أحيت تركيا رسمياً، وبمشاركة شعبية واسعة أمس السبت 15 يوليو، الذكرى السنوية الأولى للمحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها البلاد.
بعد مضي سنة لا تزالُ المحاولة الانقلابية مثار جدلٍ في البلاد بين الحزب الحاكم (“العدالة والتنمية”) وأنصاره ومواليه من جهة والجهات المعارضة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان من جهةٍ أخرى، وهذه الجهات تتقلص بشكل واضحٍ.
بعد مضي سنة، لا يزالُ هناكَ من يشكك في الانقلاب، ولا يريدُ تصديق رواية الرئيس التركي والرواية الرسمية. بالمقابل هناك كتلة واسعة في تركيا، وهي كتلة سياسية وإعلامية وشعبية وصلت ذرى غير مسبوقة في خطاب الكراهية وتخوين اللون الآخر في البلاد وخارجها.
يكفي في تركيا اليوم أن تنتقد الرئيس التركي لتنال قدراً كبيراً من الشتائم وحملات التخوين قبل أن يُصار إلى اعتقالك واتهامك لاحقاً بأكثر من تهمة، لعل أبرزها الموالاةُ لحركة رجل الدين التركي “فتح الله غولن”، الذي يراقبُ قلقاً من مقر إقامته في بنسلفانيا الأمريكية التحولات الصارخة في تركيا. ورغم أن الرجلُ ينتقدُ المحاولة الإنقلابية أيضاً، كما يفعل أردوغان وأركان نظامه، إلا أنه إلى الآن بعد سنة من وقوع المحاولة الفاشلة لا يزالُ يدفعُ الضريبة في داخل تركيا وخارجها. فهو خسر كل موطىء قدم له في تركيا، إذ أغلقت السلطات كل مؤسساته التعليمية وغير التعليمية، وألقت بكل شخص يشتبه في موالاته لحركة غولن في السجن, كما أن تهديدات السلطات التركية طالت أفراد الجاليات التركية المنتشرة في العالم. إذ أعلن برلمانيان دانماركيان، قبل فترة، عن وجود اسميهما على لوائح الأجهزة الأمنية التركية، ما قد يشكل خطراً عليهما في حال السفر إلى تركيا! (البرلمانيان الدانمركيان هما من أصول كردية من تركيا. والقضية هنا شغلت حيزا في الإعلام والبرلمان، وتم الاستفسار من السفير التركي في كوبنهاغن عن حقيقة وجود قوائم سوداء).
تركيا بعد 15 يوليو 2016 ليست كما قبله!
إذ تتحولُ البلادُ بشكل واضح وبإيقاعٍ سريعٍ إلى بلاد “الزعيم الأوحد والقائد المفدى” أردوغان، الذي يعمل بشكلٍ ممنهجٍ على استغلال أي حدث داخلي أو خارجي ليقدم نفسه كرمزٍ للكرامة التركية و”الماضي المجيد” في طبعته التركية، مسكوناً بهاجسِ إعادة الزمن العثماني إلى تركيا بعد عقود من حبسه على يد أتاتورك والعسكر في غرف الأرشيف وأقسام المتاحف التركية!
الباب الأوروبي
يبدو الأوروبيون مثل قالب الجليد، إذ يتعاطون مع تركيا بأعصاب باردة وديبلوماسية فائقة رغم حفلات الشتم اليومية التي ينظمها أردوغان وحزبه في تركيا، حيث تُنعَت أوروبا وبلدانها بشتى النعوت السالبة (فاشية، نازية، عنصرية، صليبيين.. إلخ).
بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى للمحاولة الانقلابية في تركيا نشرت صحيفة “بيلد آم سونتاغ” مقالاً لرئيس المفوضية الأوروبية “جان كلود يونكر”، ذكر أن أبواب الاتحاد الأوروبي سوف تبقى مفتوحة أمام تركيا رغم اختلاف الآراء والمواقف في مستويات عديدة بين الطرفين. كما أكد أن يد الاتحاد لا تزال ممدودة إلى تركيا, مطالباً تركيا بواجب الاعتراف باللون الأوروبي وتقدير القيم الأوروبية بشكل أقوى. لكن هذا الموقف الأوروبي الإيجابي معرض لتغير جذري ونهائي في حال إعادة تركيا تفعيل عقوبة الإعدام، حيث ذكر يونكر أن “باب الاتحاد الأوروبي سوف يغلق أمام عضوية تركيا في هذه الحالة”. يمثل كلام يونكر موقف دول الاتحاد الأوروبي إزاء النقاشات الجارية في تركيا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة حول إعادة تفعيل عقوبة الإعدام في القانون الجنائي التركي وإيقاعها على الضباط والآخرين المتورطين في تنفيذ المحاولة الانقلابية.
نموذج قتل عثماني
المحاولة الانقلابية الفاشلة في ذكراها السنوية الأولى رفعت خلال الأيام القليلة الماضية منسوب الذهنية الثأرية لدى قسم كبير من الأتراك. الذهنية إياها تبلغ درجة مُغرقة في الوحشية لدى الكاتب الصحفي التركي “مراد بارداكجي” الذي دعا في مقال له على الموقع الالكتروني “خبر تورك” إلى تطبيق عقوبة قتل عثمانية كانت معتمدة في القرن السابع عشر، حيث كان المتمردون على “الدولة العلية” يخضعون إلى محاكمة شكلية وسريعة, ويساقون إلى ساحة مرفأ “أودون كابي” قرب ساحة “أمين أونو” في اسطنبول، حيث تعلق أجسادهم ويتم خرقها بالكلاليب المعدنية ليموتوا ببطء وعذاب كبير على مرأى من الناس المحتشدين لرؤية فصل العقاب.
طبقت العقوبةُ في القرن السابع عشر على المتمرد “قره حيدر” (“حيدر الأسود”) ورفاقه الذين تمردوا على السلطنة في عهد السلطان مراد الرابع، ثم في عهد السلطان إبراهيم. ثم طبقت لاحقاً على ابنه “محمد حيدر أوغلو” الذي قاد تمرداً أكبر وأوسع ضد السلطنة انتقاماً لأبيه في عهد السلطان محمد الرابع.
دعوة الصحافي بارداكجي السلطات التركية إلى تطبيق عقوبة القتل بالكُلّاب تلقَى جذرها في امتعاضه من جلسات المحاكمة طويلة الأمد التي يخضع لها الانقلابيون! وبرأيه، فإن مثل هؤلاء لا يحتاجون إلى اي رحمة وشفقة أو تساهل أو الإجراءات المعمول بها في محاكم الدولة التركية في الوقت الحالي.
هل تركيا بخير؟
بعد فشل المحاولة الإنقلابية دخلت تركيا نفقاً مظلماً. إذ شنت السلطات حملة أمنية واسعة استهدفت أحزاب المعارضة الممثلة في برلمان البلاد. ونكلت بحرية التعبير عبر إغلاق 67 منبراً إعلامياً، وتوقيف نحو 146 كاتباً وصحفياً وأكاديمياً. وقد طالت الحملة أيضاً مؤخراً نشطاء معروفين في حقوق الإنسان بينهم مديرة مكتب “منظمة العفو الدولية” في تركيا. والمؤسف أن المؤسسة القضائية التركية فقدت استقلاليتها، وصارت متناغمة مع السلطة التنفيذية وأداة ضاربة بيدها.
فتح غولن وتلميذه رجب طيب إردوغان: من “انقلب” على الآخر؟
سيّانٌ إن كان الانقلاب مفاجئاً للرئيس التركي أردوغان أو كان انقلاباً “مُتحكماً فيه” ومداراً بعناية منذ لحظاته الأولى كما يرى بعض الكتاب والسياسيين الأتراك ( بينهم كمال كليجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري )! فالوقائع اللاحقةُ خلال سنة أثبتت أن الانقلاب كان هدية من السماء لأردوغان.
