ليس لدي سجل للحظة تولي حاكم السودان العسكري الانقلابي الحكم في هذا البلد الشاسع المساحة. لكن من المعلومات العامة فان شرط القسم على اي شئ يعتقد الشعب بقدسيته لكفيل بضمان الاخلاص للمبادئ العامة التي تحدد امن الوطن. في منطقة الشرق الاوسط تعودنا سماع القول الشهير “اقسم بالله العظيم” وتعددت الايمانات والحلف بكل مقدس في كل ثقافة. وكان خوسي لويس ساباتيرو رئيس الحكومة الإسبانية المنتخب من الشعب الاسباني سباقا في رفض القسم على الكتاب المقدس عند توليه رئاسة الوزارة، باعتبار ان العهد الذي قطعه على نفسه هو عقد بينه وبين الشعب وليس بينه وبين اي شئ آخر من خارج اسبانيا او اوروبا او خارج الكرة الارضية. فهو لا يخشي شيئا الا رقابة الشعب الاسباني علىه.
بشكل عام، فان ولاء القسم لا يخرج عن الصيغة المعتادة في شكلها العام ومثالها:
أقسم (بشئ متفق جماعيا على عظمته) أن أكون مخلصاً للوطن وأن أحافظ على أمنه وسلامته، وأن أكون مطيعا للدستور والقانون.
ساباتيرو اعتبر ان الشعب والفكر الانساني المؤسس على العدالة هو اعظم ما ينبغي القسم به. وفي بلادنا التعسة يقسمون جميعا باسم الله. فمحمد عمر البشير يحكم السودان منذ حوالي 23 عاما، اخذها عنوة وليس برغبة شعبه. ومع ذلك، وغالبا، اقسم بالله على الحفاظ على وحده وطنه وامنه وسلامته. اخذ الرجل السودان عنوة بانقلاب عسكري، وكانت الشريعة تحكم اجزاءا كثيرة منه طبقا لافعال سابقة العسكري النميري الذي قطع الاطراف واغتال المفكرين وجلد النساء واهان البشر وطبق الشريعة كما ينبغي ان تكون.
في ظل الشريعة، كان وسيكون هناك كثيرين خارج مفهوم المواطن رغم ان القسم ينص على ضمان سلامة وحقوق الناس والبشر. فالقسم ليس سوي وعد بضمان امن الارض والمواطنين يتم توثيقه عمليا أمام هيئات الدولة الرسمية لكنه مضمون شفاهيا امام الرمز الذي اعتمده الشعب كاعظم ما في ضميرهم الجمعي.
ومعروف ان ثقافة الشفاهية قابلة دائما للتحريف والاضافة والحذف والتعديل والجرح والاسقاط والتزييف والغش والنسخ والمنسوخ، ومثالها الموروث الاسلامي حيث انقسم على اساسها المسلمون الي مدارس كثيرة وفرق ومذاهب متعدده متحاربة ومتقاتلة لان ما وصلنا بل ما وصل المسلمون الاوائل هو مجرد نص شفهي وفقط.
السودان الان وبعد اكثر من عقدين على حكم البشير الذي حلف بالله سبحانه وتعالي على وشك ان يخسر جنوبه لان جنوبه، حسب اقوال اهل الجنوب، لم يتمتع بحقوق متساوية مع اهل الشمال رغم قسم البشير. فليس من العدل تطبيق شريعة على بشر لم يشاركوا في تحديد قوانينهم او شرائعهم، بما فيهم المسلمون انفسهم. فالشريعة الإسلامية التي يصمم البعض على اعتبارها مصدراً وحيداً للدستور، لا تتفق مع نص القسم في بداية تولي السلطة حتي ولو كان الله هو الرمز الاعظم الضامن للولاء للوطن وللمواطن. فالمواطنين يتعددون في دياناتهم بتعددهم. فالنحو الذي نحاه البشير يجعله ناقضا للعهد ومخالفا للوعد. فالكارثة التي ستحيق بالسودان من انفصال الجنوب وغالبا دارفور والجزء الشرقي وربما اجزاء اخري – ارضا وبشرا – لم تجد في حكم عسكر السودان او اسلمة النميري والبشير صونا لها وضمانا لما جاء في ولاء التولية.
