مذبحة نجع حمادى فى صعيد مصر التى اطلق فيها مسلحون النار بشكل عشوائى على جموع المصلين الاقباط ليلة عيد الميلاد الشرقى هى اعلان دموى لحالة الفشل السياسى والاجتماعى الذريع الذى تعيشه مصر بشكل متسارع التدهور على مدى حوالى ثلث قرن. فهذه المذبحة هى الاخيرة فى سلسلة من الاعتداءات واعمال العنف ضد الاقباط فى مصر بدأت فى مطلع عهد السادات بحادثة حرق كنيسة الخانكة بالقاهرة عام 1972 وقد عقد مجلس الشعب وقتها –وكان والدى عضوا فيه عن دائرة شبرا بالقاهرة- لجنة لتقصى الحقائق برئاسة جمال العطيفى قدمت عددا من التوصيات التى كان من شأنها – لو نفذت- ان تقضى على بوادر الفتنة الطائفية فى مهدها لكن كان ذلك الوقت هو بداية استخدام الرئيس السادات للدين –وللاخوان المسلمين- لاغراضه السياسية تثبيتا لمكانته الداخلية فأطلق الهوس الدينى من قمقمه وفتح له ابواب مصر ولذلك وضعت توصيات مجلس الشعب فى الادراج وكم طالب ابى فى مجلس الشعب المرة تلو المرة بإلغاء الخط الهمايونى الذى يعرقل بناء الكنائس وكانوا يستمعون ويصفقون ولايفعلون شيئا
ثم بدأ الفكر الديني المتشدد فى الانتشار فى الجوامع والشوارع والمكاتب والجامعات والنقابات والاتحادات وبدأ الاقباط يسمعون اللعنات والدعاوى تنصب عليهم بأعلى النبرات فى ميكروفونات الجوامع والزوايا التى انتشرت فى كل شارع وحارة تنعتهم “بالكفار” وتصب عليهم اقذع الشتائم وكأنهم ليسوا شركاء فى هذا الوطن الذى راح يلفظهم ويطردهم ويضطهدهم بشكل مضطرد منذ السبعينيات والى اليوم وبدلا من ان يقوم السادات بدوره كرئيس مصرى لكل المصريين اطلق على نفسه لقب “الرئيس المؤمن” وكأن هذه صفة ينفرد بها عمن جاءوا قبله واغلق اذنيه وعينيه عن مطالب وصرخات الاقباط بل القى فى السجون بمن رفع صوته منهم ومن بينهم والدى القمص بولس باسيلى الذى القوا القبض عليه مع الف وخمسمائة من رموز مصر السياسية والثقافية والدينية فى احداث سبتمبر 1981 الشهيرة لينتهى الامر باغتيال السادات على ايدى “جماعاته” الدينية التى رعاها.
كانت لدى الرئيس الجديد حسنى مبارك فرصة ان يصحح المسار المصرى وينأى به عن مستنقع الفتنة الطائفية ويقود مصر نحو مستقبل يليق بهذا البلد الذى وضع لبنة الحضارة الانسانية قبل سبعة الاف عام ولكنه اهدر الفرصة المرة تلو المرة واضاع تدريجيا كل ماحققه المجتمع المصرى من نهضة سابقة منذ عهد محمد على وحتى وفاة عبد الناصر فى سبتمبر 1970 وتربع على حالة من الخمول والركود السياسى والاجتماعى والثقافى والاقتصادى وصلت اليوم الى فشل تام وانهيار كامل لقطاعات اساسية مثل التعليم والصحة والمواصلات والتموين والصناعة والاسكان والاعلام والفنون تراجع كل شئ وركد فى مستنقع من الموت البطئ الذى تستشرى فيه سرطانات الفساد والبلطجة والفوضى والنفاق والرشوة والمحسوبية بالاضافة الى المرض الاعلى وهى حالة الصرع الدينى التى انتابت الشارع المصرى الذى دخل افراده فى غيبوبة تذكرنى دائماً بطقس “الزار” المصرى الذى تتطوح فيه جموع الرجال والنساء فى تشنجات جسدية ورقصات محمومة على دقات الطبول مع انشادات شعبية جنسية ودينية معا يمتزج فيها الشبق بالحرمان بالجنون بالصراخ لساعات متواصلة تخرج من اجساد وعقول المحتفلين كل مااحتبس بها من رغبات محبطة وغرائز مكبوتة وتأوهات وأوجاع انسانية واجتماعية مأزومة كان “الزار” هذا يعقد بشل محدود فى بعض القرى والاحياء الشعبية فى مصر التى تعانى من الفقر والجهل والمرض ولكن المجتمع المصرى بأسره اليوم قد دخل حالة الزار هذه واصبح بأكمله مغموسا وممسوسا الى حد الهوس والصرع غارقا فى ترهات وخرافات تشغل كل دقيقة من يومه وكل شاردة وواردة من فكره وانهال شيوخ التكفير على رؤوس الناس بفتاوى اضحكت العالم كله على جهل هذه الامة وجعلنا لانصدق مانسمع ونرى من مهازل ومساخر لم يعد يرتكبها غيرنا فى العالم.
