تعرضت البصرة وأهلها في ظل الطغيان السابق إلى شرور مضاعفة من قبل حكامنا السابقين. فهؤلاء الحكام لم يكتفوا باضطهاد وملاحقة وقتل وتعذيب أهلها لدوافع سياسية وطائفية فحسب، بل حولوا هذه البقعة الغنية والعزيزة من أرض السواد إلى ميدان لحروب فاشلة ومدمرة للنظام، مما ألحق الخراب المادي والروحي بالمحافظة، وأرجعها عقوداً إلى الوراء شأنها شأن كل بقاع بلدنا العزيز. إن هذه السياسة المعادية للشعب حرمت أهل البصرة من العمل والإبداع، وفرضت عليهم الجوع والتشرد والحرمان من التعليم وتلقي المعرفة والحصول عليها والوصول إلى مناهل الثقافة التي يُعرف البصريون بتعطشهم لها. كما أدى هذا النهج المدمر إلى طغيان التخلف والخرافات والجهل بسبب صرف موارد البلاد على أمور لا علاقة لها بالبناء والتنمية وتقديم الخدمات للمواطن البصري والعراقي على حد سواء.
ولعل أكثر نتائج تلك السياسة التي خطط لها النظام هو شيوع أشد مظاهر التخلف والخرافات وفرض الأضاليل ودعوات التمييز ضد المرأة وتهميشها والفتاوى الرجعية المتسترة بستار من دعوات دينية مزيفة خاصة في أثناء حملته الإيمانية المريبة. ومما زاد الطين بلة تلك الموجة المتطرفة الدينية بمختلف ألوانها والتي عصفت بالمنطقة والعراق وتركت آثارها السلبية على البصرة وأهلها.
لقد ساهم البصريون خلال حكم الطغيان في كل الفعاليات الساعية إلى إحداث تغيير في البلاد والتحرر من كابوس الاستبداد. وكانت ملحمة البصريين في إطلاق شرارة الانتفاضة في عام 1990 تجسيداً حياً لما يكتنز في صدورهم من إصرار على بناء حياة حرة ومجتمع ديمقراطي ومستقر في البلاد بعيداً عن العسف والفساد والتمييز والقمع بكل ألوانه، كي يشمر العراقيين عن سواعدهم لإعادة إعمار ما أحدثته الديكتاتورية من خراب في كل زاوية من زوايا المجتمع. واستبشر البصريون في التاسع من نيسان عام 2003 بسقوط الطاغية، أملاً بأن يمهد هذا التغيير الطريق لاستقرار البلاد وبنائها. ولكن لم يدر في خلد العراقيين ومن ضمنهم البصريين حجم الدمار الروحي والثقافي الذي حل بالبلاد. فقد هبت عواصف صفراء من الجهل والعنف لم يشهده العراق في كل تاريخه. فقتل النساء والتمييز ضدهن، والقتل على الهوية الطائفية وإزهاق أرواح العراقيين بشكل عشوائي ودق أعناقهم ونهب ممتلكاتهم، أضحى النهج المفضل لدى المجاميع الدينية المتطرفة والإجرامية سواء من أتباع المنظمات الإرهابية التي تتلقى الدعم من خارج الحدود أو الميليشيات المسلحة التي تلقى الدعم من دوائر إقليمية أو من تلك الحركات والأحزاب التي طغت على الميدان بقوة السلاح بعد انهيار النظام الدكتاتوري.
وعاشت البصرة شأنها شأن العديد من المدن العراقية حالة خطرة من طغيان المجاميع المسلحة المتسترة بستار الدين. واختفت مظاهر الأنس والفرح في شارع بشار بن برد والحكاكة في المشراق، والدوب ومحلة السيمر والخليلية جراء التهديدات بالقتل والاستباحة. وشهد البصريون ممارسات هي تكرار لممارسات العهد السابق وثقافته المدمرة. فالنفط يُسرق ويُهرّب ويُباع خارج الحدود من خلال ثقب وتخريب الأنابيب النفطية، وحملات التصفيات الجسدية التي طالت العقول العراقية وذوي الاختصاص أصبحت مشاهد سائدة في السنوات الماضية في هذه المدينة شأنها في ذلك شأن العاصمة بغداد ومدن الموصل وغيرها. وكان نصيب المرأة البصراوية الحصة الكبرى من هذا السلوك الهمجي الذي تؤججه أوساط ترفع راية الدين زوراً لتهميش المواطنين وحرمانهم من حرية التعبير واسكات أفواههم في المطالبة بالتغيير. وهكذا تعرضت المرأة البصراوية إلى موجات القتل ليبلغ القتلى منهن 20 ضحية كل شهر وليس بينهن من قتلت بدواعي غسل العار، حسب مصادر رابطة المرأة العراقية في المحافظة. وقامت شراذم مسلحة من المتطرفين الإسلاميين بالقصاص من حاسرات الرؤوس رافعين لافتات تحذر من بروز شعرة واحدة على جباه النساء البصراويات. إن هذه الشراذم استندت إلى مقولة لا يعرف صحتها ومصداقيتها تقول إن “النساء ناقصات عقول وحظوظ ودين”، لتبرير كل تطاولاتهم على المرأة وحقوقها.
