برع باراك أوباما وفرنسوا هولاند في إخراج تقاربهما، خلال زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي إلى الولايات المتحدة الأميركية هذا الأسبوع، لكن هذا التناغم الظاهري والسعي إلى تنظيم الشراكة لا يخفي نقاط عدم الاتفاق أو العلاقة غير المتوازنة في الغالب.
إزاء تزايد الأعباء على مسارح الأزمات من سوريا إلى مالي، نشهد تراجعا أميركيا نسبيا في مجال السياسة الخارجية، ويقابل ذلك قيام باريس بتحمل قسطها من العبء والمسؤولية في أفريقيا والساحل خصوصاً. من هنا بادر أوباما المكتفي بالحد الأدنى من الالتزام الأميركي المباشر في النزاعات إلى ردم الهوة مع فرنسا بعد التباينات العلنية والخفية حول قضايا التنصّت والملفين السوري والإيراني وكذلك الاتفاق التجاري للتبادل الحر بين ضفتي الأطلسي.
إن أكثر ما لفت الأنظار خلال الزيارة هو تركيز العديد من وسائل الإعلام الأميركية على حلول فرنسا مكان بريطانيا، كأول حليف أوروبي لواشنطن وقارن البعض الثنائي بوش – بلير مع الثنائي أوباما – هولاند. ومع أن هذه المقاربة متسرعة لأن الرابط الأنجلو- سكسوني بين واشنطن ولندن هو رابط أخوي الطابع ومتين، لكن تحمل فرنسا لمسؤولياتها في منطقة نفوذها وحيويتها الدبلوماسية، انتزعت تقدير الرئيس الأميركي لنظيره الفرنسي كشريك موثوق.
في حقيقة الأمر يحصد هولاند ما زرعه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي أعاد فرنسا إلى القيادة الموحدة لحلف شمال الأطلسي في 2009، مما وضع حدا للتنافر الفرنسي – الأميركي خلال الحقبة الديغولية المتميّزة بالاستقلالية الفرنسية النسبية.
إنها مرحلة جديدة في تاريخ علاقة طويلة بين الطرفين تربو لأكثر من قرنين بين “الديك الفرنسي” (الديك رمز فرنسا التقليدي وغير الرسمي بسبب رفض نابليون جعله شعارا لإمبراطورية مثل فرنسا حينها) و”النسر الأميركي” (رمز السيادة الذي يوجد في وسط الشعار الرسمي).. وفيما يتعدى الرموز وتعرجات التاريخ، يقول كاتب بريطاني حرفيا: “لولا فرنسا لربما كان جورج واشنطن مجرد اسم اليوم يعرفه طلاب التاريخ المتحمسون فقط”.
ففي عام 1778، عقدت أمة وليدة تدعى الولايات المتحدة الأميركية أول تحالف خارجي لها مع فرنسا، وهو ما اعتبره العديد من الخبراء نقطة تحول في مسار حربها من أجل الاستقلال مع بريطانيا. وقال غريغوري أوروين، أستاذ التاريخ بجامعة تمبل في فيلادلفيا: “كان هذا أول تحالف رسمي للولايات المتحدة، وكانت هذه معاهدة للتحالف وللصداقة أيضا، وهي التي ربما صنعت الفرق بين النصر والهزيمة”.
وارتبط اسم الماركيز دو لافاييت (الشاب الفرنسي المثالي الذي التحق بالأميركان حتى قبل أن تشارك بلاده في هذه الحرب) بالاستقلال الأميركي، وأيضاً كان تمثال الحرية في نيويورك هدية من “الشعب الفرنسي” عام 1886.
وفي القرن العشرين سدّدت الولايات المتحدة هذا الدين وأنقذت فرنسا مرتين خلال الحربين العالميتين وأسهمت بعد تردد في إبقاء فرنسا ديغول ضمن نادي الخمسة الكبار.
يفصلنا عقد من الزمن عن حرب العراق والعلاقات الفرنسية الأميركية المضطربة آنذاك والتي كادت تصل إلى القطيعة، والآن يتبيّن بعد زيارة هولاند أن هذه العلاقات الفرنسية الأميركية تعرف أزهى أيامها منذ فترة طويلة، فالدولتان تتقاسمان وجهات النظر ذاتها حول جميع القضايا الهامة، وتكاد تعزفان على نفس الأوتار في قوس الأزمات، وساعدت “الكيمياء الشخصية” في تسهيل التفاهم واستعادة الثقة بين هولاند وأوباما، لكن المراقب المتمعن يتضح له أن هولاند، يتحرك تحت السقف الأميركي ونشاطه في منطقة الساحل تحت عنوان مكافحة الإرهاب، وتشدّده في الملفين السوري والإيراني يخدم في النهاية الأهداف الأميركية الاستراتيجية.
إن هذه القراءة تبرز حاجة كل طرف إلى الآخر في المنظومة الغربية التي تفقد موقعها المركزي المهيمن في اللعبة الدولية، ولا يوجد عند واشنطن العديد من الحلفاء مثل فرنسا المستعدة لاستخدام إمكانياتها العسكرية (حتى لو كانت واهنة بالقياس لضخامة الإمكانيات الأميركية).
حسب مصدر فرنسي رافق الزيارة الرئاسية، توصل أوباما وهولاند إلى تنسيق التكتيكات المشتركة في أكثر من ملف، وتوافقا على العمل لمنع تحريف مسار جنيف 2 حول سوريا وزيادة الضغط على روسيا كي تلعب دورا إيجابيا للقبول ببدء المرحلة الانتقالية. وهذا الاتفاق المبدئي سيخضع لاختبار الصدقية في الأسابيع المقبلة ويتزامن مع تمرين دبلوماسي آخر في غاية الأهمية وهو التفاوض مع إيران حول الاتفاق النهائي في الملف النووي.
بالفعل، تتقاسم واشنطن وباريس نفس الأهداف النهائية أي التوصل إلى حل سياسي متوازن في سوريا والتأكد من إنهاء الجانب العسكري للبرنامج النووي الإيراني. بيد أن تجارب الماضي القريب أظهرت حذرا في المقاربات نتيجة استنكاف واشنطن عن العمل العسكري كما حصل خلال شهر سبتمبر 2013 في مسألة الأسلحة الكيميائية السورية، أو بخصوص المفاوضات الخلفية مع طهران.
إزاء التحولات العميقة في النظام الدولي، لا تزال فرنسا من القوى الفاعلة في عالم اليوم وخاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا. وربما أعفتها تعقيدات أزمات المشرق من بعض مسؤولياتها التاريخية المرتبطة باتفاقية “سايكس- بيكو” ومحطات أخرى. لكن التاريخ المعاصر قلّص الموقع الفرنسي ومن دون العمل مع الأوروبيين والقوى الإقليمية وتحت غطاء أميركي، لا يمكن للدور الفرنسي أن يكون فاعلا.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
khattarwahid@yahoo.fr
العرب