كيف وصلت مصر الى مستنقع نجع حمادى؟
لقد اصبحت نجع حمادى فى الايام الماضية تستدعى للاذهان كل ماهو محزن ومؤسف من جهل طائفى وتطرف دينى وتدليس سياسى وبلطجة حزبية وعنف دموى وانفصام فى الشخصية المصرية بين قبطى ومسلم. بينما اتذكر بحزن ان نجع حمادى هذه كانت فى فترة شبابى فى مصر الناصرية ترتبط فى اذهاننا المتطلعة بمصانع جديدة تقام كل يوم منها مصانع للسكر واخرى للالمونيوم .. نجع حمادى كانت تعنى مشروع مصر النامية صناعيا المتحررة سياسيا وثقافيا واليوم نجع حمادى هى الظلام الطائفى والمذابح الجاهلية والفساد حتى فى واجهاته الدينية.
ان الصعيد المصرى هذا الذى تركوه يقبع فى ثقافة القرون الوسطى واهملوه تماما بلا خدمات ولامشروعات فى الثلاثين عاما الماضية هو نفسه الصعيد المصرى الذى شهد فجر الحضارة البشرية والذى اسس اول دولة فى التاريخ وقدم انجازات شاهقه فى كافة جوانب الحضارة من علوم وطب وهندسة وكيمياء وفلك وزراعة وفنون وتحرير للمرأة.. وكل ذلك قبل اكثر من خمسة الاف سنة لقد شهد ذلك الصعيد المصرى اول ملكة فى التاريخ هى حتشبسوت التى حكمت مصر عشرين عاما ارست فيها قواعد نهضة عامرة وشيدت معبد الدير البحرى الباهر المحفور فى الصخر والذى يتوافد السياح من اقطار الارض لمشاهدة اعجوبته وهو نفس المعبد الذى شهد عام 1997 مذبحة السياح التى قامت بها جماعة ارهابية ظلامية تدعى انتسابها للاسلام وقامت بذبح عدد كبير من السياح الابرياء رجال ونساء وشيوخ فما اوسع الهوة بين الروح الحضارية المصرية القديمة وبين بؤس الواقع المصرى فى مطلع القرن الحادى والعشرين!
ذلك الريف المصرى البسيط هو الذى ترعرع فيه فى مطلع القرن التاسع عشر المصرى متحرر الروح والعقل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى الذى ارسله محمد على الحاكم القوى المتفتح الذى قاد نهضة مصر الحديثة الى فرنسا فنهل الشيخ الطهطاوى من معارفها ولم يلعنها باعتبارها كافرة مارقة بل تعلم لغتها وراح يترجم امهات كتبها التنويرية ومنها كتاب مونتسيكو عن الحضارة الرومانية وكتاب عن بطرس الاكبر باعث النهضة الروسية وعاد الى مصر عام 1831 لينشئ اول مدرسة للترجمة التى اصبحت دار الالسن ويقوم بمحاربة الاراء الفاسدة ويبذر بذور النهضة العلمية والتقدم.