وجمدت مؤسسات الدولة من أجهزة أمنية ومؤسسات قضائية في المحافظة، حيث راح البعض من أتباع التطرف الديني يتولى بقوة السلاح مهام هذه السلطات. ومنع النشاط الثقافي وحرمان المواطن وخاصة المرأة من حريتها.
لقد تنفس البصراويون قدراً من الصعداء بعد “صولة الفرسان”، وتشتيت الميليشيات المسلحة وإعادة قدر من الأمان لمدن المحافظة. ولكن هذه القوى المتخلفة الهامشية والتي مازالت تسيطر بشكل جديد على شؤون محافظة البصرة، تقوم بمهمات وإصدار فتاوى وقرارات تتجاوز حتى ما أمر به خالقهم. فالخالق ترك الخيار للبشر حتى في تناول الخمر حيث نهاهم فقط عن تناوله وهم يتجهون نحو الصلاة “لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى”. كما طالب الخالق العباد بتجنب تناول الخمر…. نعم تجنبه فقط وليس تحريمه وتحريم بيعه وتفجير باعته كما يحصل الآن في البصرة أو في بغداد ومدن أخرى. فالخالق يؤشر في الذكر “إنما الخمر والميسر رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه”…..أي أنه دعا لاجتناب تناول الخمر وليس تحريمه وتفجير باعته. فالخالق لم يحرم تناول النبيذ على عباده من النصارى، بحيث أصبح تناول الخمر بشكل محدود جزءاً من الطقوس الدينية لأتباع الديانة المسيحية. نعم لا يختلف الأطباء ودعاة الإصلاح على ضرر تناول الكحولايات بكثرة على صحة الإنسان أو الحاق أضرار بالمجتمع. ولكن ذلك لا يتم بالإكراه كما يفعل مسؤولو محافظة البصرة وواسط وبغداد، بل من خلال التنوير وتجنب الإسفاف لمن يريد تناولها، إضافة إلى تدابير يجري العمل بها حالياً في العديد من البلدان من خلال رفع الضريبة على المنتجات الكحولية ومنع بيعها إلى من دون الخامسة والعشرين، كما تم أخيراً في بريطانيا. إن قرارات المنع العشوائية وبتعاويذ دينية لا يؤدي إلاّ إلى زيادة تداول المشروبات في السوق السوداء وارتفاع عدد المدمنين على الكحول والمواد المخدرة والدعارة كما نراه الآن في جمهورية إيران الإسلامية. كما لدينا تجارب لشعوب سبقتنا في فرض قرارات مماثلة وفشلت إذ لا يمكن تطبيقها، فهي تؤدي إلى عكس المراد. ففي الولايات المتحدة في بداية القرن الماضي منع تداول وبيع المشروبات الكحولية مما دفع شركات إنتاج الكحول والمضاربين إلى استخدام البيض الفارغ وشحنه بالمشروبات الكحولية مما زاد تعاطي المشروبات مما أدى إلى تراجع السلطات عن قرارات المنع.
