مسألتان تلفتان الانتباه في المرجعيات الثلاث التي ذكرها الأستاذ جهاد الزين في مقالته (البابا بنديكتوس، الشيخ فتح الله غولن، السيد علي السيستاني)، الأولى هي مستواها العلمي بل مستوى اهتمامها بالعلم والمعرفة بعيدا عن العلاقة بالحاكم والحكم. على أن من بديهيات الأمور أن “الاكتشافات” الفقهية الكبرى في تاريخ الأديان ظهرت لدى مفكرين دينيين لم تكن السياسة هما أساسيا من همومهم، بل كانوا على علاقات جفاء مع الحكام. وأن المؤسسات الدينية التي أنجبت مفكرين كبارا ما كان لها أن تنجبهم إلا في ظل استقلالها النسبي(أو استقلالهم هم) عن السياسة وآليات الحكم.
نعطف هذه الملاحظة على حقيقة أخرى، هي أن قضية الصراع بين “الدولة والدين” (وهي تسمية مغلوطة، والصحيح أن الصراع هو بين مؤسسة الدولة والمؤسسة الدينية، أو بالأحرى بين رجال الدولة ورجال الدين) لم تطرح منذ نشأة الأديان، بل في مرحلة لاحقة من تطور الحضارات والمجتمعات، وبالتحديد في بداية عصر النهضة الأوروبي، أي مع بدايات القرن السابع عشر وأواخر السادس عشر(حركة الإصلاح ومحاكم التفتيش)، ولم تأخذ تلك القضية طريقها إلى الحسم إلا مع الثورة الفرنسية وحكم نابليون(العلمنة ودولة القانون). أي أن ذلك حصل في غمرة قيام الحضارة الرأسمالية.
اصطدمت المؤسسة الدينية إذن، بحضارة جديدة، ومن مظاهر ذلك الاصطدام، عداء الكنيسة للمكتشفات العلمية، (حادثة “غاليليه” خير دليل على ذلك: ومع ذلك فالأرض هي التي تدور). هذا هو لب المشكلة: الصدام حصل بين العلم والجهل، جهل رجال الدين من أهل الكنيسة، الذين ردوا على هذا التطور النوعي في الفكر البشري، بتكرار تجربة الحجاج بن يوسف في دفن المعترضين أحياء في التراب. وتفسير ذلك بسيط: المؤسسة الدينية (الكنيسة في أوروبا وطبقة رجال الدين في العالم الاسلامي) رفضت الدخول في الحضارة الجديدة، ورمت العلماء، إي المثقفين الجدد، بانتهاك الدين، فقط لأنهم باتوا أكثر “نفعا” وأكثرإقناعا عقليا لإنسان الحضارة الجديدة من المثقفين القدامي، أي طبقة الإكليروس وكهنة المعابد. (هذا أحد التفسيرات للترويج المقصود للقب الحج في بلادنا هذه الأيام بديلا عن الألقاب العلمية!!!). هو إذن صدام الجهل مع الحضارة، وهو يتكرر اليوم في كل مكان يحكم فيه المعممون أو الأصوليون من كل الأديان.
تأكيدا لهذا الحكم القاسي، اسألوا أي معمم (من غير طبقة العلماء- الفقهاء في الدين) عن العلمانية، يأتكم رشق من الكلام الذي لا يفهم منه غير تكفير العلمنة والعلمانيين، والذي يدل على أن صاحب الرشق الغزير من اللغو لم يقرأ كلمة واحدة عن تاريخ العلمانية، ولا يعرف من الحضارة الجديدة غير استهلاك منتجاتها وتكفير العقل الذي أنتجها. ثم يتبع هذا اللغو شعار فارغ المحتوى: الإسلام هو الحل.
الشعارهو الفارغ المحتوى وليس الإسلام. بما أن القرآن هو مصدر الشريعة، ينبغي استحضار كلمة الإمام علي بن أبي طالب الشهيرة القائلة، إن القرآن لا ينطق بذاته إنما يحتاج إلى رجال. يعني أن الإسلام واحد في النص ومتعدد في عقول معتنقيه. هذا القرآن الذي شكل مادة إيمانية وفكرية وفلسفية ليس هو الفارغ بل عقول قارئيه الذين لا يعلمون تأويله، ويصرون على تزوير الآية المتعلقة بالتأويل، فيقرأها جهلة الدين قراءة مشبوهة ( وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون أمنا به. الواو في الآية ليست للعطف بل استئنافية بمعنى أما الراسخون الخ. الآية السابعة من سورة آل عمران).