وكرر الشيخ محمد عبده بعد ذلك بنصف قرن مافعله الطهطاوى فقد سافرالى باريس عام 1880 واشترك مع جمال الدين الافغانى فى اصدار “العروة الوثقى” ونهل من الثقافة العالمية وروح التحرر العقلى فعاد عام 1889 الى مصر بعد ان توسط سعد زغلول لدى الخديوى توفيق للعفو عنه وعين عضوا بمجلس شورى القوانين ثم مفتيا عاما لمصر حتى وفاته عام 1905 وقام الشيخ محمد عبده بحركة اصلاح وتجديد كبيرة لفهم الدين واصدر مئات الفتاوى فى الشئون الاقتصادية والاجتماعية وقدم افكارا متحررة وعصرية تصالح المسلم مع عصره ودينه معا والغريب المحزن هنا ان كافة القضايا الدينية التى تنشغل بها مصر اليوم فى ردتها الحضارية الحالية مثل قضايا المرأة والحجاب والتحرر والمواءمة بين الدين والعلم وغيرها – كان محمد عبده قد قدم لها حلولا وفتاوى فى نهاية القرن التاسع عشر وهاهى مصر تعود القهقرى لاكثر من مائة عام فتعيد طرح نفس القضايا الدينية التى كان من المفروغ اننا تخطيناها منذ قرن مضى فمن المسئول عن هذا الضياع الوجودى الهائل لوطن بأكمله يعود الى الوراء مائة عام بينما تندفع دول العالم للأمام بلا هوادة؟
كيف وصلت مصر التى عرفت شيوخ التنوير منذ عهد محمد على والتى ساعدها الفهم العصرى المتحرر للاسلام على النهل من علوم الغرب ومعارفه بلا حساسية ولا عقد كيف وصلت الى انتاج شيوخ التكفير الذين لاهم لهم اليوم سوى صب اللعنات على الآخرين واعادة انتاج قضايا الجاهلية وتقميط المرأة المصرية تحت خيمة النقاب الذى لم تعرفه فى تاريخها المضئ على مدى سبعين قرنا! ان مصر على طول تاريخها هى بلد تخضع للحكومة المركزية ومن يتربع عليها من فرعون او ملك او رئيس ولايحدث شئ فى المجتمع المصرى الا وكان للفرعون او الملك او الرئيس كلمة او فعل فيه وبالتالى فمسئولية مايحدث لمصر تقع كاملة على كاهل حكامها ومن يختارهم لادارة شئون البلاد
وقد رأينا كيف اسس الرئيس السادات حزب مصر فهرع اليه كل من يريد الانضمام تحت جناح الرئيس والعمل على خدمته ومنافقته واستجداء عطاياه من مراكز وسلطة وجاه واصبح ذلك الحزب بعد ذلك هو “الحزب الوطنى” اليوم فما هى شرعية حزب يؤسسه رئيس البلاد وهو فى السلطة؟ وهل هناك عاقل يتصور ان هذا نظام ديمقراطى؟ وكيف يمنح الحزب الوطنى الحاكم بعد ذلك لنفسه حق الموافقة او الرفض لتأسيس اية احزاب اخرى؟ هل تعرف بلدا اخر فى العالم يملك فيه اعضاء حزب حق الموافقة على تكوين احزاب معارضة لهم؟
هل هذه هى ازهى عصور الديمقراطية التى يتبجح بها علينا المنافقون المنتفعون بالمراكز والمنح التى يوزعها الحزب الحاكم؟
لقد تردت الاحوال فى مصر اليوم الى درك لم يعرفه المصريون منذ عهد المماليك والمسئول عن ذلك هو الرئيس والنظام المصرى الحالى وحزبه الوطنى الحاكم فهم يحكمون منذ ثلاثين عاما اصبحت فيها مصر فى قاع الدول على اساس معظم المقاييس المحايدة التى تصدر عاما بعد عام ولايحتاج المصريون الى مقاييس عالمية لمعرفة ذلك فنظرة واحدة الى الشارع المصرى بكل فوضاه وتقواه الشكلية المصطنعة المهووسة بكل تناقضاته وعشوائياته وتسيبه -نظرة واحدة الى اى مدرسة اعدادية فى اى حى فقير او قرية منسية -نظرة واحدة الى طرقات اى مستشفى عام حيث ينتظر الفقراء المطحونون العلاج فيأتى قبله الموت- نظرة واحدة الى المعارك الدموية فى طوابير الخبز او داخل حافلات الموت الطائرة او فى كهوف مساكن العشوائيات حيث يقيم المصريون بلا صرف صحى ولامياه جارية- نظرة الى نظام التعليم الحكومى الفاشل والدروس الخصوصية الباهظة التى تلهب ظهور ماتبقى حيا من الطبقة الوسطى المنقرضة- نظره واحدة الى السياسات التى فشلت حتى فى ادارة “معركة” كروية مع دولة عربية فتحولت إلي مهزلة دولية– سياسات اضاعت هيبة مصر ومكانتها الدولية واصبحت مصر التى كانت زعيمة لدول عدم الانحياز- مصر الثمانين مليونا تضع رأسها برأس حزب مثل حزب الله او حركة مثل حركة حماس لايحتكم اى منها على اكثر من الف او الفين مقاتل ولم يكن لهؤلاء الصعود على مسرح الاحداث لولا الغياب المدوى الفاضح لمصر عن هذا المسرح منذ حرب العبور.
على الاقباط بعد نجع حمادى سحب تأييدهم للحزب الوطنى الحاكم واعلان سخطهم على سياساته الفاشلة التى اودت بمصر الى السقوط الى مستنقع العصبية الطائفية والكراهية الدينية وليس صدفة ان المتهم بهذه المذبحة كان معاونا لصيقا لمرشح الحزب الوطنى فى نجع حمادى.
على الاقباط وقياداتهم السياسية (الغائبة المغيبة) والدينية الفاعلة اعلان انضمامهم للحركة الوطنية المصرية المعارضة لهذه النظام الذى عاد بمصر الى عهد المماليك وتربع لثلاثين عاما على مسيرة الانحدار الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والثقافى الذى اوصل مصر الى حالة تصعب على الكفار – اى النصارى فى مفهوم شيوخ التكفير الذين اضاعوا الارث الباهر لشيوخ التنوير قبل قرن من الزمان
على الاقباط الانضمام الى الحركة الوطنية المعارضة للتوريث والمعارضة للاستمرار فى هذا المسار البائس الخطير والتحرك بحمية ووطنية مع اخوتهم من المسلمين المصريين الرافضين للتطرف والتشدد الدينى المظلم المتطلعين الى بناء وطن عصرى حديث لايخلط السياسة بالدين ويخرج من حفلة الزار التى سقط فيها المجتمع المصرى
وقد يكون للأقباط فى حركة تأييد الدكتور البرادعى مجالا للعمل الوطنى المجدى يكون عاملا من عوامل انقاذ مصر وانتشالها من براثن الجهل والفساد والفشل.
ولك يامصر السلامة.
fbasili@gmail.com
كاتب من مصر يقيم في نيويورك
على الاقباط الخروج من عباءة النظام وتأييد البرادعي اذا اردتنا ان نعرف ما يجري في ايطاليا , فيجب ان نعرف ما يجري في البرازيل : في مطلع العام (2002) اعتقلت السلطات الباكستانية (حكومة مشرف) اكثر من (3000) متورط باعمال تخريب وارهاب , واحتل الخبر الواجهة الاعلامية ومرت تحت الجسر سياسات و (ميزانيات) .. ولكن مع نهاية الشهر (ودون اهتمام اعلامي يذكر) لم توجه تهمة لأي من هؤلاء , وبهدوء غادروا السجن وعادوا الى مواقعهم .. وفي حين كانت اعمال الفوضى في المقاطعة الحدودية الباكستانية لا تتطلب اكثر من اداء قوات الامن الموجودة لوظيفتها لضبطها , الا ان ذلك لم يحدث… قراءة المزيد ..