ولا ندري كيف سيبرر هؤلاء المسؤولون عن هذه القرارات لكل شعرائنا المبدعين من شعراء ما قبل الإسلام أو بعدها وإلى يومنا هذا، بدءاً من أبي نؤاس وإلى شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري الذين لم يفوتوا فرصة تناول الكأس كي يتحفوننا بجواهر الشعر والأدب. ولم يتردد عن وصف الخمرة حتى شيخنا الشاعر الجليل محمد سعيد الحبوبي الذي وصف الخمرة بالأبيات التالية وهو لم يتذوقها حسب الروايات، حيث قال:
شمس الحميا تجلّت في يد الساقي وشعّ ضوء سناها بين آماقي
ولا يمكن تفسير قرارات المحرمات التي اتخذها المسؤولون في محافظة البصرة وواسط وحتى بغداد وغيرها إلا تعبيراً عن جهل مدقع بالآثار السلبية لمثل هذه القرارات على المجتمع، وما هو مسعى من قبل المهيمنين على المحافظة إلى إقامة نمط من استبداد “دولة العراق الأسلامية” أو “دولة ملا عمر” أو “دولة الفقيه”، بشكل يتعارض مع طبيعة الدستور العراقي الذي يحمي الحريات الفردية للمواطن العراقي، تلك الحريات التي لا تلحق الضرر بأي مواطن عراقي آخر. إن منع المسرح والفرق المسرحية وغلق دور السينما ومنع الغناء من قبل الشباب والشابات وغلق الفرق الشعبية الغنائية البصرية المعروفة بإبداعاتها وحرمان المدينة من النشاطات الثقافية وغيرها من التدابير المتخلفة الأخرى لا يعني بأي حال من الأحوال إلاّ فرض حالة من الركود على الحياة الروحية والإبداعية في المجتمع، وتحويل البصرة إلى مدينة راكدة وميتة وبلا روح. إنهم يمنعون كل شىء يشيع الحياة والأمل والمرح والبسمة، عدا ما يزرع اليأس والرعب والعنف عن طريق تنظيم مشاهد اللطم والزناجيل والبكائيات التي لا طائل منها في علاج أمراض العراق الخطيرة، بل تزيدها تعقيداً وعمقاً. إنهم بذلك سيحرمون الشبيبة على وجه الخصوص من التعبير عن طاقاتهم وابداعاتهم ورميهم لقمة سائغة على طريق الانحراف الاجتماعي، ليتحولوا إلى أدوات طيعة بيد الملثمين الإرهابيين والميليشيات كي يقوموا بالتفخيخ وتجنيد الانتحاريات والانتحاريين، كما نشهده منذ سنوات في المشهد العراقي البائس. وللغرابة وفي ظل هذه القرارات الغريبة، لا يكف المسؤولون في محافظة البصرة عن ترديد مقولات كاذبة حول تنشيط السياحة في المدينة وتحويلها إلى مدينة سياحية أو عاصمة للثقافة!!. أية ثقافة يريدونها وهم يصدرون القرار تلو القرار بمنع أي نشاط إبداعي في المدينة، هذه المدينة التي كانت فينيسيا الشرق وحاضرة العراق المبدعة والمنتجة والتي تحولت الآن إلى ضيعة للمتخلفين والجهلة.
لو كان هؤلاء المسؤولين يتمتعون بالقدر اليسير من الحمية الوطنية والحرص على تاريخ العراق وثقافته، والحرص على الميراث التاريخي لحاضرة الفراهيدي لقاموا بتنظيف شوارع البصرة من الأوساخ وهم الذين يرددون المقولة الدينية “النظافة من الإيمان” دون تطبيقها. كما كان عليهم إصدار قرارات بعلاج المياه الآسنة وتصليح مجاري المدينة وحل مشكلة الكهرباء وإعادة تشغيل المصانع العملاقة لمدينة البصرة والتفكير بتوفير الخدمات التعليمية والعامة والصحية للمدينة، وحل مشكلة العاطلين عن العمل بدلاً من قرارات قراقوشية تشيع التخلف والجهل واليأس لدى أهالي المدينة.
إن على الرأي العام العراقي والأحزاب الوطنية والحكومة المركزية، و الأحزاب الدينية بالذات، التي ينتمي إليها بعض هؤلاء المسؤولين في البصرة أو بغداد وواسط، أن يلتزموا بما وعدوا العراقيين به خلال الانتخابات الأخيرة والسابقة، والقيام بلجم هذه الموجة الصفراء في محافظة البصرة وغيرها والتي ينفذها أعضاء في أحزابهم كي لا ينزلق العراق من جديد إلى دائرة الفوضى والطائفية والجهل الذي عمّ قبل صولة الفرسان، والتخلي عن هدر الوقت والعبث والبدء بحملة جدية لإعمار المحافظة الغنية بثراوتها، واتخاذ إجراءات تحمي الحقوق الفردية وحقوق المبدعين والمرأة العراقية من تطاولات عناصر التخلف والردة فيها.
adelmhaba@yahoo.co.uk
كاتب عراقي