ثم نسأل عن “علماء الدين”؟ من اخترع هذه الكلمة؟ هذه الفتنة اللغوية. تقرأ القرآن كله فلا تجد ذكرا لعالم دين، وتستعرض التاريخ الإسلامي كله فلا تجد أثرا لغير العلماء الحقيقيين، الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والقضاة، أما “عالم الدين” فهي مصطلح من اختراع عصر الجهل، عصر الانحطاط الثقافي الذي قلب صفحة النهضة العلمية الحقيقية في العالم الإسلامي، وفتح صفحة علم الغيب والأساطير والخرافات والمعجزات التي لم تعد حكرا على الأنبياء بل تعممت لتصير مباحة ومتاحة أمام المهرة من الأولياء المزعومين و متقني فنون السحر والشعوذة ممن صار إسمهم علماء دين. هؤلاء العلماء الجهلة ينكرون اليوم حق غير المعممين (إي العلمانيين حسب الاستخدام الكنسي لهذا المصطلح) في قراءة القرآن وتفسيره، ولهذا يستسهلون تكفير المفكرين والعلماء، ومنهم علماء اللغة التي هي مفتاح فهم القرآن، على غرار ما حصل في عقود ماضية (قضية نصر حامد أبو زيد ما زالت ماثلة).
لكل حضارة نظامها السياسي ونظامها الاقتصادي ونظامها الثقافي. في البداية كانت حضارة الرعي والأسطورة، وفي نظامها السياسي كان الحاكم يجسد وجود الله. في مرحلة ثانية كانت حضارة الزراعة وعلوم الغيب، وصارالحاكم فيها يمثل الله على الأرض. في المرحلة الثالثة، المرحلة الرأسمالية التي نحن فيها قامت الحضارة على الصناعة والتكنولوجيا والمعلوماتية ألخ، وعلى العلم الوضعي وحرية العقل البشري، وصار الحاكم فيها يمثل الشعب ( أو هكذا ينبغي أن يكون حسب الترسيمة العامة لمسار البشرية المعاصر). أين نحن من هذه المراحل؟ في العالمين العربي والإسلامي، ما زلنا ننتمي إلى المرحلة الثانية: الحاكم مقدس والحكم وراثي، والعقل أسطوري لم يأخذ من الرأسمالية آليات التفكير التي أنتجت هذه الحضارة، بل اكتفى باستهلاك انتاجها حتى استهلكته! أليس مستغربا أن تكون الهجرة هي المصير الإلزامي للعقول الكبرى في العالم العربي؟
في عصرنا هذا،الذي بدأ منذ قرنين من الزمن ونيف (دخول نابليون إلى مصر عام 1798)، المجتمعات محكومة إما بالدخول إلى عالم الحضارة الرأسمالية، دخولا قسريا على غرار ما حصل في كل بلدان العالم الأساسية، ما عدا اليابان التي تفادت القهر الرأسمالي ودخلت طوعا، وإما بالبقاء خارج التاريخ، حسب تعبير العالم المصري فوزي منصور(ترجمة لعنوان كتابه: خروج العرب من التاريخ). الدولة في الحضارة الرأسمالية هي دولة الحق(هيغل) أو دولة القانون (نابليون)، وهي دولة حكم الشعب بالديمقراطية، ودولة الفصل بين السلطات ودولة الكفاءة وتكافؤ الفرص، دولة الحريات وحقوق الانسان، الخ. وبالرغم من أن كل واحد من هذه العناوين هو مادة صراع بين مختلفين لكن المساومات بين المتخاصمين استقرت على اعتراف المختلفين بعضهم ببعض، أي على صيغة لا يلغي فيها أحد أحدا بالقوة القهرية، مع غض النظر عن العنف غير المعلن الذي يمارسه الاقتصاد الراسمالي ضد العمل.
