تم نشر الطبعة الأولى من كتاب نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” في عام 1995 عن مكتبة مصر، وصدرت طبعة أخرى عام 2007 عن دار الشروق.
وهذا الكتاب ليس رواية أو قصة قصيرة أو مقالات، ولكنها عبارة عن مجموعة خواطر يكتب فيها نجيب محفوظ عصارة تجاربه في الحياة، وهو كتاب مليء بالحكم بطريقة شعرية صوفية جميلة. ومن أبرز ما في هذا الكتاب شخصية الشيخ “عبد ربه التائه”، وعن بداية تعرفه بالشيخ “عبد ربه التائه” يقول في الصفحة رقم 31 من هذا الكتيب الصغير (58 صفحة):
“كان أول ظهور للشيخ “عبد ربه التائه” في حيّنا حين سُمع وهو ينادي: “ولد تائه يا أولاد الحلال”.
ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال:
“فقدته منذ أكثر من سبعين عاما فغابت عني جميع أوصافه.”
فعرف بـ”عبد ربه التائه”، وكنا نلقاه في الطريق والمقهى والكهف، وفي كهف الصحراء يجتمع بالأصحاب حيث ترمي بهم فرحة المناجاة في غيبوبة النشوات، فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى وأن يسمى كهفهم الخمّارة.
ومنذ عرفته دوامت على لقائه ما وسعني الوقت وأذن لي الفراغ، وإن في صحبته مسرة وفي كلامه متعة، وإن استعصى على العقل أحيانا.
…
وفي خلال الصفحات الـ 25 بعد ذلك يتحدث نجيب محفوظ عن “عبد ربه التائه” وما تعلمه في حياته الطويلة، وما أكثر ما جذبني في أحاديث “عبد ربه التائه” وحكمته هو بحثه الدائم عن الحب! فتحت عنوان (سؤال عن الدنيا) يقول نجيب محفوظ:
“سألت الشيخ عبد ربه عما يقال عن حبه النساء والطعام والشعر والمعرفة والغناء، فأجاب جادا:
– هذا من فضل الملك الوهاب
فأشرت إلى ذم الأولياء للدنيا فقال:
-إنهم يذمون ما ران عليها من فساد.
…
وفي إشارة نادرة في الكتاب إلى السياسة، يقول نجيب محفوظ:
سألت الشيخ “عبد ربه التائه”:
– متى تصلح حالة البلد؟
فأجاب:
– عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة.
…
وتحت عنوان (“الواعظة“):
قال الشيخ “عبد ربه التائه”:
اعترضتني في السوق امرأة آية في الجمال، وسألتني:
– هل أعظك أيها الواعظ؟
فقلت بثقة:
– أهلا بما تقولين.
فقالت:
– لا تعرض عني فتندم مدى العمر على ضياع النعمة الكبرى.
…
وتحت عنوان (دعاء) يقول نجيب محفوظ:
أصابتني وعكة فزارني الشيخ “عبد ربه التائه” ورقاني ودعا لي قائلا:
– اللهم مٌنَّ عليه بحسن الختام، وهو العشق.
…
وتحت عنوان (المطارد) يقول نجيب محفوظ:
قال الشيخ “عبد ربه التائه”:
هو يطاردني من المهد إلى اللحد، ذلك هو الحب.
…
ويعيد تكرار ذلك تحت عنوان (السر)
ولم يكن الشيخ “عبد ربه التائه”ه يخفي ولعه بالنساء وفي ذلك قال: الحب مفتاح أسرار الوجود.
…
ويقول نجيب محفوظ عن قصر الحياة تحت عنوان (السرعة):
قال الشيخ “عبد ربه التائه”:
ما نكاد نفرغ من إعداد المنزل حتى يترامى إلينا لحن الرحيل.
…
تحت عنوان (خفقة):
قال الشيخ “عبد ربه التائه”:
خفقة واحدة من قلب عاشق جديرة بطرد مائة من رواسب الأحزان.
…
تحت عنوان (الحب والحبيبة):
قال الشيخ “عبد ربه التائه”:
قد تغيب الحبيبة عن الوجود أما الحب فلا يغيب.
…
وواضح أن الشيخ “عبد ربه التائه” هو نجيب محفوظ، وبالرغم من حياته العامرة إلا أنه كان يعتبر نفسه شيخا تائها، ويبدو أن هذا هو مصيرنا كلنا، ولكنه رغم ذلك اهتدى إلى أن الحب هو سر الوجود.
لقد قرأت كتاب (أصداء السيرة الذاتية) مرات عديدة، ولكني لم اشبع من هذا الكتاب، بالرغم من المباشرة أحيانا في الكتابة الواعظة، إلا أن أسلوب الكتابة الشعري يجعلك تستمع وكأنك تستمع إلى أغنية جميلة مرارا ومرارا.
مقال رائع، شكرا وبانتظار المزيد