مكونات وتقنيات السلاح النووي والصواريخ الباليستية.
وملخص الحكاية التي أثارت ردود أفعال غاضبة، خصوصا في تايلاند التي إختارها الكوريون الشماليون دون غيرها لتمرير فعلتهم المشبوهة من خلال أراضيها، هو أن نظام بيونغيانغ حاول أن يتذاكى على السلطات التايلاندية مستخدما التمويه واللف والدوران كعادته، فشحن 30 طنا من الأسلحة والمعدات الحربية المتنوعة على متن طائرة من نوع إليوشن 76 روسية الصنع، كانت تابعة لشركة طيران خاصة في كازاخستان تدعى “إيست وينغ”، لكن سلطات النقل المدني الكازاخية باعتها قبل نحو شهرين لشركة جوية جيورجية تسمى “ويست إير” وهذه الأخيرة أجرتها قبل مدة قصيرة لشركة أوكرانية. وزيادة في التمويه وبعثرة خيوط اللعبة كي يصعب جمعها، حرصت بيونغيانغ على أن يكون طاقم الرحلة المشبوهة من جنسيات مختلفة، فإختارت رحلة يقودها ملاحون من كازاخستان و روسيا البيضاء ودول أخرى من جمهوريات الأتحاد السوفيتي السابق. بل اختارت أيضا رحلة بدأت في كييف بأوكرانيا وهبطت في باكو بآذربايجان ومطارين آخرين أحدهما في دولة خليجية والآخر في دولة جنوب شرق آسيوية.
وبحسب إحدى الروايات، فإن بيونغيانغ كانت تعلم مسبقا أن الطائرة المذكورة لا تستطيع الوصول إلى وجهتها المفترضة لتفريغ شحنتها، دون التزود بالوقود في مكان ما في الطريق، وأنها تعمدت إختيار تايلاند، مفترضة أن مسئولي مطار “دون موانغ” الداخلي، حيث هبطت الطائرة للتزود بالوقود في 12 ديسمبر يمكن شراء صمتهم ببعض المال أو يمكن إستغفالهم بالإدعاء أن شحنة الطائرة ما هي إلا مكائن وحفارات للتنقيب عن النفط.
غير أن خطة السلطات الكورية الشمالية ذات التاريخ الحافل بالخداع والإحتيال والمراوغة لم يكتب لها النجاح المأمول هذه المرة، ليس فقط بسبب تشدد سلطات المطار التايلاندي، وإنما أيضا بسبب ورود معلومات إستخباراتبة مسبقة للحكومة التايلاندية عن تلك الخطة (قيل أن مصدر تلك المعلومات كان وكالة المخابرات المركزية الأمريكية).
وهكذا سارعت الشرطة التايلاندية إلى مصادرة حمولة الطائرة مع توقيف ملاحيها وأخذهم مكبلين إلى السجن، بعدما إتضح لها كذبهم حول حمولة الطائرة. وعلى الرغم من إدعاء طاقم الرحلة بأنهم ضحايا للعبة قذرة وأن سلطات بيونغيانغ قد خدعتهم فعلا حينما أوهمتهم أن ما شحن على طائرتهم مجرد آلات للتنقيب عن النفط، وليس سلاحا، فإن بانكوك إتهمتهم بحيازة السلاح ومحاولة إدخاله إلى البلاد بطريقة غير مشروعة (جريمة عقوبتها السجن مدى الحياة طبقا للقوانين التايلاندية)، وأوقفتهم على ذمة القضية لمدة 12 يوما قابلة للتجديد عدة مرات وبحد أقصى هو 84 يوما. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن تاجر سلاح روسي هو “فيكتور بوت” معتقل حاليا في بانكوك بانتظار حكم لترحيله إلى الولايات المتحدة التي تتهمه بالضلوع في عمليات تهريب دولية للأسلحة.