إذن، والحالة هذه، كل مسعى لبناء الدولة الحديثة على غير هذه الأسس لا يندرج إلا في خانة الخروج من التاريخ. الدولة الدينية المستحيلة، الدولة الاشتراكية “المرتجاة”، دولة ولاية الفقيه، أو الدولة القومية الاستبدادية. ومن هذه الزاوية يبدو كلام المرجعيات الدينية الكبرى الثلاث منسجما مع معطيات التطور في العالم على كل المستويات، وليس ممكنا أن تدرك فحوى هذا التطور إلا عقول متطورة، ومن هنا تشديدنا على أن القاسم المشترك بين الشخصيات الثلاث هو مستواها العلمي المتقدم. انظروا إلى ردود الفعل على هذه العقول المتطورة: الشيخ فتح الله غولن لم تتسع له بلاده، مثل كل العلماء، ولم تتسع له عقول أصوليي بلاده فهجرها وهجرهم ؛ السيستاني متهم من قبل معممي الجهل بالتساهل مع الاستعمار والاستعانة بالاميركيين ضد حكم صدام حسين. قبلهما، كان رفاعة الطهطاوي باني النهضة الثقافية العربية، قد نفي إلى الخرطوم وأقفلت المؤسسات الثقافية والتربوية التي أسسها، الأفغاني مات مسموما في عاصمة السلطنة، محمد عبده اتهم بعمالته للإنكليز، وهو الذي قال:
ولكن دينا كنت أرجو صلاحه أحاذر أن تقضي عليه العمائم.
يمكن التعبير عن الفكرة ذاتها بصياغة أخرى: هناك مصدر واحد للدين : الكتب المقدسة. لكن هناك مستويات متعددة من الوعي الديني يمكن اختزالهما باثنين: الوعي الشعبي ووعي الفقهاء والمجتهدين. ومن أسف أن معظم المعممين في بلادنا ينتمون إلى دائرة الوعي الشعبي، لا إلى دائرة الاجتهاد والتبحر في علوم الدين. وكم من واحد فيهم لا يتقن القواعد الأساسية في قراءة اللغة العربية وكتابتها، فكيف بالمسلمين من غير العرب؟ ولا نقول ذلك اليوم بهدف الانضمام فحسب إلى فريق المرحبين بمقالة جهاد الزين وبمدرسة التنوير الإسلامي بفرعيها الشيعي والسني، بل إننا نكرر ما سبق أن نشرناه في كتابنا عن الأصوليات، الصادر عام 2000، وفيه مقالة أعددناها كمحاضرة في إحدى القاعات الثقافية لحزب الله وبناء على دعوة إحدى هيئاته الثقافية، فقلنا، حينذاك، حرفيا: ” تحتاج البلاد إلى حركة إصلاح ديني تعضد حركة الإصلاح السياسي ( إن وجدت) وتستقوي بها، وشرطها أن يخوض علماء الدين السجال مع الوعي الديني الشعبي فيرفعوه إلى مستوى الفقهاء والمجددين والمجتهدين، لا أن ينشدّوا هم إلى حيث مستنقع الوعي الديني الشعبي العامي في تكرار الماضي وحكاياته وسجالاته. إذاك فقط، لا نبالغ القول إن اعتقدنا بإن المجتمع المدني ومشتقاته لن يقوم بغير الاجتهاد الديني وبأن العلمانية لن تبنى إلا بعلماء دين وفقهاء من طراز جديد”.
