تكلم وليد جنبلاط عن مثقفين شيعة في غير خط «حزب الله» وسمى بعضهم، أما السيد نصر الله فوجد هذا مفيداً لتقليل الصورة الشيعية لـ«حزب الله». أقلام مشايعة لـ«حزب الله» حاسبت هؤلاء المثقفين على تسمية نحلهم إياها سواهم، واتهمت هؤلاء بالبُعد عن منابعهم الشيعية والجهل بالتاريخي الشيعي في لبنان واندراجهم في ثقافة كولونيالية. كل ذلك لم يجد جواباً من هؤلاء، لأنهم استشعروا أن ثمة قضية تفتح باسمهم هم في غنى عنها ولا دخل لهم فيها. لم يسم أي من هؤلاء نفسه، وهم فرادى ولم يجتمعوا قط في كتلة أو جبهة، مثقفاً شيعياً لا في أوله ولا آخرته، وليس عليه أن يدافع عن اسم لم ينتحله ولم يتسم به. لم يخطر لأي من هؤلاء أنه مثقف شيعي ولم يكن هذا في منطلقاته ولا مساره، ولم يندرج في بحثه وتحليله ولم يكن له أي معادل في منهجه أو أطروحته ولم يشكل له غرضا ولا خطة ولا هدفا. ثم ان مسألة كهذه لا تخص هؤلاء وإنما تخص المجتمع اللبناني والسياسة في لبنان التي تجر الناس بالقهر والتعسف الى منابتهم الطائفية، وتحاسبهم بالمواربة أو المباشرة على ولادتهم، وتأبى أن تعفيهم من دمغها مهما كان أمرهم. وإذا وجدتهم خارجين عليها أو متعارضين معها اعتبرت ذلك انتماءً مقلوباً. فكأن الواحد لا يهم عمله مهما كان بقدر ما تهم بطاقة هويته. وكأن الناس مهما تحولوا واختطوا لأنفسهم وساسوها لا يزالون مشدودين الى أوتاد ولادتهم. ليس هذا مختلفا في المفهوم عن المحاسبة على الهوية أو الوقوف عندها. فكأننا في لحظة كهذه لسنا سوى ميسم ولادتنا.
لم يجب أي من هؤلاء. لقد استشعروا من غير اتفاق أن الأمر ركيك للغاية. وأن بؤس الواقع ورثاثته لا يجبران أحدا. أيا كان. على أن يعود أدراجه على تاريخه كله وسيرته كلها، وأن يساير الآخرين في التراجع الى اللحظة الصفر من حياته. ثم ان هؤلاء لم يشاركوا في لقاء مسمى شيعياً أو لقاء شيعي مسمى وطنياً أو لبنانياً. واستمروا في عملهم كتاباً وباحثين ولم يلتفتوا الى أمر آخر. لم يظنوا أنهم يحتاجون الى نفي أو إثبات لمن لم يعرفوهم في يوم، ولم يهتموا بما صنعوه أو فعلوه، وما كانوا دروا بهم لولا أن أسماءهم دارت في أفواه من لم يكترثوا بهم إلا كأسماء. لم ينفوا أو يثبتوا لا عن غضب ولا عن غيظ ولكن لأن هذا شأنهم منذ كانوا، وقد قطعوا شطراً فيه، وليس من داع للنظر الى الخلف.
بعض من أقام من المسألة محاكمة جاهلة خطر له أنهم «خواجات»، وأنهم لم يتبركوا بتراثنا الشريف ولا اغتسلت نفوسهم بمائه الطهور. وأنهم لا يعرفون تاريخ آبائهم وأجدادهم لفرط كولونياليتهم. ليس أكثر كولونيالية من لا يملكون من دنياهم إلا الكليشيه الكولونيالي. ولو كان القائل بذلك اطلع على ما كتبه وضاح شرارة وأحمد بيضون ووجيه كوثراني على الأقل لكان درى أن هؤلاء تبحروا في التراث الشيعي والإسلامي. ولم يغوصوا فيه فحسب ولكنهم أعادوا بناءه واشتغلوا عليه كما يشتغل الباحث والمؤرخ، لا كما يشتغل المحرض والداعي والببغاء العقائدي.
ليس أكثر مشروعية في وضعنا الراهن من جنوح نخب لبنانية الى التجمع والعمل خارج الاستقطاب الثنائي الحديدي لـ8 و14 آذار. لكنها مشروعية وبداهة لا يجد أن لها تسهيلاً من الواقع. إذ لا نعرف إذ كان ممكنا الفرار من فكي الملزمة والخروج الى طريق ثالث. لا نعرف متى يغدو «الطريق الثالث» ظهيرا خلفيا لأحد الطريقين. أو متى لا يكون الطريق الثالث سوى أحلام ما بعد معركة لم تقع بعد وغالبا للهرب منها.