أما ما أثار الكثير من اللغط و التأويلات، ودفع مجلس الأمن القومي التايلاندي إلى عقد إجتماع طاريء له في 15 ديسمبر، فقد كان الوجهة المفترضة لتلك الشحنة الضخمة من السلاح والمشتملة على صواريخ أرض – جو، ومحركات صواريخ، ومدافع، وقنابل، وأسلحة خفيفة، وقطع من مكونات الأسلحة الثقيلة.
فعلى حين ذكرت بعض المصادر أنها كانت موجهة إلى دولة أفريقية سوداء، ذكرت مصادر أخرى أنها كانت في طريقها إلى سريلانكا الخارجة حديثا من حرب أهلية طويلة. ولهذا السبب سارعت كولومبو بالتبرؤ من الشحنة على لسان وزير دفاعها الذي نفى نفيا قاطعا أن تكون حكومته قد أبرمت صفقة لشراء السلاح من بيونغيانغ، مذكرا بأن بلاده قد أنهت حربها الأهلية وليست في حاجة للتزود بالأسلحة. والشيء نفسه تقريبا فعلته أوكرانيا وجورجيا وكازاخستان، حيث تبارت كل واحدة في الإدعاء بأن لا علاقة لها، لا بالطائرة، ولا بشحنتها، ولا بملاحيها. بل قامت كل واحدة بإلقاء المسئولية على الأخرى على نحو ما فعلته سلطات النقل الوطنية الجيورجية التي قالت لوكالة الانباء الآذارية أنها أجرت الطائرة المشبوهة لشركة أوكرانية، وبالتالي لا تتحمل أية مسئولية عن وجهاتها وما تحمله على متنها.
على أن فريقا من المراقبين لم يستبعد دولا في الشرق الأوسط كوجهة محتملة للشحنة، مشيرين تحديدا إلى تلك الدول الشرق أوسطية التي ترتبط بعلاقات تعاون وثيقة مع نظام بيونغيانغ مقابل علاقات عداء مع الغرب، خصوصا وأن الطائرة المستخدمة في خرق القرار الأممي قامت مرارا برحلات ما بين منطقة الشرق الأوسط وكوريا الشمالية مرورا ببانكوك. إلى ذلك ورد إسم “ميانمار” (بورما) كجهة محتملة للشحنة، انطلاقا من كونها تعاني عزلة وحصارا، ناهيك عن وجود قواسم مشتركة عديدة تجمع نظامها المنبوذ بنظام “كيم جونغ إيل” الكوري الشمالي. كما ورد أيضا إسما إيران وباكستان، إنطلاقا من تعاونهما العسكري القديم المعروف مع بيونغيانغ.
وطبقا لأحد المواقع الإلكترونية المتخصصة في شئون الطيران المدني (“فلايت غلوبال”)، فإن شركة طيران “ويست إير” الجورجية المشار إليها آنفا ترتبط بشركة “صن إير” الجوية السودانية الخاصة والتي تتخذ من الخرطوم مقرا لها. وكان إسما الشركتين قد ظهرا معا في موقع إلكتروني آخر متخصص بشئون الطيران هو “أفياشن هيرالد” وذلك عشية إختطاف طائرة تابعة للشركة السودانية إلى ليبيا في العام الماضي.
أما ما زاد من غموض الحدث فقد كان إدعاء كازاخستان، التي كانت تملك الطائرة إبتداءً، بأنها – أي الطائرة – من بعد بيعها إلى شركة جيورجية، تم إستئجارها من قبل شركة طيران نيوزيلندية تحمل نفس إسم الشركة الجيورجية، أي “ويست إير”، وتعود ملكيتها إلى مؤسسة “إس بي للتجارة والشحن المحدودة” النيوزيلندية، بحسب ما أفصح عنه الناطق بإسم الخارجية الكازاخية “إلياس عمروف”. وهذا ما أكده ايضا مسئولون جورجيون لاحقا في تصريحات لهم لوكالة الصحافة الفرنسية، حيث حاولوا إخلاء مسئولية بلادهم بإلقاء كامل التبعية على الشركة النيوزيلندية المذكورة والتي بدورها يكتنفها الغموض. حيث تشير المعلومات المتوفرة إلى أنها تابعة لمجموعة “جي تي” التي تتخذ من مدينة “أوكلاند” قاعدة لها، فيما يقول الموقع الإلكتروني للمجموعة أن قاعدتها في جزيرة “فانواتو”، وأنها تقدم طائفة عريضة من خدمات “الأوفشور” مثل تأمين الخصوصية وحماية الأصول والإستقلال المالي والتهرب الضريبي، وأن مالكها هو النيوزيلندي من أصل صيني ” لو زيهانغ” المختفي عن الأنظار حاليا.