هذا الوعي الديني العامي هو عدو العلم، ومروجوه هم معممون ما أن يرسب واحدهم في دراسته حتى يتوجه إلى حوزة دينية. الإمام محمد عبده كان قد بدأ عملية الاصلاح الديني بتغيير برامج الأزهر وإدخال العلوم الحديثة عليها، وهو القائل بأن طريق النهضة تبدأ بالمدرسة. معممو اليوم لا يتقنون سوى الطقوس. فماذا تمثل الطقوس من الثقافة الدينية؟
للدين مرتكزات ثلاثة : الإيمان والعقيدة والطقوس. الإيمان شأن لا يخضع لنقاش عقلاني، إذ لايمكن أن تقنع أحدا، إقناعا عقلانيا، بوجود الله أو تقنعه بعدم وجوده، على ما يقول العلامة السيد محمد حسين فضل الله، خصوصا وأن الانتماء محكوم بالوراثة طالما أن المرء يولد على دين أبويه، وخصوصا أيضا في ظل الأحكام الأصولية بحق المرتدين عن الدين( استثناءات تغيير الديانة تأكيد للقاعدة). أما العقيدة وفقه الشريعة والتبحر في علوم الدين فهي شؤون لا يتقنها إلا الفقهاء و”الراسخون في العلم” أي من غير خريجي الوجبات السريعة من الثقافة، ولذلك فإن أيسر المعارف منالا لدى المعممين هي تلك المتعلقة بالطقوس الدينية، كالوضوء والصلاة والصوم وعقود الزواج والصلاة على الميت، وصلاة الاستسقاء وغير ذلك من المبتكرات الطقوسية كمجالس العزاء ووضع اليد على الرأس كلما ذكر إسم المهدي عند الشيعة، أو تلحين الصلاة على النبي تلحينا جماعيا كالنشيد، وهي كلها مما لا علاقة له بالشريعة بل هي جزء من تنظيم العلاقة بالقائد، أي المعمم أو من كان في موضعه، تنظيما يشبه التنظيم العسكري، وفي هذا السياق يندرج الحجاب وطقوسه والاحتفالات وإحياء المناسبات الدينية التي باتت تتكاثر من غير مبرر سوى الحاجة إلى الإمساك بالجمهور بقبضة من حديد الإيديولوجيا. الطقوس عمل تنظيمي إذن، أي عمل حزبي، لا علاقة له بالشريعة ولا بالإيمان، لإن المؤمن قادر على أن يكون مؤمنا من دون الطقوس الجماعية ومن دون التعمق بالشريعة وفقه الدين.
على أن اللافت للانتباه هو أن المعممين أكثر تأثيرا على الوعي الديني العامي من الفقهاء، لأنهم يجارون وعي العامة للدين بدل أن يجابهوه لكي يرتقوا به ويجعلوه جزءا من الوعي العلمي المعاصر. أفضل مثال على ذلك عدم التزام العامة بالفتوى الصادرة تكرارا عن المراجع الشيعية الكبرى في لبنان، لتحريم ظاهرة الطقوس الكربلائية الدموية، بل العكس هو الذي يحصل، إذ إن تلك الظاهرة تتفاقم بعد كل فتوى بتحريمها بدل أن تنحسر. هذا الوعي العامي يتنامى برعاية المعممين الذين، بدل أن يلعبوا دور الوسيط بين المثقف الديني، أي العالم الفقيه، وبين الجمهور، يقفون حاجزا بينهما. بهذا المعنى لا تعتبر الطقوس من أركان الدين، بل هي صيغ متنوعة من العادات والتقاليد التي تصنعها الظروف الاجتماعية والسياسية وتزول بزوالها، وهي أكثر ارتباطا بالانتماء المذهبي منه بالانتماء الديني. هكذا يختلف الشيعة عن السنة، على سبيل المثال، في رفع الأذان وفي وضع اليدين خلال الصلاة، وهو ما ليس واردا في أصل الدين، بل صار جزءا من الممارسة الدينية، وتحول، بقوة التجهيل تلك، إلى بديل عن أصول الدين بل عن الإيمان نفسه.
ظاهرة الجهل والتجهيل هذه كانت، على سبيل المثال، وراء ما تعرض له نصر حامد أبو زيد، المفكر الإسلامي الذي كتب عن التراث وعلوم الدين وعن القراءات المتعددة للقرآن وعن المجاز فيه، الخ. ومن المؤكد أن أيا من المعممين الذين رفعوا الدعوى ضده في المحكمة لم يطلع على كتبه لكن عقل “محكمة التفتيش” رفض، من حيث المبدأ، قراءة القرآن على ضوء العلوم الحديثة، ما يعني الإصرار على قراءة وحيدة هي قراءة المعممين من أهل الطقوس. على أن الكتب الأولى التي نشرها نصر حامد أبو زيد لم تثر اهتمام أحد منهم لو لم يتعرض في أحد كتبه اللاحقة إلى الفكر الديني الذي يجسده هؤلاء الجهلة من العاملين في الحقل الديني، فهبوا في وجه ذلك الكتاب، ” نقد الخطاب الديني”، إذ عدوه خطرا على دورهم التجهيلي وأرعبهم أن يصل الأمر بهذا المفكر الإسلامي حد التعرض للمجاز في القرآن، وهم من الذين لم يقرأوا الجرجاني وأسرار البلاغة والإعجاز، ولا قرأوا دو سوسور واكتشافاته اللغوية الحديثة.