إذ كرس الرجل سلطته التنفيذية بشكل مطلق، وألحق كل مؤسسات ومفاصل البلاد بقصره معززاً ذلك بفرض حالة الطوارىء في البلاد. وبذلك يتم تجميد كل المواد الواردة في الاتفاقيات الدولية بشأن حقوق الإنسان, ما يسهل تغول السلطات الأمنية في البلاد ضد الحريات.
استهداف السلطات التركية بشكل واسع النطاق لحرية التعبير والحريات الصحافية كان دافعاً لهروب العشرات من الكتاب والصحفيين من تركيا إلى البلدان الأوروبية، بينهم رئيس تحرير صحيفة “جمهورييت”، “جان دوندار”. هذا الوضع الكارثي كان وراء تصنيف منظمة “مراسلون بلا حدود” لتركيا كبقعة سوداء على خارطة الحريات الصحافية في العالم إذ جاءت تركيا في المرتبة 151 بين 180 دولة.
تركيا ليست بخير أيضاً سياسياً وأمنياً, إذ أنها على علاقة سياسية قلقة مع روسيا، وأيضاً مع حلفائها في حلف الناتو. كما أن علاقتها مع واشنطن وبروكسل ليست على ما يرام. فلا أحد يأخذ بجدية التحفظات التركية على عدة ملفات، من بينها ملف “وحدات حماية الشعب” في سوريا والتي تتلقى شحنات سلاح امريكية رغم الاعتراض التركي المتكرر.
وإذا كانت أحد رغبات أردوغان المؤكدة هو أن يلعب دور “المرشد الأعلى السني” في الشرق الأوسط، فإن الكثير من الملفات المعقدة والشائكة في المنطقة لا تؤهل تركيا للعب مثل هكذا دور. فتركيا، ومنذ تفجر ثورات الربيع العربي، آثرت أن تلعب دور “المرشد الإخواني”، لا المرشد الإسلامي أو السني! وهذا ما لن تقبل العديد من دول المنطقة بتمريره (السعودية، مصر، الإمارات).
إحصاءات
على سبيل التذكير، فإن المحاولة الانقلابية التي شهدتها تركيا في ليل 15 يوليو 2016 كانت الخامسة في سجل الانقلابات العسكرية التي شهدتها البلاد منذ انقلاب العسكر على الرئيس “عدنان مندريس” في 1960. وقد أعلنت السلطات التركية ذكرى الانقلاب يوم عطلة رسمي في عموم البلاد وجرى الاحتفاء به في تركيا كيومٍ لـ” الديمقراطية والوحدة “، في بلاد تعاني انقساماً حاداً وتراجعاً مهولاً عن الديمقراطية الهشة التي كانت في البلاد.
المحاولة الانقلابية في 15 يوليو 2016 أسفرت عن 241 قتيلاً و2185 مصاباً في صفوف المدنيين والعسكر، فيما شهدت الأيام اللاحقة للانقلاب ،وبعد التأكد من إخماده، تسريح 3939 عسكرياً من الخدمة واعتقال 34259 مواطناً مشتبهاً فيهم وطرد 84494 موظفاً من الوظيفة، وهناك إلى الآن 162 عسكرياً فاراً.
وفقاً لإحصاءات نشرها أكثر من موقع تركي، فإن المشاركة في المحاولة الانقلابية كانت ضعيفة أو في حدها الأدنى. إذ شارك في المحاولة 8651 عسكريا (1,5 %من قوام الجيش التركي)، و35 طائرة بينها 24 طائرة مقاتلة (7% من القوة الجوية التركية، 37 مروحية عسكرية (8 %)، 246 مدرعة، 3 فرقاطات حربية. وقد استخدم الانقلابيون 3992 سلاحاً خفيفاً. فيما اقتصر ميدان المحاولة الانقلابية على المركزين المهمين في تركيا أنقرة واسطنبول.
mbismail2@gmail.com