هنا يبرز السؤال لماذا يصمم البشير على مخالفة قسمه ومخالفة وحده وطنه ومخالفة مواطنية لصالح الشريعة التي يختلف الناس عليها، بما فيهم المسلمون انفسهم؟
ظهر البشير في الفضائيات يقف على منصة ويلوح بالعصا السودانية (هناك مثل يقول العصا لمن عصى) ويعد بتطبيق امور هي من صلب ادعاءات الاسلام السياسي ومطالبه التشريعية كما لو انه اصبح الممثل الشرعي لهـ. وفي نفس الوقت يجهز لانفصال السودان كما لو ان تفتيت الاوطان هو ايضا من ضرورات اجندة الاسلام السياسي.
المجتمع الاسلامي يخجل من اعلان تعدد مكوناته رغم تشدق المدافعين عنه بان الاعراق واصحاب الاديان غير الإسلامية عاشت في امان في ظل نظام الخلافة. فلو انهم تاملوا في فكرة الخلافة وتداعياتها طوال التاريخ لاكتشفوا مدي العسف والظلم والاستبداد وسياده الجهل وتدني مستوي البشر مع امتهان لكل اصحاب الاديان غير الإسلامية بل والمسلمين ومنهم الفقهاء المشايخ ايضا. مما يعطي انطباعا بان الشريعة هي ضد الانسانية. الخجل المستتر عن ادعياء الشريعة ودولة الاسلام يقول بانهم يسعون الي دولة لا اختلافات ولا اصوات مغايرة وبلا الهه متعددة وبلا نقد للحاكم. انهم يقولونها سرا وهو ما سيكون جهرا فيما بعد تولي السلطة. انهم يسعون لمجتمع بلا تنوع. على طريقة بالا يبقى في جزير العرب دينان، فهل نعمت جزيرة العرب منذ ذلك الوقت بامن وامان؟
لجأت المملكة السعودية، المطبقة للشريعة، لاسبانيا القوية مؤخرا لشراء السلاح.
لجأت لساباتيرو الذي يرفض القسم على كتاب هو الاصل الذي بني عليه الاسلام. فشرعية ساباتيرو اصبحت هي التي تصدر القوة والسلاح لاوطان ترفض التعددية. والبشير صاحب الوطن المتعدد في كل شئ من الجماد الي البشر يصمم على اللحاق بمجتمعات الاحادية الضعيفة، بلا اختلاف او تنوع.
فاسوأ ما يصيب الوطن هو انفصال جزء منه يحمل كراهية ضد وضعه السابق، وبالتالي فان الحرب ستكون شرعية بين الاجزاء الجديدة بعد ان كانت مجرد تمردات داخلية في وطن واحد. فما ينتظر السودان منذ قسم الولاء هو جعل الحروب الداخلية حربا رسمية ودولية بعد ان كانت مجرد امر محليا ومحدود. فكرة الانفصال إذن لم تتاسس لدي الجنوبين انما بسبب عسف الشماليين الذي رسخوا فهما للشريعة جعلت حدود الله هي اصل البلاء.
فالدولة الفاشلة حديثا هي ناتج لفشل الحاكم الذي يهرب من الفشل بتطبيق الشريعة لقمع كل صوت يصرخ في وجه الفشل ويطالب بالنجاح. وبالتالي فاصبح على الجغرافيا ان تتغير حتي لا يعترف الحاكم بفشله والنظام بفساده والثقافة السائدة بعسفها. ففي الخرطوم قال الحاكم الفاشل انه لن يجامل احدا في تطبيق حدود الله. هكذا وبكل بجاحة اعتبر نفسه حاميا لحدود الله رغم انه لم يقسم علىها منذ ان خرج من بطن امه ودون له موظف غبي في خانة الديانة، ما جعله يفرط في وحده وحدود الوطن حفاظا على حدود الله. البشير وزمرته لم ياكلوا من الشريعة ولم يشربوا من نهر الكوثر انما من ناتج ارض السودان ومياه النيل. ورغم ذلك فان امن وسلامة مقدرات الوطن بعد الولاء لم تعد مضمونة. البشير ملزم بالبقاء على ارض وطنه السودان وشرب ماء النيل الجاري وليس من حوض الرسول في الجنة، لكن دينه ممن المكن تغيره. فلماذا يتم ضرب وتفتيت الثوابت من اجل المتغيرات؟
منذ سنوات تم تسليم ماركوس من السودان لانه متهم بعمليات ارهابية، لا نعرف مدي ما كان سيصل اليه الارهاب لو ظل طليقا. فهل سيتكرر المشهد منعا لحروب دولية قادمة بين جنوب وشمال سيكون اوكامبو هي البطل الذي سيبطل حدوثها.
elbadry1944@gmail.com
* كاتب مصري