المسألة الثانية اللافتة للانتباه هي علاقة الإصلاح الديني بالإصلاح السياسي. في التجربة الأوروبية، وجدت حركة الإصلاح البروتستانتي من يحتضنها من حكام شمال إوروبا، في حين واجهتها الكنيسة متعاونة مع مملكة إسبانيا في الجنوب. إذن هي نجحت حيث وجدت نصيرها السياسي وانهزمت حيث افتقدته. إلى أن جاء نابليون وأقدم على “اعتقال” البابا في أحد القصور الفرنسية وعقد معه اتفاقا على الفصل بين السلطتين الزمنية والدينية، وتعهد له بأن تحمي الدولة الجديدة حرية المعتقد والإيمان، وبعد ذلك صارت الكنيسة الفرنسية خاضعة لسطلة الدولة. واستمرت هذه التقاليد العلمانية صارمة في منع رجال الكنيسة من التدخل في شؤون السياسة، هذا مع العلم أن رئيس أول مجلس نيابي بعد الثورة الفرنسية كان من رجال الكنيسة.
في تركيا، حين لم يجد الشيخ فتح الله غولن نصيرا سياسيا، غادر تركيا،وإذا كانت أفكاره اليوم عن الدولة الدينية أسهل رواجا من ذي قبل، فبفضل السند السياسي الذي توفر لها من خلال حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا. أما في العراق فإن الإمام السيستاني يفتقر إلى سند ثابت وموثوق من أهل الحكم خاصة وأن من يتبنى أفكاره عن الدولة غير الدينية موسوم بتهمة المذهبية،أما شبهة السند الخارجي فلا تحتاج إلى دليل : إنها الإمبريالية والشيطان الأكبر والاحتلال.
لا يكفي إذن أن يرفع المصلح الديني راية الدولة غير الدينية، بل يلزم لنجاح هذا المشروع أن يتوفر قائد سياسي يتبناه، لابتعميم طريقة نابليون التي اختار الأوروبيون بدائل عنها، ولا بتعميم تجربة أتاتورك، ولا تجارب الأحزاب العربية، وهي كلها كانت تشكو من انتهاك الديمقراطية والحريات السياسية. المدخل إلى نجاحه غير متوفر لسببين، الأول غياب هذا النوع من الساسة الشجعان، من رجال الدولة القادرين على البقاء على مسافة من المؤسسة الدينية، يحمونها ويمنعونها من التدخل في السياسة ويمنعون أنفسهم من التلطي وراءها والتدخل في شؤونها، ذلك أن أكثر نماذج السياسيين رواجا هو المحاصص المقاطعجي. أما الثاني فهو توظيف الدين في العمل السياسي من جانب السياسيين والدينيين على حد سواء. على أن الأخطر منهما هو الذي يقوم به الدينيون، لأنهم ينقلون بعضا من قداسة الدين إلى كلامهم السياسي، والأشد خطرا هم أحزاب الإسلام السياسي التي تتضاعف قداسة كلامها وفتاويها السياسية حين تشحنها بقوة التكليف الشرعي. أنظر، في مثل هذه الحالة ماذا يمكن أن يفعل الحزبيون والدينيون المشحونون تعصبا بأصحاب الرأي المختلف، وكيف إذا أضيفت إلى الاختلاف في الرأي تهم كالعمالة والخيانة والتكفير والردة؟؟؟ ذلك مآله عنف طائفي ومذهبي واستبداد ديني وسياسي.
الحل الوحيد الممكن هو تبني المؤسسة الدينية مشروع قيام الدولة الحديثة على أساس سيادة القانون، وتخليها وتخلي محاصصي السياسة عن مشاريع الدول أو الدويلات البديلة. هذا يتطلب أن تصبح المرجعيات الدينية الكبرى هي القائد والموجه للوعي الديني، وأن يتقدم إلى واجهة المسرح السياسي رجال دولة لا محاصصون.
moukaled47@hotmail.com
* جامعي لبناني