من خصائص المجتمعات الزراعية، مثل مصر، ظاهرة «التخزين»، سواء كان تخزين الماديات، مثل المحاصيل وأدوات الزراعة والملابس، أو تخزين المأثورات والعادات والتقاليد والمخطوطات وأنظمة الإدارة والمُعتقدات والقصص والأساطير. الذى يتأمل النقوش والرسوم فى معابد الفراعنة يجد تسجيلاً أميناً لمُمارسات ما زالت موجودة معنا، إلى اليوم، أى بعد ستة آلاف سنة.
ومن الموروثات السياسية تقاليد «الدولة المركزية»، فقد تطلبت حاجة المصريين إلى ضمان وضبط جريان نهر النيل، الذى يعتمدون عليه فى بقائهم، إلى سُلطة مركزية تتولى تطهير مجرى النهر، وتقوية شاطئيه، وشق الترع لتوزيع المياه، وبناء السدود والخزّانات، لتوفير مياه الفيضان، واستخدامها وقت الحاجة فى مواسم الجفاف والتحاريق. ومن هذه الخبرات المُتراكمة وردت أقوال وأمثال ـ من قبيل «القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود»، و«من ينسى قديمه لا يفلح جديده».
فما علاقة هذه المُقدمة بالانتخابات الرئاسية، والحزب الوطنى، والمُعاملات الإسلامية؟
إن ضمن تقاليد وموروثات الدولة المركزية، توظيف الدين لخدمة وتكريس السلطة، أو لتحدى وتقويض السلطة، ورغم تغير لُغة المصريين ودياناتهم أربع مرات على الأقل خلال الستة آلاف سنة الماضية، فقد ظل استخدام الدين فى السياسة مُمارسة مُستمرة، سواء تم الإفصاح عن ذلك صراحة أو تم ضمنياً.
وحين استحدث المصريون مُمارسة الأحزاب السياسية، فقد كان هناك حزب رئيسى واحد يُحاول الهيمنة أو السيطرة، وهو عادة الحزب الحاكم، أو حزب الأغلبية، وفى تاريخ مصر الحديث كان هناك حزب الوفد «سعد زغلول ثم مصطفى النحاس، ثم فؤاد سراج الدين»، ثم الاتحاد القومى، ثم الاتحاد الاشتراكى، ثم الحزب الوطنى، وسيطر هذا الأخير فى عهدى الرئيسين أنور السادات وحسنى مُبارك – أى طوال أربعين عاماً – وهى الحقبة الأطول فى تاريخ مصر الحديث.
وكانت كُبرى القوى المُنافسة للحزب الوطنى، خلال العقود الأربعة الأخيرة، هى جماعة الإخوان المسلمين، وحينما ثار شباب الطبقة الوسطى لإسقاط نظام «مُبارك»، ومعه الحزب الوطنى، فى «فبراير 2011»، التحق بهم شباب الإخوان المسلمين فى اليوم الخامس للثورة، بعد أن تأكد لهم أن تلك الثورة ستنجح بهم أو بغيرهم.
ورغم هذه المُشاركة المُحتشمة والمُتأخرة، إلا أن جماعة الإخوان المسلمين أسرعت بمُحاولة اختطاف الثورة، وكان يُنافسهم فى مُحاولة الاختطاف هذه، المجلس الأعلى للقوات المُسلحة.
وكما يقول المُفكر الإسلامى الكبير جمال البنا، الشقيق الأصغر لمؤسس الجماعة الراحل حسن البنا: «إن الجماعة التى أسسها شقيقه بدأت كحركة دعوية، لكنها تحولت إلى تنظيم سرى، يقوم على السمع والطاعة، والتراتبية الحديدية، وضلع جناح من الجماعة، وهو التنظيم الخاص، إلى استخدام العُنف والاغتيالات السياسية لتحقيق مآرب أخرى، ومن ذلك اغتيالهم فى أربعينيات القرن الماضى، أحد كبار رجال القضاء، وهو المستشار أحمد بك الخازندار، رئيس محكمة الاستئناف، ثم رئيس وزراء مصر، وهو محمود فهمى النقراشى باشا، أحد أبطال ثورة 1919، وثارت ثائرة الرأى العام ضد الجماعة، وهو ما اضطر حسن البنا، لتصريح، يتبرأ فيه من هذا الجناح السرى، واصفاً أعضاءه بأنهم (لا إخوان، ولا مسلمين)»!