وبمرور الوقت وتسارع الجهود للكشف عن لغز الطائرة وشحنتها، توفرت ثمة معلومات جديدة، كان من أبرزها أن الطائرة المتورطة في القضية لها – بحسب سجلات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة – تاريخ طويل، ليس لجهة انتقال ملكيتها من يد إلى يد فحسب، وإنما أيضا لجهة قيامها بتهريب السلاح ونقله إلى مناطق التوتر والحروب الأهلية في العالم مثل ليبيريا وسيراليون وجمهورية الكونغو الديمقراطية والصومال والسودان وتشاد، بل قامت في أكتوبر المنصرم بنقل كمية معتبرة من السلاح المستعمل من إحدى دول البلقان إلى جمهورية بوروندي الأفريقية. كما إتضح أنه لهذه الأسباب ولأسباب أخرى تتعلق بأنظمة السلامة والصيانة، أدرج الإتحلاد الأوروبي الطائرة المذكورة في اللائحة السوداء، فصارت لا تستطيع الهبوط في أراضي دول الإتحاد أو التحليق في سماواتها. وهذا ربما يفسر أسباب انتقال ملكيتها من شركة إلى شركة، ظنا من أصحابها أنهم بهذا العمل يستطيعون خداع الأوروبيين وتجاوز الحظر المفروض على رحلات طائرتهم تلك.
إلى ما سبق تبين أن شركة “ويست إير” الجيورجية لئن كانت مسجلة في ميناء “باتومي” الجيورجي المطل على البحر الأسود، ويملكها مواطن من “أبخازيا” هو ” تسافا جينادي”، فإنها تتخذ من موسكو عنوانا رسميا لها، بل يوجد مقرها الرئيسي في 18 شارع شابولوفكا بموسكو! كما تبين أن العنوان الأخير كان يستخدم أيضا من قبل شركة أخرى هي “أبافيا” للطيران والمسجلة في “أبخازيا” (جمهورية إنفصلت عن جيورجيا وتحتلها حاليا القوات الروسية). والجدير بالذكر أن طيران أبافيا كان شركة جوية ناشطة في أواسط جيورجيا حتى عام 2005 حينما دوهمت مكاتبها من قبل الشرطة المالية وأعتقل مديرها “زأور كيندرافا” الذي كان يشغل من قبل منصب رئيس مطار “سوخومي” السوفيتي، بتهمة نقل الأموال وتبييضها.
وجملة القول أن نظام بيونغيانغ الذي حرم من تصدير أدوات الموت والدمار، وهي كل ما يصنعه وتسخر عقول مواطنيه لإنتاجه، وجد في تهريب السلاح بطرق ملتوية أفضل وسيلة لكي يملأ خزائنه الخاوية بالمال، خصوصا وأن مبيعات السلاح تدر موارد مالية ضخمة.
إن هذه هي المرة الأولى منذ فرض القرار الأممي رقم 1874 التي تُصطاد فيها بيونغيانغ بالجرم المشهود، لكنها لن تكون الأخيرة بطبيعة الحال. وبالتالي فإن من واجب المجتمع الدولي بذل المزيد من الجهود لمنع تكرار مثل هذه العملية غير المسبوقة لجهة تشابك خيوطها وغموض تفاصيلها وتورط عدد كبير من الدول والشركات فيها.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh