إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
لم اكن الشاهد الوحيد الذي نجا من تلك المجزرة..
روى لي صديقي قصته، ودائما نحن اهل اهل حماه نرتكز في تعارفنا على تلك الركيزة التي اصبحت جزءا من تاريخنا ولا بد من التكلم على هذا الجانب كنوع من تقارب الافكار وتوحد الاحلام وتقاسم الآلام.
في حي “سوق الشجرة”، او “سوق السجرة” كما نقول له نحن بحماه، استيقظنا على اصوات المآذن تعلي كلمة “الله اكبر” حتى ايقظت خلايانا، مترافقة بطلقات من الرصاص. خرجنا مسرعين الى الشارع. الناس تملأ المكان والمؤذن ينادي حيّ على الجهاد، وهذا ليس بصوته المعتاد، لنتكتشف انها خدعة من القتلة ليجرونا الى ما نقوى عليه! تم محاصرة الحي من جميع الجهات وبعدها بدأ القصف العشوائي. آه يا “سوق السجرة”، ذلك الحي الجميل. حالة من الاربتاك العنيف تسيطر على الجميع، واصوات السكان تنادي بعضها واصوات الانفجارات المتقطعة تنظم صوت الرصاص ولم اسمع هذا الالم الا هناك.
بدأ انقاذا الجرحى بما تيسر في اللحظات الاولى لعملية القتل المحتم علينا. اؤكد اننا كنا خائفين، ولكن بعد ساعات اعلنا انفسنا. لم يتبقى لنا الا انفسنا والله قبلنا لندافع عن كل شيء. الامر الغريب انني اصبحت كما يجب ان اكون، لم تخفنا دباباتهم ولم يتجرؤوا على الدخول الى الحي، علما انهم كانوا باعداد كبيرة جدا لدرجة ان احدهم اذا رفع بندقيته سوف يصيب من بجانبه. تمركزت الدبابات عند حارة الجسر وشارع 8 اذار الذين سنغير اسمه لاحقا، وفي شارع المغيلة وفي المحطة بجانب مسجد الشيخ محمد الحامد وعند نزلة السبسبي جاء بعض الشباب بعصي وسكاكين واسلحة صيد للدفاع عن الحي الجميل.
متاريس وحجارة واخشاب وكل ما يمكن الدفاع به عن النفس، وخلال اربعة ايام لم يستطع جنود الوحدات الخاصة الدخول لحيّنا واكتفوا بالقصف العنيف… واشتد القصف من الشوارع المؤدية الى سوق السجرة واكثرها شارع 8 اذار وهنا رمزية الكلمة المريرة.
الناس حاولوا التصدي للدبابات بصدور عارية وكانوا يتسابقون الى الشهادة ويحملون “المولوتوف”. اشتهد الكثير من رفاقي وكنا نتسلل عبر الازقة الى شارع 8 اذار ويصعد اشجعنا الى برج الدبابة ويرمي المولوتوف داخل الدبابة وهذا يؤدي الى احتراقها وتتصاعد التكبيرات منا ونحن معزولين عن العالم الخارجي. وتقاسمنا الطعام والماء والدواء وكل شيء حتى الاباء وابينا جميعا الاستكانة وان ننحني امام هؤلاء القتلة… كنا نشعر بامان اكبر واكثر قبل مجيء الجيش والامن والشرطة وصورتهم ماثلة امامي وامام الجميع انهم غزاة لايفهمون اننا اخوة…..
في اليوم الخامس او السادس بعد القصف العنيف، يتمركز الجيش عند مدخل حارة الجسر وسوق السجرة. بدات عناصر الجيش للدخول للحي وبدأ العقاب. ومخبر الحي طارق، وما زال مخبرا الى الان، بعض الشباب الصغار السن كنوع من ردة الفعل المباشرة بعلمهم به وقبل دخول الجيش، ضربوه وتدخل وجهاء الحي وانقذوه وعفوا عنه وطلبوا منه ان يجلس في بيته فقط. والمفاجىء او غير المفاجىء ان هذا الشخص الذليل عندما دخل الجيش للحي خرج مرة اخرى وانتقم من الجميع واخبر الشبيحة باسماء حتى الذين خلصوه بانهم من حاولو الدفاع عن الحي…
كانت امي تطعم الجميع من الشباب الذين قرروا الدفاع عن الحي ووقفوا في وجه القتلة.
“الحاجة” تخرج الطعام وهي التي ارسلت اولادها وارسلت كل شيء للوقوف في وجه الطغاة. واتذكر انني كنت داخل المنزل دخلت “الحاجة” وهي تبكي وسارعنا بالسؤال واخبرتنا ان احد الشباب اعطته تفاحة ليأكلها ثم عادت وجدته قد استشهد والتفاحة في يده ولم يأكلها بعد، وكانها تفاحة ادم التي ستعيده الى الجنة.
بعد العصر والبيوت شبه مهدمة وسقوط الجرحى والقتلى لا ينتهي…
دخل الجيش مثل الكلاب المسعورة وقذيفة سقطت امام باب بيتنا وحفرت حفرة كبيرة في الارض ولم تنفجر ولكن ادى ذلك الى عدم قدرتنا على فتح الباب الحديدي وذلك بفعل القذيفة. حاول الجنود القتلة فتح الباب ولم يستطيعوا نتيجة التصدع، تهديد وسباب وهددوا بتفجير البيت واخير فتح الباب ولا اعرف كيف ودخل 12 جندي (حماة الديار) اخرجوا كل رجال البيت والحي الذي اعمارهم بين 17 و50 وقالو لنا البطاقة الشخصية بيدك اليمين واليسار على الرأس والشتائم تزداد اكثر واكثر والنساء تبكي وتقرأ سورة ياسين.
في الشارع، بدأ الضرب من كل مكان واين ما كان. وبعدها طلبوا منا ان نكشف عن كتفنا الايمن ليروا علامات ارتداد السلاح على اكتافنا. وصادروا ممتلكاتنا الشخصية، ساعات وخواتم وكل ما نحمل في جيوبنا ووضعوها في طناجر كبيرة واخبرونا اننا الى الاعدام رشا بالرصاص. وصلنا الى بيت طارق وايدينا خلف رؤوسنا. جلسنا القرفصاء وامرونا بالهتاف مثل “ربك حافظ” وتم الرفض من البعض. ادى ذلك الى تضاعف العقاب وبصدفة بجانب بيت طارق كان رجلا ملثم من القتلة عرف اخي وكان مساعدا بالمخابرات وقال له انا اعرفك وانقذني انا واخي من القتل. ولا اريد الان ان افصح عنه الان، ولكن هذا لا يعني انه ليس مجرما ربما القدر تدخل حينها.
بعد فترة زمنية وضرب واهانات امر هذا الرجل من المخابرات النقيب من الجيش ان يعيدنا الى البيت. ونحن عائدون الى منزلنا مرة اخرى نرى طارق ويقول للامن “هذا ضربني وهذا سبّني”، ولكن عنصر الامن لم يكترث لطارق المخبر وطلبوا منا اخذ اغراضنا الشخصية من الطنجرة واعطونا الهويات الشخصية وعدنا الى البيت. وبعد ربع ساعة او نصف ساعة، لان الزمن بتلك الفترة ليس مثل ما عهدناه فقد تغير حسب الحالة النفسية، سمعنا صوت رصاص مكتوم وبعدها دوى انفجار كبير هز الحارة كلها. صعدت الى الطابق العلوي لاكتشف ما يحصل في الحارة، وكان الغبار والبارود يغطى الدرج تماما. نظرت من وراء الشباك رأيت الدماء تسيل من تحت الباب المقابل لبيتنا. لقد وضعوا داخل الغرفة الخارجية من ذلك البيت اعدادا كبيرة. في تلك الغرفة، كان العدد يقارب الخمسة واربعون، انسان وفجروا الغرفة بهم…..
اخبرت اخي الاكبر وطلب مني عدم اخبار “الحاجة” بهذا الشيء حتى لا يتسلل الخوف اليها وهي التي علمتنا الشجاعة. واستمر اخراجنا وتهديدنا كل يوم، مرتين من الشبيحة والجيش المهان، واطلاق الرصاص من حولنا دائما للتخويف، وسباب لا ينتهي بأقذر الالفاظ. دام هذا الألم سبعة عشر يوما ونحن معزولون عن باقي المدينة. لا اكل ولاماء ولا كهرباء، وتقاسم من تبقى حيا في حينا عبر الشبابيك وعبر الاسطحة ما توفر من طعام وحتى الماء. كانت حياة تقاوم الموت المحتم كل ثانية. لم نشعر للحظة اننا آمنون. وضمن الكثافة العددية للجنود والشبيحة، وقع انشقاق من بعض الجنود الشرفاء بالدبابات ولكن تم قصفهم مباشرة بالطائرات الحوامة وتم اخماد الانشقاق. لا ندري كيف نصحو من هذا الكابوس وكانت الاتصالات مقطوعة تماما، ولكن بالصدفة علمنا ان في احد المنازل على اطراف الحي يوجد تلفون ما زال يعمل وذلك بشارع الزهراء. ذهبت زوجة اخي واتصلت بإمها وكانت المفاجأة: الام لم تصدق ان احدا ما زال حيا في “سوق السجرة”. طلبت المساعدة من امها التي لم تستجب بالمرة الاولى، وبعدها اتصلت بقريب لهم بدمشق. كان ضابطا وجاء مع عناصره الى الحي لاخراجنا من حمام الدم ولعبة القتل الوشيك.
لم يتجرأ الضابط مع عناصره على الدخول الى الحي المهدم، ورفض عناصره الدخول ايضا. الجثث بكل مكان ورائحة الدم تصفع الادمغة. اتصلوا بنا عبر التلفون، وقالت الام لابنتها “انت تهزأين منا الجميع هناك فارق الحياة:، وطلبت منا الخروج الى خارج الحي. خرجنا جميعا ورفضت الحاجة الخروج من هناك واجبرتنا على الخروج، وقالت “سأبقى مع الاخرين الذين لم يخرجوا اذهبوا ولا تعودوا فهنا من بقي من نساء واطفال هم بحاجتي اكثر منكم”. وكان اجدى بنا المغادرة السريعة. وصلنا الى الضابط وجنوده وركبنا احدى السيارات المرافقة له وخرجنا من المدينة المستباحة. وعبر الطريق، رأيت الجثث تملأ الشوارع والخراب التام لحق بالمدينة. وهذا ما شاهدته بطريق الخروج على الاقل. وعند اجتيازنا الطوق العسكري والامني لم نستطع المرور بالسيارة الى ان ازاحوا مدفعين من المدافع التي احاطت بدائرة حول المدينة.
رأيت خيما على جانبي الطريق بكثافة لا اتخيلها الى الان. وعندها غمرتني فرحة لم تدم الا لحظات. اعتقدت ان اهل المدينة بخير وقد تم ايواؤهم بالخيام، ولكن اخبرني من معي بالسيارة ان الخيام تحتوي على الغنائم من المدينة المسلوبة من برادات وغسالات…الخ… ما تم سرقته من بيوتنا! يا لها من صفعة افقدتني عقلي. وصلنا الى دمشق وبقيت هناك عشرين يوما، وبعدها من دون علم احد عدت الى حماه بالباص الذي انزلني بداخل ساحة العاصي. تجولت بالمدينة: الدمار لا يوصف والحرائق التي خمدت من نفسها ربما، واغرب شيء رائحة كريهة سيطرت على المكان ليخبرني البعض انها رائحة الاجساد التي تم حرقها من القتلة وتجولت وتجولت…
وهناك بشارع ابن رشد تم حريق الناس بالاقبية بعد اجراء تجارب السيانيد عليهم وحرقهم الى الان، وما زال ذلك مستمرا بادمغتنا.
يتبع
لا حليب لأطفال درعا وحماه: عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماه (7)
لم تكن يوماً فارساً يا “باسل” وما هكذا تكون الفروسية: عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماه (6)
أبي الذي قُلِعَت عيناه ورُمي لأنه طبيب: عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماه (5)