ومع ثورة يناير 2011، وسقوط نظام «مُبارك»، سقط الحزب الوطنى، الذى كان قد سيطر على الحياة الحزبية أربعين عاماً. وتحرك الإخوان المسلمون، بسرعة لاختطاف ثورة الشباب، الذين كانوا زاهدين فى السلطة، من فرط مثاليتهم وإنكارهم لذواتهم، وكان الإخوان هم القوة الوحيدة المُنظمة، إلى جانب القوات المُسلحة، وانتهز الإخوان فرصتى سقوط الحزب الوطنى من ناحية، وزُهد الشباب فى السلطة من ناحية أخرى، فتحركوا بسرعة لملء الفراغ الذى خلّفه هذا السقوط.
وأصبح الإخوان، وذراعها السياسية، حزب الحُرية والعدالة يتصرفون، بنفس المنطق وبنفس الروح، التى كانت تحكم الحزب الوطنى، فى عهد الرئيس المخلوع حُسنى مُبارك، من حيث غطرسته وغرور القوة، فبمجرد حصول الإخوان على أكثرية فى مجلس الشعب «44%»، وتحولها بفضل مكاسب حزب إسلامى آخر هو حزب النور «22%» إلى أغلبية الثلثين، بدأ فى تمرير تشريعات، واتخاذ قرارات، من شأنها أن تضمن للاثنين معاً، أى التيار الإسلامى، السيطرة والبقاء فى السلطة التشريعية إلى ما شاء الله!
وبدأ هذا التيار الإخوانى السلفى، التغول على السلطتين القضائية والتنفيذية، من ذلك مُحاولة الاعتداء على استقلالية المحكمة الدستورية العُليا، وإعادة تشكيل هيئتها، وهو الأمر الذى استفز واستنفر الرأى العام، من خلال مُنظمات المجتمع المدنى.
وفى سابقة هى الأولى من نوعها تبعث تلك المحكمة بواحدة من أقدم قضاتها، وهى المُستشارة تهانى الجبالى، لتشرح للمجلس الأعلى للنقابات المهنية، الخطر الداهم الذى يُحدق بالمحكمة من جراء مشروع بقانون يقوّض استقلالية أعلى محاكم الديار المصرية، واستجاب المجتمع المدنى لهذه الاستغاثة، فتراجع التيار الإسلامى، ولو إلى حين، عن تلك المُحاولة الآثمة.
كذلك حاول نفس التحالف الإخوانى السلفى أن يُعيد كتابة الدستور، من خلال لجنة تأسيسية من مائة عضو، اختار هو أعضاءها، مُحتفظاً لنفسه بالأغلبية المُطلقة فيها، ورفض أو انسحب معظم الأعضاء غير الإسلاميين، لإحساسهم بأنهم سيكونون مُجرد ديكور، لإضفاء الشرعية على اللجنة!
ثم جاءت مُناسبة الطعن على دستورية قانون مُباشرة الحقوق السياسية، الذى قضت المحكمة بصحة الطعن، وأبطلت بذلك صحة عضوية ثلاثين فى المائة من أعضاء مجلس الشعب، الذين انتخبوا فى أواخر 2011 وأوائل 2012، وهو ما ترتب عليه بطلان المجلس كله، ومن ثم حله.
فهل هى يا ترى عدالة السماء، أم هى مُجرد فصل من دراما الصراع المُحتدم فى المجتمع منذ بدايات الربيع العربى؟
إن ما حدث – فى ذلك الفصل ينطبق عليه القول الشعبى، الذى يصف خصمين «يتغدى أحدهما بالآخر قبل أن يتعشى به!» وهناك مأثور شعبى آخر فحواه «أن الطمع يُذهب ما جمع».
والله أعلم
semibrahim@gmail.com