والسؤال هل ينبغي لهؤلاء المثقفين المسمين شيعة أن يتكتلوا في هامش سياسي، داخل الطائفة التي انشقوا عنها. هل يكفي احتكار طرف او اثنين للكلام باسم طائفة سببا لقيام مثقفين، لم يكن الكلام باسم الطائفة همهم في يوم، بالكلام نيابة عن أقلية في الطائفة والتجمع باسمها. أليست هذه عودة مقلوبة الى الطائفة، وارتكاسا الى ولادة وطفولة جرت مغادرتهما منذ سنين، واختُط مسار كامل في الحياة والفكر بعيدا عنهما، وبني أثر كامل في غيابهما. وهل يمكن لهؤلاء المثقفين أن يعودوا أدراجهم على حياة كاملة، وأن يرموا بأيديهم كل ما أنجز وصنع، ليحتفظوا فقط بحبل السرة المتطوع وبالبذرة الرحمية التي تفلتوا منها منذ البداية حين صنعوا ما صنعوا ضد خرافة الدم والنسب والأصل.
عملت ظروف خاصة في البلد والجماعة الشيعية على انعتاق هؤلاء المثقفين المسمين شيعة من موقع الجماعة مباشرة أو مواربة. ومن بعيد أو قريب. لقد كان طلاقا بائنا وتم بسهولة أو صعوبة، بألم أو بيسر، لكنه تم. ولم يكن هذا الطلاق حدثا بالنسبة لهم فحسب بل كان حدثا في الثقافة اللبنانية أيضا. لقد كان هذا الانشقاق جزءا فاعلا للغاية في انعطاف للثقافة اللبنانية، من الشرقطة والطوبى والبطولة الشخصية الى الحفريات الميدانية والتحتية والتحليلية. بدأ هذا على مشارف الحرب عبر تحول الى اليسار الراديكالي وانتهى في احتدام الحرب وما بعدها الى مسارات مختلفة في الاتجاه الحفري نفسه. هذا الانعطاف أعاد لبنان الفكرة والطوبى، تحت تهديد الحرب، واقعا وحقيقة. واقعا وحقيقة لكل اللبنانيين. إذا كان لبنان الشرقطة للأنبياء والدعاة والأبطال فإن لبنان الواقع والحقيقة، بدون وهرته الأولى، للجميع. لم يكن صنيع هؤلاء المثقفين وزملائهم عبثا لتمكن العودة عنه الى بداية مفترضة. لقد كان إنجازا أساسيا وتأسيسيا لا لثقافة البلد فحسب ولكن لمستقبله. إن العودة عنه يأس من الثقافة ومن البلد، إن جازا فستكون عاقبتهما الانتحار، لا العودة الى حضن الجماعة ولو على نحو مقلوب.
لا ننسى أن هؤلاء المثقفين المسمين شيعة، ولظروف خاصة بالجماعة والبلد، قطعوا الجسور بل قطعت معهم الجسور. لم يكن في بنيان الجماعة مكان لمثقف غريب منفرد. هكذا تعلموا منذ البداية أن يكونوا أنفسهم فحسب، لقد فرضت عليهم وحدة مع أفكارهم وذواتهم وأشباههم. لم يعقب ذلك بالضرورة حزنا أو وحشة فقد كان الزمن يومذاك مفتوحا لكل المغامرات، وكان ثمة سعادة في هذه الوحدة لا نستطيع أن نتصورها الآن. مع ذلك ومهما كانت كاريكاتورية هذا الانفراد ومبالغته فقد كان مثالا لنزاهة واستقلال كبيرين. لقد ابتعد هؤلاء بشكل شبه جسدي عن العائلات والزعماء والنافذين ورجال الدين، لا في جماعتهم فحسب، بل في كل الجماعات، وفي بلد لا يتم فيه شيء إلا عبر شبكات من هؤلاء. لقد ابتعدوا ونجحوا مع ذلك في أن يبقوا وأن يعيشوا. لقد قدموا هكذا نموذجا طوباويا للمثقف لكنه ليس أجوف ولا فارغا. وإذا حلا لبعضهم أن ينتقده أو ينتقد تقواه الساذجة إلا أنه عمليا لم يعد عنه. وأيا كان هذا النموذج فإنه مثل لمواطن حر ومستقبلي، إنها مغامرة تساوي حياتنا، فيمكننا إنكارها ليكون لنا صوت في الجماعة، مع أن هذه المغامرة تعطى أصحابها ذلك الصوت الصالح في البرية والذي مهما كانت عواقبه فسيبقى صائحا في براري المستقبل.
لذا أجد صعبا دعوة هؤلاء الى الانسحاب، الى مقايضة كل مغامرة حياتهم بتأثير رمزي غير مؤكد. لا بد أن من حق غير المنتمين الى الحلف الشيعي أن يكون لهم صوت. وهم سيجدونه بالطبع في أنفسهم ولن يجعل انضمام هؤلاء المثقفين هذا الصوت أعلى وأرجح ان مساهمتهم حتى في هذا الجمع ستكون ثانوية وضائعة. وقد لاحظت ذلك في صور اللقاء الشيعي (الانتماء اللبناني). إن الزعامات السابقة على الحلف زائد المنتمين الى زعامات أخرى خارج الحلف الشيعي زائد المستقلين الطامحين الى ممارسة سياسية، هؤلاء تكفيهم أنفسهم وأصواتهم الخاصة ويكفيهم حضورهم، أما المثقفون المولودون شيعة فيكفيهم أن يواصلوا، بشجاعة، إنجازهم النقدي للبنان ولجميع اللبنانيين، ونموذجهم المستقل والحر.
(السفير)